معركة الدستور السوري
طُوي الحديث عن مُقترح الدستور السوري الذي أعدته روسيا، مثل أي خبر آخر، مع أن طرح هذه المسودة في مفاوضات أستانة له دلالة على مشروع التسوية التي يبدو أن لدى موسكو تصوراً ناجزاً عنها، وهي في سبيلها لفرضها ما لم تلقَ ممانعة أميركية. يُشار هنا إلى أن مسودة الدستور، على ركاكتها، بدأ الحديث عنها تزامناً مع الاجتماعات التي كانت موسكو تنظّمها في قاعدتها الجوية في سوريا، وربما كانت أيضاً حصيلة اجتماعات أخرى مع أفراد أو منصات في "المعارضة" مقرّبة من الروس.
الجدل الذي رافق تسريب المسوّدة لم يلامس غالباً جوهرها، وبذلك تملص من تقديم، أو التلميح إلى، تصورات بديلة قد لا تملك قوة كافية على الأرض، لكنها تعرّي المسودة ليس فقط من باب وضعها من قبل قوة احتلال. بالطبع، ليس أحسن حالاً ذلك النقد الذي بدأ وانتهى بالاعتراض على المقترح الروسي حول علمانية الدولة، وكأن تلك الإشارة هي الخطر الوحيد من وجهة نظر الإسلاميين، بحيث يُستغنى بعدها عن أي نقاش آخر، بل كأن الإسلاميين في موقع من القوة يتيح لهم اعتبار الاقتراح غير موجود.
تعرف القيادة الروسية قبل الآخرين أن مسودتها ستلقى معارضةً من المعارضة والنظام، وهي تطرحها أصلاً كمادة قابلة للمساومة، على أمل أن تبقى الوثيقة الوحيدة المطروحة للتفاوض حول المستقبل. الحديث يتركز بخاصة على المستقبل القريب، أي المرحلة الانتقالية، ومعلوم أن هذه المرحلة قد تكون شديدة الحساسية على صعيد التأسيس لما بعدها. وأخطر ما في المشروع الروسي هو إعطاء شرعية دستورية لطرح قديم مفاده احتفاظ بشار الأسد، أو خليفته المحتمل، بالسيطرة على الجيش والقوى الأمنية، يشار إليهما نصاً بـ"الجيش والتنظيمات المسلحة!"، وكل ما تبقى من فقرات حول توزيع السلطات أو شكل الدولة لا يعدو كونه تغطية على هذا اللبّ.
هذا هو الجوهر الذي تتحاشى أيضاً المعارضة الخوض فيه، خارج عموميات الحديث عن التحول الديموقراطي وفصل السلطات. فموضوعة الاحتكار المطلق للسلطة تظهر حتى الآن شديدة التبسيط وتكاد تُختصر على النحو التالي: انقلاب البعث ومن ثم حافظ الأسد على الديمقراطية والسيطرة على مؤسسات الدولة الوليدة بقوة المخابرات والجيش، وتكاد تكفي تنحية العائلة الحاكمة وزمرتها لتعود سوريا إلى ما كانت عليه قبل أكثر من خمسة عقود. هذا التبسيط لا يتحرى شكل الدولة السورية الجديد، ولا العقد الاجتماعي بين سوريين فتتهم قمع الأسدية ليظهر الانقسام جلياً منذ انطلاق الثورة.
في شكل الدولة، بقي النقاش "العلني على الأقل" متوقفاً عند إسقاط الزمرة الحاكمة، والاحتكام بعدها إلى صناديق الاقتراع. لم يحدث نقاش معمّق وموسّع حول مفاهيم الدولة المركزية أو اللامركزية، وعن تسبب الأولى منهما في كافة المجتمعات الشبيهة بالتحول إلى طغيان لا مثيل له. بقي فهم اللامركزية متصلاً بالانقسامات الطائفية أو العرقية، مع إعلان تلك الغيرة المحمومة على وحدة البلاد، وبعض الغيرة يُفهم منه نزوع إلى السيطرة قبل أي اعتبار آخر. أهم من ذلك أن حوار المركزية واللامركزية يحجب التفكير في توزيع السلطات الحساسة، فالقول مثلاً بإعادة تأهيل الجيش والمخابرات على أسس وطنية لا سلطوية هو نوع من الإنشاء، ما لم يقترن بنزع مخالبها كلياً، وبعدم حصر الإشراف عليها بأي حاكم مقبل.
لا يدخل في باب المفارقة أن يتفق قسم من المعارضة مع النظام في تصورات حول مستقبل البلاد، مع اختلافهما حول من يقود المستقبل. هذا التقارب في الرؤى يشير إلى شريحة لا تريد إسقاط النظام، أو لا تعني هذا الشعار عندما ترفعه، هي شريحة لا تملك في أحسن الظنون مرجعية سوى ما ألِفته من النظام نفسه، ولا تريد المخاطرة والتعرف على ما يخدش طمأنينتها. ولعل التخوّف من انقسامات المعارضة، فوق انقساماتها المعروفة، هو ما أعاقها عن طرح رؤية حقوقية حول المستقبل، إذ يعلم كثرٌ فيها أن اجتماعهم ينتهي عند لحظة سقوط النظام. الكلام هنا عن ترك هذه القضايا ليقررها السوريون في ما بعد، فيه ما فيه من التهرب، لأن طرح التصورات حول المستقبل يختلف عن فرضها على السوريين بالقوة.
النظام هو الذي يريد دولة شديدة المركزية، والتعديلات التي تسربت عن تحفظاته على المسودة الروسية تفيد بذهابه إلى الجوهر تماماً، فكل كلام عن علمانية الدولة، أو دين الرئيس وما إلى ذلك من إنشاء، لا تأثير له في الواقع بقدر تأثير السلطات التي يريد تركيزاً أكبر لها في موقع الرئاسة، طبعاً على أمل بقاء بشار في المنصب. الروس أيضاً يريدون تركيز هذه الصلاحيات، حتى إذا كان يضمرون تنحية بشار لصالح شخص آخر. أي نقاش لا يبدأ من هذه النقطة سيكون مضيعة للوقت يرتكبها أولئك الذين أقروا بعدم وجود حل سوى الحل التفاوضي، ففي المفاوضات لا يأخذ أي طرف كل شيء. قبول الاعتراض على العلمانية مثلاً يقتضي التنازل في بند آخر تريده الأطراف المقابلة، وتقييد السلطات المحلية للخائفين من التقسيم يقتضي تنازلاً إضافياً لأولئك الذين لا يطرحون تقييدها من باب عدم الاكتراث بهذه التفاصيل. في المحصلة، إذا جمعنا تحفظات إسلامية وعروبية من هذا القبيل، سيستنزف من يفاوضون باسم المعارضة رصيدهم في مقايضات خاسرة لجهة الإبقاء على جوهر الاستبداد، أو يغادرون قاعة التفاوض رافضين كل شيء بما لا يتماشى مع إقرارهم بالحل السياسي.
تستطيع المعارضة رفض إقرار مسودة دستور بحجة ترك الأمر إلى نهاية المرحلة الانتقالية، فقط إذا بادرت إلى طرح مسودة مبادئ دستورية تحكم المرحلة الانتقالية، وإذا كانت روحية هذه المبادئ تستند إلى الديمقراطية وعدم احتكار السلطات بدءاً من المرحلة الانتقالية ذاتها. ذلك يتطلب أن تقترن المبادئ الدستورية المؤقتة بمشروع تضع فيه تصوراتها عن المستقبل، فالاحتكام إلى السوريين لا يعني مشاركتهم فرداً فرداً في وضع الدستور، بل تأتي القوى السياسية الفاعلة بتصوراتها وتحصل مقايضات ضمن الهيئة التي يُناط بها إعداد الدستور قبل طرحه للتصويت. لا معنى على هذا الصعيد أيضاً من التبجح بأن الدستور سيكون صناعة سورية 100%، إذ ليس لدى السوريين عراقة دستورية تغنيهم عن استلهام العديد من التجارب العالمية الناجحة، وهذا بالتأكيد يختلف عن كتابته من قبل قوة احتلال.
المسودة الروسية شديدة السوء، ويماثلها سوءاً أنها أول اقتراح من هذا النوع يُطرح للعموم ويُثار جدل حوله.
وسوم: العدد 706