حكم التدرج في تطبيق الشريعة 1
الحلقة 1 من 2
المسلمون، أفراداً وجماعات ودولة، مطالبون بتطبيق أحكام الدين الحنيف جميعاً، بدءاً بالعقيدة، ومروراً بالواجبات (وترك المحرمات)، وانتهاءً بالمندوبات (وتجنب المكروهات). لكن ذلك ليس على درجة واحدة، فالعقيدة لا يُعذَر المسلم بأن يؤمن ببعضها ويكفر ببعضها الآخر، أما الواجبات فيفعل منها ما استطاع، ويأثم إذا ترك واجباً، وهو قادر على فعله، فقد قال تعالى: (لا يكلّف الله نفساً إلا وسعها). {سورة البقرة: 286}.. وقال سبحانه: (فاتقوا الله ما استطعتم). {سورة التغابن: 16}.
وأما المندوبات فإنه يثاب على فعلها، ولا يعاقب على تركها.
هذه البديهيات تعترضها ظروف كثيرة، فردية وجماعية، تحتاج من المسلم فقهاً عميقاً، وهو ما يدخل في السياسة الشرعية، من حيث ملاحظة فقه الموازنات، وفقه الأولويات، واعتبار المآلات، والنظر إلى المسألة وملابساتها، نظرةً شاملة.
وهي أكثر ظهوراً في قضايا إدارة شؤون الرعية، حتى إن العلماء حين عرّفوا السياسة الشرعية حصروها في الشأن العام، فقالوا: "هي قيام أولي الأمر على شأن الرعية بما يصلحهم، من الأمر والنهي والإرشاد، ووضع تنظيمات وترتيبات إدارية، بما يجلب المنافع ويدفع المضارّ".
لكن المفاهيم التي ترتكز عليها السياسة الشرعية تشمل كذلك سلوك الأفراد. وفي كتاب "الغياثي" لإمام الحرمين الجويني أمثلة كثيرة للمجالات التي تشملها السياسة الشرعية، تبين كيف نطبق أحكام الدين في مختلف الظروف.
والمسألة الأكثر أهمية وإلحاحاً، لا سيما في هذا العصر، مما يندرج في السياسة الشرعية، هي حكم التدرج في تطبيق الشريعة. وكأن الإشكال فيها يكون في الإجابة على مثل هذه الأسئلة:
هل من حق أي جماعة، أو أي دولة مسلمة، أن ترجئ تطبيق بعض أحكام الدين، وقد اكتمل التشريع؟!.
وإذا وَجَدَ الحاكم المسلم مقاومة من الشعب أو من خارجه، تحُول بينه وبين إقامة أحكام الإسلام، وكانت هذه المقاومة أكبر من طاقته، فهل يلغي إقامة هذه الأحكام؟ أم يصرّ على إقامتها وهو يرى أن هذا سيطيح بحكمه ويؤدي إلى ترسيخ الأحكام الوضعية؟ أم يقيم منها ما استطاع؟!.
ثم: ألا يكون التدرج في تطبيق أحكام الشريعة ذريعة إلى الاستمرار في اتباع الهوى؟ فقد جعل القرآن الكريم الهوى هو المقابل لحكم الله. قال تعالى: (وأن احكم بينهم بما أنزل الله، ولا تتبع أهواءهم). {سورة المائدة: 49}.. وقال سبحانه: (يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض فاحكم بين الناس بالحق ولا تتبع الهوى فيُضلّك عن سبيل الله). {سورة ص: 26}.
لقد بحثَ هذه المسألة، قديماً وحديثاً، عددٌ من العلماء كإمام الحرمين أبي المعالي عبد الملك الجويني وأبي حامد الغزالي وأبي العباس شهاب الدين القرافي وأبي إسحاق الشاطبي والعز بن عبد السلام وابن تيمية وتلميذه ابن قيم الجوزية، كما بحثه غيرهم من خلال القواعد الأصولية من استحسان ومصالح مرسلة وفقه الموازنات، كما أفرده بعضهم برسائل خاصة كالدكتور محمد الزحيلي في بحث قدّمه للجنة العليا للعمل على استكمال تطبيق الشريعة في دولة الكويت، وكذلك الأستاذ محمد عبد الغفار الشريف، وكذلك الدكتور عبد الرحمن المصري بعنوان "التدرج في التشريع ودعوى عدم القدرة على تطبيق الشريعة"، وكذلك جاسر عودة بعنوان "بين الشريعة والسياسة"، وبحثه الشيخ يوسف القرضاوي في فقه الأولويات، وسامي إبراهيم السويلم في "فقه التدرج في الاقتصاد الإسلامي"، والدكتور أحمد الريسوني في فقه الثورة، وغيرهم كثير، وهم بين موافق على التدرج ومانع له.
وهنا يجب التفريق بين من يحارب تطبيق الشريعة، لكنه مضطر إلى تطبيق شيء منها، خوفاً من إثارة الرأي العام، فهو عدو للإسلام... وبين من يحاول تطبيق ما استطاع منها، خوفاً من قوى داخلية أو خارجية تدمّر كل جهوده لو أراد تطبيقها كاملة، فهذا مسلم يُثاب على ما يجتهد في ذلك، ويُعذر على ما يخطئ في اجتهاده لدى التطبيق، فقد يتعجّل فيطبق أكثر مما يتحمله واقعه، وقد يقصّر فيطبق أقل مما يتحمله الواقع.
العوائق أمام تطبيق الشريعة اليوم:
1- شيوع ثقافة العلمانية بين أبناء المسلمين، نتيجة للمناهج المدرسية التي رسمها الكافرون وأذنابهم، ونتيجة ما تبثه وسائل الإعلام المحلية والعالمية...
2- السياسة الدولية التي تحارب أي خطوة نحو تطبيق الشريعة.
3- واقع الدول الإسلامية وارتهانها للدول الكافرة.
4- التشريع القائم في بلاد المسلمين الذي لا يكاد يتوافق مع الشريعة.
5- الواقع الاجتماعي والتربوي والاقتصادي عند المسلمين اليوم متخلف، فلا يقدر على مواجهة الضغوط.
6- رفض بعض الإسلاميين فكرة التدرج في تطبيق الشريعة، فهذا يجعلهم يقاومون من يسير في طريق التدرج، بحجة أنه يتنازل ويساوم ولا يحكم بما أنزل الله. وإن قَبِلْنا رفض هؤلاء وتفهّمناه فلا نقبل منهم أن يسايروا من يقصي شريعة الله ويقاوم الدعاة إليها، ثم يعارضوا من يطبق ما أمكنه منها.
وسوم: العدد 706