بناء الدولة الرشيدة والمشروع الحضاري للحركة الإسلامية
بناء الدولة الرشيدة والمشروع الحضاري للحركة الإسلامية
رؤية تأصيلية على ضوء دروس الثورة السورية
د. لؤي عبد الباقي
الأمين العام لحركة الإصلاح والبناء (حصن)
المحاور الرئيسية:
1. مقدمة: الحركة الإسلامية ودروس الثورة السورية
2. العصر التأسيسي للدولة الإسلامية
3. تطور النظرية السياسية الإسلامية: الفصل بين السلطات الثلاث
4. تجربة التيارات الإسلامية مع الدولة القطرية المعاصرة
5. جماعة الإخوان المسلمين في سوريا: الأصالة والتجديد
6. صدمة الثورة السورية: حزب الإخوان لا يحمل فكر الإخوان!
7. التيار البديل: حركة الاصلاح والبناء (حصن)
8. الخاتمة
مقدمة: الحركة الإسلامية ودروس الثورة السورية
لقد خاضت الحركة الإسلامية المعاصرة في العالم العربي تجارب متنوعة وواجهت تحديات هائلة في ظروف مختلفة ومعقدة. وجاءت ثورات الربيع العربي لتفرض واقعا جديدا وتحديات لم يعهدها الواقع العربي والإسلامي من قبل، ففتحت أبواب المشاركة السياسية وبناء الدولة أمام البعض (ليبيا وتونس)، وتنقلت بآخرين بين قمة السلطة إلى غياهب السجون والزنازين في أمد قصير (مصر)، وتركت آخرين في حيرة من أمرهم يحاولون قراءة الدروس واستلهام العبر على ضوء هذه الظروف المتقلبة، وفي واقع تأزم الأوضاع وانسداد آفاق الثورة ( سوريا).
هذا الواقع الجديد، الذي وضع نظريات وبرامج وممارسات الإسلاميين على محك التّجربة والمساءلة، وهذه التجربة القصيرة، التي أظهرت بعض النّجاحات والإخفاقات، دفعت ببعض الإسلاميين السوريين، من إخوان ومستقلين، إلى إعادة تقييم رؤيتهم المستقبلية، للاستفادة من الفضاء السياسي المقبل، بشكل انعكس في رغبتهم في تغيير تشكيلاتهم وهياكلهم، وإعادة صياغة خطابهم ومواقفهم، بل ومحاولة تكييف أيديولوجيّتهم وتكتيكاتهم في بناء تحالفات سياسية استراتيجية.
فأفرز هذا الواقع تيارين جديدين:
أحدهما أراد أن يتقلب مع الرياح العاصفة ويتخلى عن جذوره الفكرية والأيديولوجية، فبدأ يتخبط في مواقف براغماتية كثيرة التناقض وسريعة التقلب، ويسعى إلى تحالفات سياسية لا تنطلق من رؤية استراتيجية ولا تنسجم مع مشروع واضح أو منهجية واقعية. وأما الثاني، فرفض المواقف المبنية على ردود أفعال ارتجالية، وقرر مواجهة التحديات من موقع الثبات والتمسك بالهوية الإسلامية وبجذورها الفكرية، وبمنهجية واضحة تتعامل مع الواقع وتقلباته ومستجداته متسلحة بفهم تاريخي عميق ورؤية مستقبلية دقيقة.
هذا الانقسام، الذي ولّد نقاشا حادا بين هذين التيارين، تمخض عن ولادة تنظيمين سياسيين، الأول اختار الاندماج بالآخر (العلماني) وجنح إلى إخفاء هويته الإسلامية، فأسس حزباً سياسياً بهوية وطنية غير متبلورة فكريا، هي أقرب إلى التوجه العلماني الذي يجعل الدين هامشيا في الحياة، وإن قبل بالاعتراف بالإسلام كمرجعية ثقافية أقل شأنا منها في دساتير الأنظمة العربية العلمانية التي تعترف شكليا بمرجعية الشريعة الإسلامية. أما التيار الثاني، الذي تعلق بجذور فكرية واحدة، ووُلد من رحم الثورة السورية ومعترك النشاط الثوري والدعوي والاجتماعي والإغاثي، فقد أسس حركة إسلامية واضحة في هويتها، منسجمة في خلفية أعضائها، متمسكة بالأصول والمبادئ، ومنفتحة على الآخر، دون الاندماج والتماهي معه، بحيث تقبل بالتعددية وبالمنافسة السياسية السلمية.
في هذا السياق تهدف هذه الرؤية الفكرية والسياسية إلى:
أولا: إعادة تأصيل فكر الحركة الإسلامية على ضوء المستجدات المعقدة في سوريا والتحديات الجديدة التي أحدثت صدمة هزت ثقة بعض الإسلاميين بمشروعهم الحضاري الأصيل.
ثانياً: الإثبات بأن النظرية السياسية الإسلامية قابلة للتطبيق، وقادرة على إيجاد حلول للمشكلات السياسية والاجتماعية المعاصرة، وأن بناء دولة إسلامية راشدة، مواكبة للمستجدات المعاصرة والتطور التقني والإداري والعلمي الحديث، هدف ثابت ومشروع حضاري أصيل لن تتخلى عنه الحركة الإسلامية في سوريا.
لقد عرف العالم الإسلامي عبر تاريخه الطويل، قديما وحديثا، نماذج عديدة من أنظمة الحكم وانتقال السلطة، أخذت أشكالا متعددة وقامت على أسس متنوعة، كالشورى والوراثة والغلبة والاستبداد والشمولية. ولم يجمع المسلمون، السنّة خاصة، على إطلاق وصف الحكم "الراشد" إلا على فترات قصيرة نسبيا من هذا التاريخ العظيم تكاد تقتصر على عهد الخلفاء الأربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (رضي الله عنهم) وفترة قصيرة من العهد الأموي إبان حكم الخليفة عمر بن عبد العزيز. ولكي تتمكن من التمييز بوضوح بين نظام الحكم الإسلامي الراشد وغيره من أنظمة الحكم الوراثية والشمولية التي مرت على العالم الإسلامي عبر التاريخ، فإن هذه الدراسة تتبنى منهجا تاريخيا فكريا يسلط الضوء على أهم المبادئ السياسية التي تتخذها الحركة الإسلامية المعاصرة كمرجعية ثابتة وأساس نظري أصيل لبناء الدولة الإسلامية الراشدة.
العصر التأسيسي للدولة الإسلامية: الحكم الرشيد وبناء الخلافة الراشدة
تعتبر الدولة الإسلامية التي أسسها الرسول (صلى الله عليه وسلم) في المدينة بعد هجرته إليها، إضافة لعهد الخلفاء الأربعة وإجراءات انتقال السلطة في هذا العهد، المرجع الأول للعلماء والمفكرين الإسلاميين في معالجتهم لطبيعة العلاقة بين الإسلام والسياسة.
فكيف نشأت هذه الدولة؟ وعلى أية أسس ارتكزت؟
للإجابة على هذه التساؤلات، تسعفنا المصادر التاريخية بسجل هام تبرز فيه ثلاثة أحداث تاريخية ذات صلة مباشرة بالأسس التي قامت عليها دولة المدينة. تتمثل هذه الأحداث الهامة بالتالي: بيعة العقبة، وكتابة الصحيفة (أو الوثيقة الدستورية لدولة المدينة)، وإجراءات الخلافة وانتقال السلطة بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم). بما أن نطاق هذه الدراسة لا يتطلب تناول هذه الأحداث الهامة بشكل مفصل، سنكتفي بالتركيز على بعض النقاط الأساسية ذات الصلة المباشرة بموضوع النظام السياسي وبناء الدولة في الإسلام.
أولا: من ناحية أولى نجد أن بيعتي العقبة (الأولى والثانية) تضمنتا بعض القيم والواجبات الشرعية التي تشكل إلى درجة كبيرة جوهرا لقانون الشريعة الذي ستسير عليه دولة المدينة، حيث بينت بنود البيعة ما هو مسموح أو مطلوب وما هو مرفوض ومحظور، لكن ليس لدرجة ترقى إلى الواجبات القانونية بعد، إذ أنها لم تنص على عقوبة دنوية لمن يقع في المحظور والمخالفة حيث ترك الرسول (صلى الله عليه وسلم) في تلك المرحلة أمر المخالفين (...إلى الله إن شاء عذب وإن شاء غفر).[1] من ناحية أخرى، فإن البيعة الثانية شكلت عقداً سياسياً واضحاً أرسى أسس العلاقة التعاقدية ( علاقة الأمر والطاعة) بين الرسول (صلى الله عليه وسلم) وبين مسلمي المدينة، وقد سميت هذه البيعة ببيعة الحرب كما جاء في حديث عبادة بن الصامت: (بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بيعة الحرب، على السمع والطاعة، في عسرنا ويسرنان...).[2] وبهذا فإن هذه البيعة حددت وبشكل صريح دور الرسول (صلى الله عليه وسلم) في دولة المدينة كزعيم سياسي وقائد دولة إلى جانب دوره كرسول هداية.
أما بالنسبة للصحيفة التي كانت بمثابة دستور لدولة المدينة، فقد أضافت تفاصيل تشريعية مكتوبة اتخذت صفة رسمية ملزمة، ذات طابع قانوني، في تحديد ما هو مقبول أو مسموح وما هو مرفوض وممنوع. كما أنها، من ناحية ثانية، أقرت التنوع الديني والقبلي والاجتماعي، فنظمت بشكل واضح ومنهجي العلاقة بين مختلف مكونات وشرائح المجتمع، بما في ذلك العلاقة بين القبائل المسلمة من مهاجرين وأنصار، والعلاقة بين المسلمين وغيرهم من سكان المدينة، كاليهود والمشركين. لقد ذكرت الصحيفة بالتسمية الصريحة كل قبيلة وكل مجموعة محدِّدة حقوقها وواجباتها.
ومن أهم ما تميزت به هذه الوثيقة الدستورية، الأولى من نوعها في التاريخ الحضاري للمجتمعات الإنسانية، أنها قدمت إطاراً نظرياً واضحاً لبناء دولة تعددية، ومجتمع متعدد الأديان، مؤسِّسةً المفهوم السياسي للأمة الذي يضم غير المسلمين إلى الجماعة السياسية المكونة للدولة دون إقصاء أو تمييز. لقد بينت الوثيقة بشكل حاسم لا يخالطه شكّ أن يهود المدينة أمة (بالمعنى السياسي) مع المؤمنين.[3] باختصار شديد، إن التسامح الديني وحرية العبادة كانت مكفولة للجميع بأوضح العبارات في هذه الوثيقة الدستورية العظيمة. تنبع الأهمية الحقيقة لهذه الوثيقة اليوم، من حيث صلتها المباشرة بمبادئ التنظيم السياسي المعاصر، في كونها قدمت سابقة دستورية تعتبرها الحركات الإسلامية مرجعية ثابتة لبناء مجتمع تعددي سياسيا ودينيا. لذلك فإن هذه الوثيقة بالنسبة للمسلمين ليست تاريخا غابرا مضى وانتهى، تستحضر فقط على سبيل التفاخر بأمجاد الآباء والأجداد، بل هي تنبض بالحياة في واقعنا الحاضر، لأنها مصدر الهام لملايين المسلمين، ولذلك فأن هذه الوثيقة الدستورية صالحة كأساس صلب لبناء دولة إسلامية راشدة في هذا العصر.
انتقال السلطة وأسس بناء الخلافة الراشدة
إن الإجراءات التي اتبعها الصحابة في اختيار الخليفة وانتقال السلطة في عصر الخلافة الراشدة ذات صلة كبيرة بواقعنا المعاصر، حيث أن الخلفاء رضوان الله عليهم لم يتمتعوا بسلطة دينية مع انقطاع وحي السماء بعد وفاة النبي (صلى الله عليه وسلم). فسلطة الخلفاء، من الناحية التشريعية، كغيرهم من الحكام على مر التاريخ الإسلامي، أصبحت مقيدة بفهم وتفسير الوحي المحفوظ وبتطبيق أحكامه، مع ضرورة ممارسة الاجتهاد في التشريع المتعلق بالمستجدات والظروف المتغيرة. ولذلك أصبحت أية محاولة لإضفاء سلطة دينية على الحاكم أو منحه صلاحيات مقدسة تعتبر نوعا من الهرطقة والانحراف عن الشرع الحنيف بالنسبة لأهل السنة والجماعة، على خلاف الشيعة الذين يعتقدون بعصمة الأئمة ويقدسونهم. فالإجراءات التي توافقت عليها الأمة في انتقال السلطة خلال العهد الراشدي أرست مبادئ سياسية هامة أصبحت فيما بعد أساسا للنظرية السياسية الإسلامية ومعيارا نموذجيا للحكم الرشيد.
من الناحية الإجرائية، فإن المصادر التاريخية تؤكد أن زعماء المسلمين، من مهاجرين وأنصار، اجتمعوا في سقيفة بني ساعدة للنقاش والتداول حول مسألة الخلافة، وحول المرشيح الأمثل لهذا المنصب. ومن الثابت تاريخيا أن ثمة خلاف وجدل قد نشب بين المجتمعين حول هذا الموضوع. والمؤكد أيضا، وهذا الأهم، أن النزاع قد حسم دون إراقة دماء، وإن كنا لا ندري على وجه التحديد الفترة الزمنية التي استغرقتها هذه المداولات.[4]
هناك أربع استنتاجات تم الوصول إليها عند جمهور أهل السنة والجماعة (مع بعض الخلافات الفرعية) من هذا الحدث التاريخي الهام والحاسم في تاريخ الأمة الإسلامية:
أولا: أن مجرد حصول خلاف في بداية الأمر حول مسألة الخلافة وانتقال السلطة يدل على أن هذه المسألة لم تكن محسومة مسبقا من قبل النبي (صلى الله عليه وسلم)، وأن موضوع اختيار الخليفة قد ترك للأمة أو قادتها ليفصلوا فيه ويقرروا.
ثانيا: أن النقاش الذي دار في اجتماع السقيفة كان بالأساس حول خلاف سياسي وليس ديني، فلم يرد نهائيا أن المرجعية الإسلامية، سواء القرآن أو السنة، كانت موضع خلاف بين المجتمعين. إضافة إلى أن الاتفاق والقرار الذي خرج به المجتمعون تم بناءً على اجتهادات عقلية وحجج منطقية، وليس على نص ديني من القرآن أو السنة. إن حجة أبي بكر في أن العرب "لن ترضى بهذا الأمر إلا لهذا الحي من قريش" كانت حاسمة في أن قريش يجب أن تحكم لأن في ذلك مصلحة عامة تتمثل في الحفاظ على وحدة الدولة من خلال تعيين حاكم ترضى به العرب وتقبل بسلطته.
ثالثا: أن سعي أصحاب القرار من القادة والزعماء إلى الحصول على موافقة وقبول عامة الناس من خلال البيعة العامة يدل على أن الأمة كانت تعتبر مصدر الشرعية السياسية لانعقاد الخلافة، فليس من المتصور أن يتم انعقاد الخلافة في حال رفضت الأمة مبايعة الخليفة.
رابعاً: أن مسألة الخلافة حسمت من خلال تطبيق مبدأ الشورى بين أهل الحل والعقد، وأن الإجماع الواسع بين المسلمين في قبول هذا القرار يدل على أن المجتمعين يمثلون الأمة تمثيلا حقيقيا.
بناءً على ذلك، فإن المبادئ الأربعة التي انعقدت على أساسها خلافة أبي بكر، رضي الله عنه، أصبحت فيما بعد هي المعيار النموذجي لقياس مدى شرعية انعقاد الإمامة في الفقه السياسي الإسلامي، وهي كالتالي: (1) الشورى؛ (2) الاختيار من قبل أهل الحل والقد؛ (3) الإجماع؛ (4) والبيعة. ومفهوم الإجماع هنا لا يدل على إطلاقه، ولا يلغي حصول بعض الاستثناءات، بل يدل على الغالبية الساحقة، إذ أنه من الثابت أيضا أن سعد بن عبادة، مرشح الأنصار، لم يبايع الخليفة، وأن بيعة علي رضي الله عنه تأخرت لفترة تختلف الروايات حول مدتها.
فهذه المبادئ الأربعة، إضافة إلى مبدأ تطبيق الشريعة (الذي لم يكن موضع خلاف بين الصحابة) كانت أساس مشروعية الخلافة في العهد الراشدي. وبما أن هذه المعايير النموذجية لم تجتمع سوى للخلفاء الأربعة، أبي بكر وعمر وعثمان وعلي (رضوان الله تعالى عليهم)، فإن أهل السنة والجماعة أطلقوا بالإجماع على هؤلاء لقب الخلفاء الراشدين تمييزا لهم عما سواهم من باقي الخلفاء الذين لم تجتمع لإمامتهم هذه المعايير النموذجية، وإن تمتعوا بالحد الأدنى من الشرعية نظرا لالتزامهم بمبدأ تطبيق الشريعة الإسلامية. قياسا على ذلك، فإن أي نظام حكم تجتمع فيه المعايير النموذجية الأربعة التي تميزت بها الخلافة الراشدة، بالإضافة إلى الحكم بالشريعة، يكتسب صفة الشرعية والرشد.
إن المبدأ الأساسي الذي لم يكن موضع خلاف بين الصحابة، أي تطبيق الشريعة، والذي أصبح فيما بعد الحد الأدنى لقبول شرعية الحكم وطاعة الحاكم، كان الأساس في تقييد سلطة الحاكم عبر التاريخ الإسلامي. ويظهر جليا هذا التقييد لسلطة الحاكم في أول خطاب ألقاه سيدنا أبو بكر (رضي الله عنه) في المسلمين بعد انعقاد خلافته، حيث قال: "أيها الناس، وليت عليكم ولست بخيركم، أطيعوني ما أطعت الله فيكم، فإذا عصيت فلا طاعة لي عليكم."[5] هذه الخطبة التاريخية وضعت الحجر الأساس لحدود وقيود سلطة الحاكم، وبينت بما لا يدع مجالا للشك أن خرق العقد القائم بين الحاكم والمحكوم من قبل الحاكم يلغي شرعية حكمه ويعطي الحق للأمة في عزله وإسقاط حكومته المتمردة على حكم الله وسلطان الأمة. بغض النظر عن مدى تطبيق هذه المبادئ السياسية تاريخيا، فمجرد أنها تعتبر مرجعية شرعية مؤصلة لملايين المسلمين اليوم، وأن الحركات الإسلامية تستلهم منها أساليب وقواعد العمل السياسي، فإنها ولا شك صالحة كأساس أصيل لبناء دولة إسلامية راشدة في هذا العصر.
الفصل بين السلطات الثلاثة وتطور النظرية السياسية الإسلامية
بعد عهدالخلفاء الراشدين أسس الأمويون، وتبعهم بذلك العباسيون، نظاما وراثيا يخالف المبادئ السياسية النموذجية للخلافة الراشدة، إلا أن سلطة الحكام بقيت مقيدة بالشريعة، وهذا ما جعلهم يتمتعون بالحد الأدنى من المشروعية؛ الحد الذي جعله العلماء المعيار الفاصل في جواز أو تحريم الخروج عليهم بالقوة. إذن فعلى الرغم من أن عنصري الوراثة والغلبة كانا السائدين في معظم مراحل التاريخ الإسلامي، إلا أن جميع الحكام المسلمين ظلوا تحت راية الإسلام وأقروا بسيادة قانون الشريعة الإسلامية.
يبقى سؤال هام ينبغي الاجابة عليه في هذا السياق: إذا كانت سلطة الحكام مقيدة بقانون الشريعة، فمن الذي يتمتع بصلاحية تفسير الشريعة وبيان أحكامها ومبادئها؟
مع انقطاع وحي السماء بوفاة النبي (صلى الله عليه وسلم)، لم تعد سلطة التشريع أو صلاحية تفسير النصوص المقدسة مرتبطة بشخص بعينه؛ الأمر الذي فسح المجال لنشوء نظرية فقهية تعددية في الإسلام وفتح الباب لنشأة المذاهب المتعددة. وبما أن الحكام كانوا قد فقدوا سلطتهم الأخلاقية أمام عامة المسلمين، نظرا لمخالفتهم مبادئ الشورى والاختيار وتهميشهم لدور أهل الحل والعقد، فقد بدأت تتحول سلطة التشريع (الاجتهاد) تدريجيا إلى طبقة العلماء والفقهاء الذين انتشرت مذاهبهم الفقهية في الأمصار والبلاد الإسلامية، فازداد تأثيرهم المعنوي على عامة المسلمين بشكل كبير. وفي سياق الازدهار العلمي والفقهي، وضع العلماء ضوابط وقواعد الاجتهاد؛ علم أصول الفقه، التي تبلورت مع تدوين وانتشار المذاهب الأربعة المعتمدة عند أهل السنة والجماعة: الحنفي والمالكي والشافعي والحنبلي.[6]
لقد استطاع الفقهاء الكبار الذين أسسوا هذه المذاهب الحفاظ على استقلاليتهم عن سلطة الدولة، ورفضوا الاندماج في مؤسساتها رغم ما نزل بهم من محن وسَجن وأحيانا تعذيب جسدي. وبالرغم من أن العالم الفقيه أبا يوسف، أحد أبرز تلامذة أبي حنيفة، قبل تولي منصب قاضي القضاة، إلا أنه بقي محافظا على استقلاليته، حيث كان يعين القضاة ويقضي بين الناس على مذهب أبي حنيفة بدون أي تدخل من الدولة التي كانت تلتزم بتنفيذ ما يحكم فيه القضاة من خلال جهازها التنفيذي؛ الشرطة. فمفهوم الفصل بين السلطات الثلاث ليس غريبا عن الفكر والتاريخ الإسلامي، بل إن المسلمين هم أول من قام بفصل السلطات وبترسيخ استقلال السلطتين التشريعية والقضائية عن السلطة التنفيذية. من هذا المنطلق فإنه من الضروري الاستفادة من هذا المفهوم المؤصل في الفكر والتاريخ الإسلامي من أجل بناء دولة إسلامية راشدة في بلاد المسلمين تتناسب مع الظروف وتلبي الحاجة في مواجهة تحديات العصر.
تطور النظرية السياسية الإسلامية
عندما دخلت الخلافة العباسية في مرحلة الضعف والتمزق، حيث برزت قوة السلاطين والأمراء الذين أحكموا سيطرتهم حتى على عاصمة الخلافة بغداد لتتحول الخلافة إلى منصب رمزي، ظهرت الحاجة إلى بلورة نظرية سياسية تحافظ على مكانة الخلافة وأهميتها، وتنظم العلاقة بين الخليفة وبين السلاطين والأمراء المتغلبين. فكان الفقيه الشافعي أبو الحسن الماوردي أول من قدم نظرية سياسية متكاملة في الحكم الإسلامي في كتابه الشهير "الأحكام السلطانية والولايات الدينية"، حيث عالج الواقع السياسي الذي وصلت إليه الخلافة من ضعف وتمزق وحاول ربط الحكام المتغلبين بالخليفة من خلال إقرار الخليفة بشرعية سلطتهم، من ناحية، وبالمقابل يقدم هؤلاء الحكام الولاء النظري للخليفة حفاظا على مكانته وعلى هيبة منصبه. وعلى الرغم من أن الماوردي برر إمارة التغلب، إلا أنه لم يفعل ذلك على حساب التنازل عن الحكم وفق الشريعة، بل على العكس فقد ربط هذا التبرير بضرورة "حفظ القوانين الشرعية وحراسة الأحكام الدينية" وتجنب الفتنة التي تؤدي إلى مفسدة أكبر، إضافة إلى أنه ساهم في الحفاظ على أهمية وصيانة مؤسسة الخلافة.[7]
وعلى ذلك أيضا سار معظم العلماء الذين جاؤوا بعد الماوردي، وخاصة الإمام الغزالي وشيخ الإسلام ابن تيمية، ولم يخرجوا عن هذا الخط العام من حيث ربط طاعة الحاكم المتغلب بضرورة الحفاظ على أحكام الشريعة والمصالح العامة للأمة، على الرغم من أن الأخيرين كانا أكثر وضوحا في نقدهم لأمراء التغلب والسلاطين الظلمة. كما أن جمهور العلماء اتفقوا على قاعدة "الضرورات تبيح المحظورات"، وإن اختلفوا في تقييم الضرورة ومقدار الضرر الذي يجوز درؤه من خلال التغاضي عن فعل أو محظور. فالقاعدة التي سادت هي أن طاعة الحاكم الظالم ضرورة لتجنب الفتنة والفوضى، وحسب تعبير شيخ الإسلام ابن تيمية "ستون سنة من إمام جائر أصلح من ليلة بدون سلطان."[8]
لقد تمكن العلماء من بناء نظرية فقهية وسياسية أقرت بشرعية الحكام المتغلبين، ولكنها قيدت سلطتهم بقوانين الشريعة، وضحدت شرعية السلطة الدينية التي توجب على المحكومين طاعة مطلقة. إن أهم ما ساعد على إمكانية التعايش بين الحكام الجائرين والعلماء المؤثرين هو أن سلطة الدولة في التاريخ الإسلامي لم تكن شمولية كما هو الحال بالنسبة للدولة الحديثة التي تهيمن على معظم المجالات السياسية والعسكرية والاجتماعية والثقافية في المجتمعات المعاصرة. فقد كانت سلطة الدولة آنذاك تكاد تنحصر في المجالات العسكرية والأمنية والجباية. إضافةً إلى أن سلطة التشريع والقضاء كانتا تحت سيطرت العلماء لدرجة كبيرة، فإن التعليم والأوقاف (وهي موارد مالية هامة) والوعظ في المساجد، بل وإلى درجة كبيرة التجارة والصناعة، كلها كانت من المجالات المستقلة التي نادرا ما تتدخل الدولة في تسييرها وتوجيهها. وهكذا، بما أن سلطة الحاكم أو انتقالها من شخص إلى آخر كانت من الشؤون التي لا تنعكس سلبا أو إيجابا وبشكل مباشر على حياة المجتمع ككل، كانت الثورات الشعبية وحركات الخروج على الحكام الجائرين قليلة نسبيا في التاريخ الإسلامي، إذا ما قيست بواقع المجتمعات الأوروبية خلال ما يسمى بعصر النهضة.
الإصلاح وتجربة التيارات الإسلامية مع الدولة القطرية المعاصرة
كان لصعود القوة الغربية الاستعمارية وهبوط القوة العثمانية التي بدأت تتساقط أقاليمها تحت براثن القوى الغربية الغازية، في القرن التاسع عشر، دور هام في ظهور التيارات الإصلاحية. حيث تنبه العلماء والمفكرون المسلمون إلى الهوة الفاصلة بين مجتمعاتهم وبين القوى الغربية المتنافسة على استعمار البلاد الإسلامية. فبدأ العلماء بالتفكير والتنظير حول أسباب هذه الفجوة وكيفية ردمها وتجاوز الواقع المتردي الذي وصلت إليه الأمة. فدعوا إلى التحديث التقني، والإصلاح السياسي، والعودة إلى فتح باب الاجتهاد، الذي كان قد ضاق وتراجع منذ هبوط الخلافة العباسية، كسبيل ضروري لنهضة الأمة ووحدة المسلمين.
ويمكن تلخيص الرؤية التي قدمها التيار الإصلاحي لأسباب تراجع المسلمين وضعفهم في ثلاث نقاط أساسية: البعد عن الدين والجهل به؛ الاستبداد السياسي وغياب الشورى؛ وتمزق جسد الأمة إلى دويلات وممالك وإمارات. ولمواجهة هذه التحديات جاءت الدعوات إلى: (1) العودة إلى أصول الإسلام وفتح باب الاجتهاد؛ (2) الإصلاح السياسي وفق مبدأ الشورى وإعادة دور أهل الحل والعقد على ما كان عليه في صدر الإسلام؛ (3) والوحدة الإسلامية التي تمكن الأمة من التصدي لأطماع المستعمرين الغربيين.[9]
بعد إلغاء منصب الخلافة في تركيا عام 1924، بقي معظم العلماء والمفكرين المسلمين ينادون بإعادة بناء الخلافة الإسلامية، إلا أن الغالبية منهم لم ترفض شرعية الدول القطرية التي نشأت على أنقاض الدولة العثمانية. بل إن الكثير من العلماء والدعاة ساهموا في بناء المؤسسات السياسية والدستورية، كما شاركوا في حركات التحرر الوطني ضد الاستعمار، مطالبين باستقلال بلادهم وإقامة حكومات تحكم وفق الشريعة الإسلامية كمرحلة تمهيدية لتوحيد بلاد المسلمين وقيام دولة الخلافة. وقد كانت حركة الإخوان المسلمين التي أسسها الإمام الشهيد حسن البنا (رحمه الله) في طليعة الحركات التي لعبت دورا هاما في دفع حركات التحرر من الاستعمار، حتى أصبحت من أهم الحركات التي تقود عملية الإصلاح والنهوض في كثير من الدول الإسلامية. وقد كان الإمام البنا من أوائل الذين تلقوا الدساتير التي تبنت الحكم النيابي في الدول الإسلامية الحديثة بالقبول، حيث أكد أنه ليس هناك "في قواعد هذا النظام النيابي ما يتنافى مع القواعد التي وضعها الإسلام لنظام الحكم".[10]
وجاء الاستقلال الوطني في الكثير من دول العالم الإسلامي، ليخرج الاستعمار بعد أن مهد لسقوط السلطات السياسية في أيدي الأنظمة الشمولية والعسكرية ذات التوجهات القومية والعلمانية، وبعضها كان يستلهم النماذج الثورية الشيوعية والفاشستية والنازية. فقام عدد من المفكرين والدعاة الإسلاميين يتصدون لهذه الأنظمة ويرفضون شرعيتها ويدعون لمقاومتها، وخاصة تلك التي اتخذت موقفا عدائياً واستئصالياً من التيارات الإسلامية. وبذلك دخلت الحركة الإسلامية معترك التحرر السياسي من الاستبداد والطغيان بعد أن خاضت حركة التحرر والاستقلال من الاستعمار الأجنبي. فبدأت المحنة الأولى للحركة الإسلامية في مصر إبان عهد الرئيس جمال عبد الناصر، وتلتها المحنة الكبرى في سوريا مع انقلاب حزب البعث الطائفي لتصل ذروتها تحت وطأة وبطش الأجهزة القمعية للنظام الدكتاتوري الذي أسسه حافظ الأسد وتبعه وريثه من بعده.
جماعة الإخوان المسلمين في سوريا: الأصالة والتجديد
منذ نشأتها مطلع الأربعينيات من القرن الماضي، انطلقت جماعة الإخوان المسلمين في سوريا بمشروعها الإسلامي الحضاري الذي يجمع بين التأصيل الشرعي والتجديد العصري، على المنهج الذي اختطه الإمام الشهيد حسن البنا، رحمه الله تعالى، حيث لخص أهدافها ببناء الفرد، والبيت، والشعب، والحكومة، والدولة على مبادئ الإسلام وقيمه السامية. فكان لهذه الحركة المباركة في سوريا الدور الريادي في إحياء المشروع الإسلامي الملتزم بالمفهوم الوسطيّ للإسلام، عقيدةً وشريعةً ومنهجَ حياة، عاملة على تحقيق هذا المفهوم في حياة الفرد والمجتمع والدولة. وقد خاضت معترك النشاط الدعوي والتربوي والاجتماعي، كما كان لها دور هام في بناء مؤسسات الدولة بعد الاستقلال، حيث شاركت في الحياة السياسية بمنهج سلمي يقبل روح التنافس مع الآخر دون تعصب أو إقصاء، فخاضت الانتخابات وشاركت في الحكومات وعقدت التحالفات وساهمت في الحياة العامة على كافة الصعد والمستويات.
ولم تخل الحياة السياسية من التجاذبات السياسية والحملات الإعلامية بين الفرقاء المتنافسين في تلك المرحلة التي تخللها بعض الانقلابات التي عكرت صفو الحياة السياسية، إلى أن وقع الانقلاب البعثي الدموي الذي أسس للاستبداد وصادر الحياة السياسية وزرع الخوف والرعب في نفوس الشعب عبر القمع الوحشي لكل مظاهر الاستنكار والمعارضة. فقام التيار الإسلامي يتصدر العمل المعارض في وجه سياسات القمع والاستئصال، فقدم التضحيات الجسام ودفع ثمن الثبات على الحق عبر دماء الشهداء وزنازين السجون وغربة المنفى. فالمواجهة العنيفة بين التيار الإسلامي وبين الاستبداد في سوريا لم تكن نابعة من أفكار ومفاهيم وبرامج إسلامية متشددة، كما يتوهم البعض، بل كانت نتيجة طبيعية لسياسات القمع والبطش والاستئصال الوحشي الذي مارسه النظام ضد المعارضة، فكان نصيب الحركة الإسلامية هو الأكبر والأعنف من هذا القمع لأنها كانت الأقوى والأكثر تنظيما بين تيارات المعارضة.
بالرغم من العزلة الطويلة التي عانت منها الجماعة في المنفى، إلا أنها استطاعت أن تعيد بناء بنيتها التنظيمية، وعادت إليها الحيوية لتفرض حضورها على الساحة السياسية بعد توريث السلطة في سوريا، فأطلقت "المشروع الحضاري لسورية المستقبل...رؤية جماعة الإخوان المسلمين" الذي أعلنته في "ديسمبر" من عام 2004، فكان تعبيرا صادقا عن انتماء هذه الجماعة إلى مدرسة الأصالة والتجديد، بتوازنه وعمقه وشموليته. فكان خطوة هامة في تقديم تصور واضح لبناء دولة إسلامية راشدة، تحقق العدل والكرامة لجميع المواطنين، وتقوم على مبادئ الشورى والمساواة بالحقوق والواجبات، وفق قيم الإسلام النبيلة، دون إفراط ولا تفريط.
صدمة الثورة السورية: حزب الإخوان لا يحمل فكر الإخوان!
في خضم أحداث الثورة السورية وفي ظل آثارها المأساوية، انطلقت أصوات من داخل جماعة الإخوان المسلمين في سوريا تطالبها بمراجعة فكرية وتدفعها نحو التخلي عن الفكر والمشروع الإسلامي الشامل الذي رسم معالمه الإمام حسن البنا، وأرسى أسسه في سوريا الدكتور مصطفى السباعي، رحمهما الله، ودفعت الحركة في سبيله أغلى وأسمى التضحيات. وقد تمخّضت هذه الدعوات عن استراتيجية تهدف إلى التخلي عن مشروع إقامة الدولة الإسلامية، واستبداله بالدولة الوطنية، وفصل الدين عن الدولة وعن النشاط السياسي، في سابقة لم تشهدها الجماعة حتى في أحلك أوقات المحن. وتجلت هذه الاستراتيجية في ولادة حزب سياسي وطني أشرف على تأسيسه عدد من أعضاء جماعة الإخوان المسلمين، بعد أن استطاعوا الحصول على مباركة وتأييد مجلس شورى الجماعة: الحزب الوطني للعدالة والدستور (وعد)، حزبٌ غابت عنه أهم وأبسط مبادئ وأهداف الحركة الإسلامية المعاصرة، يتبنى خطابا غريبا عن أدبيات الحركة الإسلامية، ويتماهى مع التيارات العلمانية في مفرداته وأهدافه ومبادئه. ولكي يثبت مصداقيته في توجهه العلماني اختار شخصية مسيحية لمنصب نائب الرئيس. أما عن صلة هذا الحزب بالإسلام فلا تتعدى الاعتراف به كمرجعية لا ترقى حتى إلى شكلية الدساتير العلمانية، كدستور النظام البعثي في سوريا، التي تنص على مرجعية الشريعة الإسلامية كمصدر للتشريع.
ومن أهم الإشكاليات التي تضع الحزب في الصف العلماني وتجعله في مواجهة وقطيعة مع التيار الإسلامي أنه ترك مسافة شاسعة بينه وبين “الأيديولوجية الإسلامية” التي ترفض الفصل بين الإسلام والسياسة وتؤمن أن “الإسلام دين ودولة”، وأنه يتضمن تشريعا شاملا ينظِّم حياة الفرد والمجتمع على جميع المستويات. وبذلك ينسف هذا الحزب جميع التضحيات ويتنكر لجميع الجهود والمعارك السياسية التاريخية التي خاضها الإخوان المسلمون في سبيل بناء مؤسسات الدولة على الأسس الإسلامية، كالمعارك السياسية التي خاضها الإخوان في عدد من الدول العربية والإسلامية من أجل جعل الشريعة الإسلامية مصدر التشريع “الأول” أو “الرئيس” أو “الأساس”، وأن “دين الدولة هو الإسلام” نصا صريحا في الدستور. فهذه الأيديولوجية الإسلامية، في مفهوم الإخوان المسلمين، هي جزء لا يتجزأ من الإسلام، وبالتالي فإن التنازل عنها يعتبر تنازلا عن أحد أهم المبادئ الإسلامية. إن التاريخ الدعوي والفكري والسياسي والنضالي الذي خاضته الجماعة في سوريا منذ تأسيسها إلى يومنا هذا إنما هو التعبير العملي عن هذه “الأيديولوجية” التي تؤمن بها الجماعة وتتجلى في مواقفها وفي إيمانها بدور الإسلام في المجتمع والدولة. فما هو موقع هذه الأيديولوجية وهذا الإرث الفكري والسياسي والنضالي في برنامج عمل الجماعة لفترة ما بعد الثورة السورية في ظل تأييدها لهذا الحزب الوطني "العلماني" ومساهمتها في تأسيسه؟
لا شك أن الحزب الوليد (وعد) قد وضع الجماعة في مأزق فكري شديد الحساسية وفرض عليها استحقاقا لا يمكن الخروج منه إلا بمراجعة فكرية وتاريخية شاملة لمرحلة ما قبل الثورة، وتصور واضح لبرنامج عملها في المرحلة المستقبلية. فإذا كان هذا الحزب ليس ذراعا سياسية للجماعة، كما صرح عدد من قياديي الجماعة، وبالتالي فهي لن تمارس السياسة من خلاله، فهل ستشارك الجماعة في الحياة السياسية كما كانت تفعل عبر مسيرتها التاريخية؟ هل ستتنافس مع هذا الحزب في الانتخابات، وفي عقد التحالفات، وهل ستشارك في تشكيل الحكومات، وتطالب بتطبيق الشريعة الإسلامية؟! أم أنها ستؤسس حزبا آخر يمثلها ويحمل فكرها؟
التيار البديل: حركة الاصلاح والبناء (حصن)
في هذا السياق، انطلق نقاش جاد مع بعض مؤسسي الحزب السياسي الجديد (وعد)، نشرت بعض أطراف هذا النقاش على صفحات الانترنت، ثم تطور وانتقل إلى دوائر أخرى حتى تمخض عن إعلان تأسيس حركة الإصلاح والبناء (حصن)، التي حددت رؤيتها المستقبلية "في بناء مجتمع صالح يحقق العدل والكرامة لجميع المواطنين، ويقوم على مبادئ الشورى والمساواة بالحقوق والواجبات، وفق قيم الإسلام النبيلة". وأهم ما يميزها عن الحزب السابق أنها تتمسك بالمشروع الحضاري الإسلامي الذي تبنته الحركة الإسلامية منذ تأسيسها، حيث نصت في وثيقتها السياسية الأساسية وفي بيانها التأسيسي بأنها تعتبر "الإسلام المرجع التشريعي والثقافي والفكري لأي عمل سياسي أو ثوري اجتماعي". وتعبيرا عن انفتاحها على المجتمع السورية، فقد أكدت الحركة أنها تعترف "بكافة مكوّنات الشعب العرقية والدينية كجزء من النسيج الوطني"، وترفض "جميع أشكال التعصب الديني والمذهبي والعرقي".[11] إن أي مطلع على أدبيات وفكر وتاريخ ومواقف التيار الإسلامي الأصيل في سوريا يجد أن حركة الإصلاح والبناء (حصن) تحمل هذا الفكر الأصيل بثبات وثقة وتنتمي إلى المدرسة الإسلامية الوسطية التي تجمع بين التأصيل النظري والتجديد الواقعي.
الخاتمة:
قدمت هذه الدراسة رؤية تأصيلية ونظرة تاريخية حول أسس بناء الدولة الإسلامية الراشدة، مسلطة الضوء على واقع الحركة الإسلامية المعاصرة في سوريا والتحديات التي واجهتها ومازالت تواجهها في واقعها الراهن. كما أعادت الدراسة تأصيل فكر الحركة الإسلامية من خلال الإثبات بأن النظرية السياسية الإسلامية في بناء دولة إسلامية راشدة هدف ثابت من أهداف الحركة الإسلامية، وهو قابل للتطبيق ولا يمكن لمن يدعي الانتماء إلى هذه المدرسة أن يتخلي عنه ويبقى بين صفوفها. ومن أهم ما ركزت عليه الدراسة، الظروف التي فرضها الواقع الجديد في ظل الثورات العربية الذي دفع بعض الإسلاميين السوريين إلى إعادة تقييم رؤيتهم ومواقفهم، ومن ثم إعادة تموضعهم في الساحة السياسية المستقبلية.
في ظل هذا الواقع الجديد فإن جماعة الإخوان المسلمين أصبحت تقف على مفترق خطير وأمام تحدٍّ مصيري كبير، فإما أن تساند التيار الذي يحمل فكرها ويدعو إلى مشروعها الأصيل الذي لطالما حملته ودعت إليه وقدمت التضحيات العظيمة من أجله، فتحافظ بذلك على أصالتها وتتمسك بجذورها، وإما أن تنحاز إلى الحزب الذي اختار الطريق البرغماتي الضبابي في صفوف التيار العلماني، فتتنكر لتاريخها الدعوي والسياسي، وبالتالي تعرّض مصداقيتها إلى الاهتزاز أمام الشارع الإسلامي.
[1] للمزيد من التفاصيل حول بيعة العقبة، انظر سيرة ابن هشام.
[2] المصدر السابق.
[3] نفس المصدر؛ انظر أيضا أكرم ضياء العمري: مجتمع المدينة في عهد النبي (صلى الله عليه وسلم).
[4] للاطلاع على تفاصيل الحوار الذي دار في سقيفة بني ساعدة، انظر ابن قتيبة الدينوري، الإمامة والسياسة؛ انظر أيضا سيرة ابن هشام.
[5] سيرة ابن هشام، ص 261.
[6] انظر مناع القطان، التشريع والفقه في الإسلام: تاريخاً ومنهجاً.
[7] انظر كتاب الأحكام السلطانية والولايات الدينية لأبي الحسن الماوردي.
[8] ابن تيمية، السياسة الشرعية في إصلاح الراعي والرعية، ص 137-138.
[9] انظر الأعمال الكاملة للإمام محمد عبده؛ وجمال الدين الأفغاني: الأعمال الكاملة، تحرير الدكتور محمد عمارة.
[10] مجموعة رسائل الإمام الشهيد حسن البنا، ص 322، انظر أيضا ص 319.
[11] انظر وثائق الحركة، االموقع الرسمي لحركة الإصلاح والبناء (حصن): http://mrb-syr.org/