أدب الدعوة إلى الله تعالى

د. أحمد محمد كنعان

لقد كانت الدعوة إلى الله تعالى مهمة سائر الأنبياء والرسل عليهم السلام، وقد بين الله مضمون هذه الدعوة فقال تعالى : (ولقد بعثنا في كلّ أمة رسولاً أن اعبدوا الله واجتنبوا الطاغوت) سورة النحل 36 . فالدعوة إلى الله تعالى هي دعوة إلى عبادة الله وحده، والتبرّؤ من عبادة ما سواه .

وقد كان رسولنا الكريم محمّد - صلّى الله عليه وسلّم - الدّاعي الأوّل إلى الله تعالى، امتثالا لأمر ربه سبحانه : (يا أيّها النبيّ إنّا أرسلناك شاهداً ومبشّراً ونذيراً وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيرا) سورة الأحزاب 45 و 46 . وقوله تعالى : (وأدع إلى ربّك إنّك لعلى هدى مستقيم) سورة الحج، 67 وقوله تعالى : (وادع إلى ربّك ولا تكونّن من المشركين) سورة القصص 87 ،

وقد امتثل صلى الله عليه وسلم أمر ربه فاستمرّ بالدّعوة حتّى انتقل إلى جوار ربه الكريم، فجزاه الله عنا خير الجزاء.

ولم تكن الدّعوة إلى الله تعالى حكرا على رسولنا الكريم صلّى الله عليه وسلم،وإنما كانت مهمة الرسل والأنبياء جميعا، ومن ثم صارت الدعوة إلى الله واجب كلّ مؤمن، امتثالا لقوله تعالى : (قُلْ هَٰذِهِ سَبِيلِي أَدْعُو إِلَى اللَّهِ ۚ عَلَىٰ بَصِيرَةٍ أَنَا وَمَنِ اتَّبَعَنِي ۖ وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ) سورة يوسف 108 .ومادامت هذه الدعوة  واجب كل فرد من أفراد الأمة الإسلامية فقد باتت الدعوة إلى الله عز وجل واجب الأمّة الإسلاميّة كلها، وفي هذا التكليف تشريف للأمة الإسلامية التي استحقت وصف الخيرية بسبب قيامها بالدعوة، كما قال تعالى : (كُنتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَتَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَتُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ ۗ) سورة آل عمران 110 . وقد جاءت الإشارة إلى فضل الدعوة إلى الله وشرفها ورفعة مقام القائمين بها في قوله تعالى : (وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلًا مِّمَّن دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحًا وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ) سورة فصلت 33 . وبين النبي صلى الله عليه وسلم فضل الدعوة إلى الله في قوله لعلي بن أبي طالب رضي الله عنه، حين أرسله مع الراية يوم خيبر : (انفذ على رسلك حتى تنزل بساحتهم ، ثم ادعهم إلى الإسلام ، فوالله لأن يهدي الله بك رجلاً واحداً خير لك من أن يكون لك حمر النعم)

ويعرف شرف الدعوة إلى الله من قام بها عبر الأزمنة، وهم الأنبياء والمرسلون والصحابة والصديقون والحواريون والعلماء العاملون، وعلى رأسهم جميعاً رسول الله صلى الله عليه وسلم .

وللدعوة إلى الله تعالى أهداف عديدة، منها إرشاد البشرية إلى معرفة ربهم، وإخراجهم من ظلمات الضلالة إلى نور الهداية، كما قال تعالى : (كِتَابٌ أَنزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ)سورة إبراهيم1

ومن أهداف الدعوة كذلك إنقاذ البشرية من شرور الأهواء والتشريعات الباطلة وتحقيق الحياة الكريمة للبشرية، كما قال تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ اسْتَجِيبُواْ لِلّهِ وَلِلرَّسُولِ إِذَا دَعَاكُم لِمَا يُحْيِيكُمْ ) سورة الأنفال 24 .

كما أن في الدعوة إلى الله تنبيه الخلق إلى ما خلقوا لأجله؛ وهو عبادة الله وحده كما قال تعالى : (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ) سورة الذاريات 56 .

وفي الدعوة إلى الله تذكير للمسلمين الغافلين أو الشاردين أو العاصين، وتنبيههم إلى ما يجب عليهم من واجبات، وما يلحق بهم من مفاسد دنيوية وهلاك أخروي إن لم يؤدوا هذه الواجبات .

وللدعوة إلى الله آداب ينبغي للداعية أن يراعيها في دعوته ؛ وأولها أن يكون على علم شرعي كاف، علما بأن الدعوة إلى الله تعالى واجب كل مسلم على سبيل الوجوب الكفائي وليست محصورة بالعلماء الذين بلغوا في العلم المراتب العالية، وإنما كل مسلم ـ ولو عامياً ـ داخل في قوله صلى الله عليه وسلم : (نضر الله امرءاً سمع منا حديثاً فبلغه كما سمعه) وقوله : (بلغوا عني ولو آية) فغير العالم يدعو إلى أصل الإسلام ، وأصل الأمور الظاهرة كالإيمان بالله وملائكته وكتبه ورسله والصلاة والصيام والحج والزكاة، وترك المعاصي مثل الزنا وشرب الخمر وإيذاء الجوار وعقوق الوالدين ونحو ذلك، وهذا القدر من الدعوة إلى الله واجب على كل مسلم.

ولا يجوز للمسلم أن يدعو إلى أمر يجهله، فإذا فعل فضلّ بكلامه أناس كان وزرهم عليه، بل يترك لأهل العلم تفاصيل الأمور الكلية وكشف الشبه وجدال أصحابها، فكل مسلم يدعو إلى ما يعلم، ولا يشترط في كل مسلم إتقان كل مسائل العلم أو التبحر فيها.

ولا يخفى أن المرأة كالرجل في وجوب الدعوة إلى الله تعالى، وللمرأة في ذلك دور لا يتقنه الرجل، وبخاصة دعوة زوجها وأولادها ومحيطها من النساء، وقد جاء الترغيب بقيام النساء بالدعوة إلى الله في آيات عديدة، منها قوله تعالى : (وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنكَرِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاَةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَيُطِيعُونَ اللّهَ وَرَسُولَهُ أُوْلَـئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللّهُ إِنَّ اللّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ) سورة التوبة 71 . وقد نجح كثير من النساء في الوصول إلى درجات عالية بالدعوة إلى الله قديماً وحديثاً ، وكن خير قدوة لمن جئن بعدهن من المسلمات؛ ويكفي الداعيات إلى الله شرفاً أن يكون أول الناس إيماناً امرأة هي السيدة "خديجة بنت خويلد" زوج النبي، رضي الله عنها، وكانت أول الشهداء امرأة هي السيدة "سمية بنت الخياط" رضي الله عنهما !

ومن آداب الدعوة إلى الله التزام الحكمة والموعظة الحسنة، امتثالا لقوله تعالى: (ادْعُ إِلَىٰ سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ۖ وَجَادِلْهُم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ۚ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَن ضَلَّ عَن سَبِيلِهِ ۖ وَهُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ) سورة النحل 125، وهذا يقتضي ممن يقوم بالدعوة أموراً منها:

استعمال الوسائل المتعددة في الدعوة إلى الله كالمنبر والجريدة والكتاب والإذاعة والتلفزيون والشريط والصورة وغير ذلك من أساليب قديمة أو حديثة، فلعل من لا يتأثر بأسلوب ينفع معه أسلوب آخر، ومن لا يصله صوت المنبر تقع عيناه على مقالة في الجريدة، ومن لا يجيد قراءة الكتاب يستمع إلى صوت المذياع أو صوت الهاتف الجوال، وهكذا... استعمال الترغيب والترهيب في الدعوة إلى الله تعالى، والحث والزجر، والإيجاز والإطناب، والثناء والهجاء، كما فعل القرآن الكريم الذي ينتقل بين تلك الأساليب انتقال الخبير البصير، فتارة يطرح الوعد الحسن الذي تطرب له الآذان وتهتز له النفوس وتتشوق إليه الأفئدة، وتارة يقرع السمع بالوعيد الذي ترتعد له الفرائص وينتفض له الجسد وتقشعر منه الأبدان ... ومن الحكمة أيضا ضرب الأمثلة المقربة إلى الأذهان، والاعتبار بالأمم السابقة، ولفت الأنظار إلى آيات الله في الكون، وصفاته الحسنى المتجلية في الخلق، ونعمه الكثيرة المنبثة في كل شيء، وأن تكون الدعوة بمناقشة عقلية رصينة، وحوار هادئ وأدلة مناسبة متقنة ... ومن آداب الداعية إلى الله تعالى أن تتوافق أخلاقه وأقواله مع المضمون الذي يدعو الآخرين إليه، حتى لا يقع تحت قوله تعالى : (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِندَ اللَّهِ أَن تَقُوُلوا مَا لا تَفْعَلُونَ) سورة الصف 2 و 3 . ولا شك بأن تخلق الداعية بأخلاق الكتاب والسنة من كرم وسماحة ووفاء وصدق ونحوه من الأخلاق الفاضلة يؤكد مضمون دعوته، ويقوي صدقه في نفوس المدعوّين، وذلك تأسيا بالمصطفى صلى الله عليه وسلم الذي كانت سيرته الخاصة والعامة خير مثال وقدوة للدعوة ومن آداب الدعوة إلى الله تعالى توطين النفس وتهيئتها على تقبل ردود الفعل المختلفة سلباً وإيجاباً، قبولاً ورفضاً، والاستعداد لتلقي الأذى بصدر واسع، فإن طريق الدعوة شاق وصعب، فيحتاج إلى طول نفس وصبر وسعة صدر اقتداء بإمام الدعاة صلى الله عليه وسلم، الذي صبر وصابر، وتحمل وضحّى، حتى أقام للدين عموده وأرسى دعائمه ، وقد سجل تاريخ الدعوة أسماء لامعة ضرب أصحابها المثل الأعلى في الصبر والتحمل كأبي بكر الصديق، ومصعب بن عمير، وأبي ذر الغفاري، وعموم الصحابة والتابعين وغيرهم، ممن صدق فيهم قول الحق تبارك وتعالى : (مِّنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجَالٌ صَدَقُوا مَا عَاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ ۖ فَمِنْهُم مَّن قَضَىٰ نَحْبَهُ وَمِنْهُم مَّن يَنتَظِرُ ۖ وَمَا بَدَّلُوا تَبْدِيلًا) سورة الأحزاب 23 . ومن آداب الدعوة إلى الله تعالى تجنب الاختلاف مع الدعاة الآخرين وعدم الطعن بهم والتجريح بأشخاصهم والانتقاص من أقدارهم والتهوين من جهودهم، فذلك مقتل من مقاتل العاملين في الدعوة، وهذا يوجب على الداعية حب كل الدعاة إلى الله، الدالين عليه، وإن اختلفت الآارء وتعددت الطرق والمناهج، فذلك لا يفسد للود قضية. وأكبر دليل على ذلك أن الأنبياء عليهم الصلاة والسلام اختلفت أساليبهم، وتعددت شرائعهم، ومع ذلك فهم إخوة متحابون، وقد قال الله سبحانه في كتابه : (وَالَّذِينَ جَاءُوا مِن بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْإِيمَانِ وَلَا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِّلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَّحِيمٌ) سورة الحشر 10 . ومن آداب الدعوة إلى الله تعالى التدرج في مخاطبة الخلق على قدر استيعابهم، والبعد عن الغرائب التي لا تطيقها النفوس أو لا تفهمها العقول، بل الاهتمام بالمسائل الكلية والأصول المعروفة .  تأسيا بما جاء عن ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لمعاذ بن جبل رضي الله عنهم حين بعثه إلى اليمن : (إنك تقدم على قوم من أهل الكتاب، فليكن أول ما تدعوهم إليه عبادة الله عز وجل ـ وفي رواية فادعهم إلى شهادة أن لا إله إلا الله وأني رسول الله ـ فإذا عرفوا ذلك فأخبرهم أن الله فرض عليهم خمس صلوات في يومهم وليلتهم، فإذا فعلوا ذلك وفي رواية ـ فإن أطاعوا بذلك ـ فأخبرهم أن الله قد فرض عليهم زكاة تؤخذ من أغنيائهم فترد على فقرائهم، فإذا أطاعوا بها فخذ منهم وتوق كرائم أموالهم) أخرجه البخاري، في كتاب التوحيد .

        وخلاصة القول : إن الدعوة إلى الله تعالى هي من لوازم إيمان المسلم؛ فإذا تخلّف عن هذا الواجب دلّ تخلّفه على نقصٍ أو خلل في إيمانه ينبغي أن يتداركه؛ فالإسلام لا يكتفي بأن يكون المسلم صالحاً مهتدياً في نفسه فقط، بل ينبغي أن يكون مصلحاً وهادياً لغيره أيضاً .