ثقافة التحريم

جميل السلحوت

[email protected]

ومن الأمور التي لم تعد عجيبة في عصر هزائمنا هذا أن تجد بين ظهرانينا من يحرّمون صنوف الابداع، ويحاربونها، فهم يحرّمون القصّ والرواية والفن التشكيليّ والنحت، والموروث الشعبيّ وغيرها، ولولا أن الرسول استمع للشعراء لحرّموا الشعر، مع أنهم يحرمون شعر الغزل، ولم ينتبهوا الى قصيدة كعب بن زهير التي مدح فيها خاتم النبيين، مع أنّه افتتحها بالغزل: بانَتْ سُعادُ فَقَلْبي اليَوْمَ مَتْبولُ مُتَيَّمٌ إثْرَها لم يُفْدَ مَكْبولُ وأنه واصل الغزل والتشبيب في أكثر من ثلثي القصيدة الى أن وصل مديح الرسول بقوله: أُنْبِئْتُ أنَّ رَسُولَ اللهِ أَوْعَدَني والعَفْوُ عَنْدَ رَسُولِ اللهِ مَأْمُولُ فطرب عليه الصلاة والسلام للقصيدة وخلع بردته "عباءته" على الشاعر. ومع ذلك فقد وجدنا من يهاجم الشاعر الكوني الراحل محمود درويش، بل ويكفره. تماما مثلما لم تنتبه حركة طالبان الى أن الخلفاء المسلمين لم يدمّروا حضارات الشعوب التي سبقت الاسلام، فأبقو على تماثيل ونقوش الفراعنة في مصر، وتماثيل بوذا وغيره في بلاد الأفغان وغيرها من البلدان، فقامت طالبان بتدمير تماثيل بوذا لتقف في مواجهة مع العالم. فهل طالبان تفهم الاسلام أكثر من سابقيها من المسلمين؟ ويتساءل البعض عن سبب مواكبة الفن التشكيلي في بلاد العربان التطور الذي وصل اليه الفن نفسه في بلدان أخرى زاد فيها ثمن بعض اللوحات على مئة مليون دولار. ويتناسون وجود أشخاص بين ظهرانينا وحتى يومنا هذا يحرّمون الفنون التشكيلية، وما تحطيم المسلمين الأوائل للأصنام إلا تحطيم للآلهة الوثنية، فهل هناك خوف في أيامنا هذه أن يعود من بين المسلمين من يعبد الأصنام؟ ولم ينتبه محرّمو الفن القصصي أن في القرآن الكريم قصصا، ولم ينتبهوا أن حكايات الف ليلة وليلة كتبت في العصر العباسي، وجميعها حكايات جنسية خرافية، فلماذا لم يمنعها الخلفاء المسلمون. ولماذا لم يمنعوا السير الشعبية الأخرى كسيرة بني هلال و"سيرة معن بن زائدة" وسيرة"الزير سالم" وسيرة عنترة بن شداد" وغيرها؟ وخضوعا لثقافة التحريم فان بعض مؤرخي الثقافة عند العربان، أرجعوا أن الفن الروائي والقصصي في بلاد العربان بدأ مع بدايات القرن العشرين، عندما نقله بعض الدارسين في أوروبا عن الآداب الأوروبية. ولم يكلفوا أنفسهم عن البحث عن أصوله العربية، أو أنهم لم يربطوا ابتعاد المبدعين عن كتابة هذه الفنون لوجود مفتيي التحريم في عصور مختلفة.واذا كان هناك من يحرّم الابداع دينيا لجهله بالدين، فان هناك -ومع الأسف- من يحرم الابداع عند البعض من منطلقات طبقية وعائلية، لأنه يعتقد أن الابداع حكر على عائلات وفئات معينة، توارثت شهرتها أبا عن جدّ من تذيلها للأنظمة الحاكمة بما فيها أنظمة احتلالية غريبة. وأصحاب فتاوي التحريم المنغلقون في تفكيرهم، بل ولا يعرفون أمور دينهم الصحيح، تجاوزوا حدود تحريم الفنون الابداعية الى تحريم الخروج على الحاكم الظالم، كما شاهدنا على شاشات التلفزة من حرّموا الخروج على الرئيس المصري المخلوع حسني مبارك. وعندنا هناك من يعتبر نشر وفضح الفساد المستشري في بعض مؤسساتنا، ومنها مؤسسات ثقافية بأنه تشهير وغيبة ونميمة، وكأن فضح الفساد رذيلة، واستمراريته فضيلة. والحديث يطول.