جذر إسلامي للعلمانية: الخلافة والسياسة

هناك ما يشبه الإجماع على أن الخلافة باعتبارها صيغة للحكم الإسلامي انتهت بنهاية الخلافة الراشدة، وحل محلها ما بات يعرف في الأدبيات الإسلامية بالمُلك. المرويات والآراء التي تقول بذلك كثيرة. من المرويات أحاديث نبوية تنبأت بهذا المآل الديني - السياسي. ففي حديث يصفه المختصون بأنه حسن، يروى عن النبي (صلى الله عليه وسلم) أنه قال: «خلافة النبوة ثلاثون سنة، ثم يؤتي الله ملكه - أو الملك - من يشاء». وفي لفظ آخر «تكون الخلافة ثلاثين عاماً، ثم يكون الملك»، أو «تكون الخلافة ثلاثين سنة، ثم تصير ملكاً».

المقصود بـ «خلافة النبوة» في هذا السياق الخلافة الراشدة التي بدأت بأبي بكر الصديق وانتهت بعلي بن أبي طالب. في الحديث الذي رواه مسلم في صحيحه أن النبي قال: «ستكون خلافة نبوة ورحمة، ثم يكون ملك ورحمة، ثم يكون ملك وجبرية، ثم يكون ملك عضوض». هذه وغيرها أحاديث استشرافية تتنبأ بالمراحل التي سيكون عليها الحكم الإسلامي في طبيعته وعلاقته بالناس بعد وفاة النبي. وهي أحاديث تفيد بأن مسار تطور الحكم سيكون من حيث الزاوية الدينية تراجعياً من مرحلة إلى التي تليها. اللافت أن السمة الغالبة للحكم في التاريخ الإسلامي بحسب هذا الحديث وأمثاله هي السمة السياسية وليست الدينية. ففي حديث مسلم المذكور سيتراجع الحكم من كونه خلافة نبوة ورحمة (أي حكم ديني) إلى ملك ورحمة (أي حكم سياسي عقلاني. لاحظ التراجع من الخلافة إلى الملك مع بقاء الرحمة). المرحلة التالية أسوأ لأن الملك فيها سيكون جبرياً. والمرحلة الأخيرة هي الأسوأ، لأن الملك فيها لن يقف عند حدود الجبرية، بل سيتصف فوق ذلك بأنه «ملك عضوض».

هذه النظرة التراجعية للحكم جزء لا يتجزأ، كما يبدو، من رؤية إسلامية للتاريخ، كما في الحديث الذي يتنبأ بالمآل الذي سينتهي إليه الإسلام. إذ يقول: «بدأ الإسلام غريباً، وسيعود غريباً كما بدأ، فطوبى للغرباء...» الحديث، وما يضيف إلى تأكيد الوجهة التراجعية لتاريخ الحكم ما أفصحت عنه أحاديث عدة عما يجب على الناس أن يفعلوه أمام هذا التراجع الذي لا راد له. في الصحيحين عن عبدالله بن مسعود أن النبي قال: «إنها تكون بعدي إثرة، وأمور تنكرونها». قالوا: «يا رسول الله كيف تأمر من أدرك منا ذلك؟ قال تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم». أما في صحيح مسلم فسأل سلمة بن يزيد الجعفي رسول الله قائلاً: «... إن قامت علينا أمراء يسألوننا حقهم، ويمنعونا حقنا، فما تأمرنا؟ فأعرض عنه. ثم سأله، فأعرض عنه. ثم سأله في الثانية أو في الثالثة، فحدثه الأشعث بن قيس، قال، قال رسول الله: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم ما حمِلوا، وعليكم ما حملتم».

وفي الصحيحين عن ابن عباس قال، قال رسول الله: «من رأى من أميره شيئاً يكرهه فليصبر عليه». وفي الصحيحين أيضاً قول الرسول: «كانت بنو إسرائيل يسوسهم الأنبياء، كلما هلك نبي خلفه نبي. وأنه لا نبي بعدي. ستكون (بعدي) خلفاء فتكثر. قالوا: فما تأمرنا؟ قال: فوا بيعة الأول فالأول، ثم أعطوهم حقهم، فإن الله سائلهم عما استرعاهم». من جانبه يذكر عبدالله بن عمر أنه سمع رسول الله يقول: «من خلع يدا لقي الله يوم القيامة ولا حجة له. ومن مات وليس في عنقه بيعة مات ميتة جاهلية». وفي صحيح مسلم ينقل أبو هريرة عن الرسول قوله: «من خرج من الطاعة، وفارق الجماعة فمات، مات ميتة جاهلية، ...».

أمام هذه النصوص يبرز سؤالان. الأول: ما السبب وراء هذا المسار التراجعي الذي يبدأ بالخلافة لينتهي بالملك العضوض؟ تكمن الإجابة في التصاعد المستمر لضغوط السياسة بمتطلباتها وضروراتها الدنيوية على حساب الخلافة بمقتضياتها وإلزاماتها الدينية. السؤال الآخر في هذه الحال: إذا كان النبي عرف مسبقاً، من خلال الوحي المباشر أو الإلهام الرباني بأن هذا هو المسار الذي سينتهي إليه أمر الحكم من بعده، فلماذا لم يحتط لذلك بوضع قواعد وضوابط لهذا الحكم تلجم، أو على الأقل تحد، من اندفاعه للخروج من ضوابط الخلافة إلى مغريات السياسة وضروراتها؟ هذا سؤال يتسق منطقياً مع المسار التراجعي للتاريخ، وما كان ينبغي لشخصية بحجم ووزن النبي أن تفعله إزاء هذا المسار. لكنه سؤال، من ناحية أخرى، قد لا يتسق مع حقيقة أن الأحاديث كما ترويها أهم مدونات السنة النبوية تقر وتسلم بالطبيعة البشرية لمسار التاريخ وإكراهاته. وهي طبيعة تعبر في التصور الإسلامي عن إرادة إلهية مسبقة، إرادة نهائية، وبالتالي لا يمكن حتى للنبي أن يفعل حيالها أي شيء يحد منها.

أكثر ما يلفت النظر في مجموعة الأحاديث النبوية التي يمكن وصفها بأنها أحاديث سياسية أمر آخر لم يلتفت إليه أحد من قبل، وهو أن سردية ومضامين هذه الأحاديث عن التاريخ والحكم، ومؤداها في الأخير إنما هو إقرار ضمناً - لا تصريحاً - بأن انفصال الديني عن السياسي، وتناقض الملك (الدولة السياسية) مع الخلافة (الدولة الدينية) إنما هو من طبائع الأمور التي مضت بها إرادة الله، وأنه لا أحد - حتى النبي - يملك القدرة على رد هذه الإرادة من الوصول إلى خواتيمها. أعد النظر في حديث مراحل الحكم الذي ذكرناه أعلاه وستلاحظ أن سرديته أولاً تسلم بشكل نهائي بما سيؤل إليه أمر الحكم. سيتحول من كونه في مبتدئه «خلافة نبوة» لينتهي إلى «ملك عضوض». لم يسأل أحد النبي كيف، ولماذا سيكون مسار الأمر على هذا النحو الثابت في قسريته؟ كان السؤال الوحيد الذي واجهه النبي وهو يؤكد هذا الواقع: ماذا علينا أن نفعل في هذه الحال؟ وهو سؤال أخلاقي نبيل لمن يريد أن ينجو بنفسه من تبعات هذا التحول على إيمانه وتمسكه بأهداب دينه. ودائماً كانت إجابة النبي تأتي لتؤكد المؤكد ذاته: التحول ماض، ولا شيء يمكن فعله إلا الطاعة: «اسمعوا وأطيعوا، فإنما عليهم (ولاة الأمر) ما حمِلوا، وعليكم ما حملتم»، أو «تؤدون الحق الذي عليكم، وتسألون الله الذي لكم»... إلخ. وهذه الطاعة واجبة وجوباً على كل مسلم قد يترتب على عدم الامتثال لها انتكاس الفرد من حال الإسلام إلى حال الجاهلية. وفي هذا أيضاً تسليم بطبيعة التاريخ السياسي وتحولاته، ومن ثم بتراجع الخلافة لمصلحة السياسة، وانفصال الدين عن الدولة مع بقاء الهوية الإسلامية. الاستثناء الوحيد لشرط وجوب الطاعة أنه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. ومن الواضح أن التحول من الخلافة إلى الملك ليس من المعاصي في شيء، وإلا لما فرض النبي وجوب الطاعة حتى تحت ظل الملك العضوض. الاستثناء هنا يفتح مجالات واسعة للحركة أمام الحكام والمحكومين، لكنه لا يغير من مسار الأمور ووجهتها شيئاً.

قد يقال بأن صحة هذه القراءة تعتمد على درجة صحة الأحاديث السياسية، وهو ما يتطلب العودة إلى التدقيق تفصيلاً في هذه المسألة. لكن ينبغي الانتباه إلى أنه حتى لو ثبت مثلاً بأن كل هذه الأحاديث من دون استثناء موضوعة، وبالتالي تعبر قبل أي شيء آخر عن الصراعات السياسية التي فجرتها الفتنة الكبرى بعد مقتل الخليفة الراشدي الثالث عثمان بن عفان، فإنها بذلك تكون نصوصاً تعكس التحول السياسي الذي وضع حداً للخلافة الراشدة، ودشن مرحلة الدولة السياسية. وبذلك فهي تعبير دقيق عن مرحلتها التي أعيد فيها تشكل الدولة الإسلامية كما عرفها التاريخ الإسلامي. ولو افترضنا العكس، أي صحة جميع الأحاديث السياسية، فإنها تعبر عن الأمر نفسه وإن بصيغة استشرافية. ما يمكن أن يكون بين هذين الافتراضين لن يؤدي إلى نتيجة مختلفة. في كل الحالات تتسق مضامين هذه الأحاديث السياسية تماماً مع غياب أي نص مباشر في القرآن عن الدولة الإسلامية: طبيعتها، وهيكلها، وعلاقتها بالمجتمع، وشروط من يتولى الحكم فيها، ...إلخ. في الوقت نفسه تتضافر هذه الأحاديث مع القرآن، ثم مع التجربة السياسية الإسلامية منذ السقيفة وحتى الآن على أن مسألة الدولة والحكم في الإسلام هي مسألة سياسية دنيوية، وليست مسألة دينية، وبالتالي خضعت في نشأتها وتحولاتها لنواميس الدنيا، والمجتمع الإنساني قبل أي شيء آخر. ماذا قال الفقهاء عن ذلك؟ للحديث بقية.

وسوم: العدد 713