هندسة السقوط

إن أقوى أساس تستند عليه قوة الدول هو الأساس القيمي لها والذي يعكس جملة من المباديء والاخلاق والمواقف (القيم) ، ولم تكن القوة الاقتصادية ولا العسكرية الفعالة لتقوم لولا وجود أساس قيمي(حقيقي أو مزيف) ترتكز عليه تلك الدول في تحديد مواقفها وتبرير سياساتها وتخاطب من خلاله شعوبها والدول والشعوب الأخرى ، فالأساس القيمي الحقيقي يصمد ويمتد ، والمزيف يتهاوى وإن صمد إلى أمد . ولا يخفى على أحد أن السعودية تمتلك أقوى أساس قيمي في العالم بأسره وبالذات لدى دول العالم الإسلامي ، إلا أن ما نشهده اليوم من أحداث مذهلة بمعنى الكلمة يعكس إرادة ماكرة لإسقاط السعودية قيميا أمام العالم الإسلامي وتعكس أيضا (ممارسات خاطئة تخدم هذه الإرادة ) .

إننا أمام هندسة تستهدف إسقاط السعودية قيميا وعزلها عن العالم الإسلامي .. لم تكن هذه الهندسة حديثة بل لقد باشر المهندسون عملهم منذ سنين وتجلت مهامهم في الإعلام السعودي من خلال نشر مقالات وتغريدات تطال الدين الاسلامي!! 

ليس الأمر عفويا أن يتواتر هؤلاء الكتبة والإعلاميون على استفزاز المسلمين في دينهم بمناسبة ودون مناسبة .. استمر هذا الحال سنينا بهدف زعزعة قيمة المملكة العربية السعودية في نفوس المسلمين وهم يشهدون تطاولا على شريعة الله دون أن يتم محاسبتهم وإيقافهم .. وليس سرا لو قلنا أن هذه الممارسات قللت من قيمة السعودية لدى شعوب العالم الإسلامي وأوجدت تناقضا بين الواقع والشعار وشرخا في عدالة المحاسبة .

ولم يكتف مهندسو السقوط بهذا الاستفزاز بل لقد اتخذوا منحى آخر صارخا جدا وجريئا وهو الاصطدام الدنيء الرخيص مع شعوب العالم الإسلامي ، وإثارة الفتن وإيغار القلوب ، ولو استعرضت معي أيها القاريء مواقفهم وقارنتها بالمواقف السياسية المعلنة ستجد أنهم لا ينسجمون مع المواقف السياسية المعلنة !!

فمن الذي يحركهم إذن ؟ 

إذا كان هجومهم على ضحايا الإنقلاب في مصر تحت مبرر المواقف السياسية الغير صريحة أصلا ، فما هو مبرر هجومهم على تركيا !! والأفظع من ذلك كله ما نشهده هذه الأيام من هجمة وقحة دنيئة على دولة قطر ، يستميت أربابها بشكل ملحوظ في خلق عداوة بين الدولتين مستخدمين كل ما يستطيعونه من أساليب _وللأسف_ أساليب دنيئة ، مع أن الدولة (قطر ) من دول الخليج المشاركة في عاصفة الحزم والتي لها تاريخ مشرف مع بلادنا كدولة شقيقة وجارة وكشعب هو أقرب الشعوب لنا في العادات والطباع والقيم العربية الإسلامية الرفيعة التي تعكس توحدا في المواقف بين الشعبين قبل الحكومات .. ما المصلحة من هذه الهجمة التي لا تنسجم مع المواقف المعلنة للقيادة السعودية ؟؟

إذن من الذي يحرك هؤلاء !!!

ولماذا هذه الانتقائية والتناقضات في مبرراتهم .. فالإعلام المصري (السيساوي ) تطاول وتهجم على بلادنا قيادة وشعبا بشكل لا يرضاه سعودي يحمل ذرة من شرف وكرامة ، ومع هذا صمت مهندسو السقوط صمتا مريبا في حين انقضوا بكل ضراوة بعد اختلاق فرية لم يسندها عقل ولا واقع ولا حتى ظروف ليصبح إعلامنا أسوء وأحقر من إعلام السيسي !!

ومن هنا تأمل موقفهم من إعلام السيسي ستتعجب من التقبل لإساءته .. وتتعجب أيضا من التشابه .. فإعلامنا لم يصمت عن إساءته فحسب بل اتخذه قدوة وانتهج نهجه في الكذب والوقاحة !!

ولو تتبعت أيها القاريء الكريم كل مبررات مهندسو السقوط ستجدها من هذا النوع (إنتقائية وتناقض ) فتركيا بها دور دعارة فنهاجمها و(.....) بها دور دعارة نحترمها !!! ، وتلك دول اتصلت بإيران بأي شكل دبلوماسي فهي خائنة ، ودول أخرى تمد جسورا من الاتصال مع إيران ومع هذا صديقة مأمونة !!

إن مهندسو السقوط لا يستندون على مبررات نزيهة ثابتة بل لا يشك عاقل أن لهم أهدافهم الخاصة التي فضحتها ممارساتهم .

وتنشط إجراءات السقوط هذه مع نشاط إجراءات تغريب السعودية والقضاء على سماتها الخاصة بها وهي اختصاصها من بين دول العالم كله بتطبيق تعاليم الإسلام مما يعكس أجواء إسلامية لا يراها المسلم إلا هنا في السعودية .. وهاهي السعودية تفقد شيئا من قيمتها في قلوب المسلمين بقدر ما تسمح بمظاهر التغريب والفساد والمنكرات .

وأيضا خطاب الرئيس الأمريكي ترامب الذي صنف فيه حركة حماس ضمن الجماعات الإرهابية و أمام زعماء العالم الإسلامي وفوق ثرى الأرض السعودية التي تمثل مركز العالم الإسلامي كله جاء ضمن الهندسة الماكرة للسقوط القيمي لبلادنا .. لم يكن عفويا أبدا اختيار ترامب لحركة حماس التي يتفق على تأييدها شعوب العالم الإسلامي أكثر من أي حركة أخرى باعتبارها تمثل الجهاد الحقيقي الذي لا غموض فيه مع المحتل والعدو الأكبر وهو الكيان الصهيوني الغاشم ، ولكون هذه الحركة بالذات لم تؤذ أي طرف إسلامي ولم تتسلق على حساب غيرها رغم الوضع الشنيع الذي تعيشه بسبب حصار الأعداء والخونة وخذلان المسلمين .. وليس ذلك فحسب بل إن اختيار الرياض (كمكان) وقمة الرياض (كتوقيت) وأمام زعماء العالم الإسلامي (كظرف) هو محاولة ماكرة واستغلال الموقف من ترامب لإسقاط السعودية قيميا لدى الشعوب الإسلامية وليس الفلسطينيون فقط .

وسيستمر مهندسو السقوط في توتير العلاقات قريبا مع تركيا بشكل ملحوظ أكثر من ذي قبل .

ثم تأمل معي أيها القاريء الكريم الممارسات المحيرة التي لا تجد لها مبررا واقعيا ولا منطقيا ومنها استعداء جماعة الإخوان المسلمين وتوحيد المواقف السياسية والإعلامية والفكرية تجاهها !!

قل ما شئت أن تقول .. صنف كما تريد .. برر بقدر ما تشاء .. لكن فكر بشكل عقلاني هل من المصلحة استعداء حكومات إسلامية لأنها من الإخوان المسلمين كتركيا ، والمغرب ، ومصر (باعتبارها الحكومة الشرعية قبل الانقلاب ) إضافة إلى حكومة حماس في فلسطين ؟ واستعداء أحزاب سياسية معتبرة في بعض الدول كالكويت والأردن وتونس واليمن ؟ واستعداء شريحة كبيرة من الشعوب الإسلامية المؤيدة لهذه الحكومات والأحزاب ؟؟

أضف إلى ذلك السؤال الأهم .. ماهو جرم هؤلاء وأين إرهابهم المزعوم ؟؟؟؟

لقد كانت بداية مركز اعتدال لمحاربة الفكر المتطرف تصب في مصلحة مهندسو السقوط القيمي ، فباكورة التصريح من رئيس المركز حول محاربة فكر الاخوان والسروريين توحي بمتاهة لا نهاية لها لن تقود البلاد إلى الأمن بل ستخلق تهمة فضفاضة قابلة لإلصاقها بأي أحد إذ لا معالم محددة لها ولا براهين على تفسيرها ...

وستمنح مهندسو السقوط فرصا أكثر لمواصلة عملهم في إيجاد الشقاق وخلق العداوات وعزل السعودية قيمياعن العالم الإسلامي ومضايقة ومهاجمة كل من يعيق عملهم بحجة الإخوان ، فيتم التهجم على الدول الشقيقة بهذه الحجة ، ويتم مهاجمة الشرفاء من الشعب السعودي الذين لم يرضوا بهذه الدناءة والفتنة بذات الحجة أيضا !!

فهل سينتبه اعتدال إلى النتيجة التي تؤول إليها هذه التصورات ؟؟

أضف إلى ذلك حقيقة مهمة وهي : أن محاربة الفكر المتطرف لا بد أن تتبلور في موقفين متوازين احدهما الموقف من أصحاب هذا الفكر ، والآخر هو الموقف من المتعاطفين مع أصحاب ذلك الفكر .

فهل ستتخذ السعودية موقفا من جماعة الإخوان المسلمين و المتعاطفين معهم ؟؟

إذن من بقي من العالم الإسلامي سوى شريحة قليلة .. وأتمنى لو نتأمل _ بوعي وصدق وبعيدا عن عاصفة التجييش ضد الإخوان _ هذه الشريحة القليلة التي ينتمي لها من يهاجم الإخوان في مصر وفي تركيا وفي فلسطين ؟

هل يعقل أن تضحي السعودية بعلاقتها بتلك الدول والأحزاب والمؤيدين لهم من شعوب العالم الإسلامي وتحتفظ بود تلك الفئة القليلة المعادية للإخوان ومن يتعاطف معهم !!!!

ليس القضية هو عدم تقبل جماعة الإخوان المسلمين فهذا من حق بلادنا أيا كانت وجهة نظرها ؛ لكن المصيبة في نعتهم بالإرهاب واستعدائهم والتضحية بهم كسبا لود من  لا يؤمن غدره .

إن السعودية كدولة تتزعم العالم الإسلامي لا بد أن تُبقي على علاقتها القوية مع كل الأطراف لتواجه عدوها الحقيقي الظاهر وتغلق منافذ الغدر ببقائها قيمة معتبرة لدى جميع دول وشعوب العالم الإسلامي .

لذلك لا بد أن نعي أن هندسة السقوط تعتمد على انتهاز الأخطاء والتصريحات لتمضي قدما في مشروع إسقاط السعودية قيميا أمام العالم الإسلامي بدوله وشعوبه .. ويظهر هذا بوضوح من خلال تسابقهم في انتهاز الفرص وتجاوزهم في إعلان العداوات دون انتظار للموقف الرسمي ويظهر أيضا من خلال إقصائهم لصوت العقل الذي لا ينسجم مع عدائيتهم المتطرفة وإلصاق التهم والتحريض .

إن ما أريد إيصاله من خلال هذا المقال هو نداء للعقلاء من مسؤولين وشعب .. احذروا من مهندسي السقوط ولا تستعدوا الدول والشعوب المسلمة والتفتوا إلى عدوكم الحقيقي الذي يقاتلكم ويلتف حولكم ويحرك أدواته من إرهابيين حقيقيين من خوارج وروافض يتربصون بكم ، وكفى كفى كفى استخفافا بالعقول فالإخوان المسلمون شغلهم الجهاد في حماس والتنمية في تركيا ومقاومة الظلم في مصر ولم يؤذوكم في شيء  .. وعلى الشعب السعودي الشريف أن يحبط عمل مهندسي السقوط بإظهار مروءته وعدله وأخلاقه وأن يرمم العلاقات بأخلاق الأخوة وكلمة الحق فإن ما يقوم به الشعب السعودي في إفشال هندسة السقوط ذو أثر جبار ، وإن ما تمخض عن كل تلك المحاولات في التحريش بين المسلمين أفرز وعيا لا يستهان به فشكرا للوجه المشرق لبلادي الذي لم يحجبه سواد الوجوه المغرضة .

وختاما أقول .. ستبقى السعودية قيمة في قلب كل مسلم ، وسيبقى المسلمون إخوانا كما شاء الله تعالى وأراد ولا راد لمشيئته " وألف بين قلوبهم لو أنفقت ما في الأرض جميعا ما ألفت بين قلوبهم ولكن الله ألف بينهم "

وسوم: العدد 804