تمرينات جنيف والأسد الباقي
المدن:
تحظى جولات جنيف "التفاوضية" بالكثير من الانتقاد واللامبالاة من جانب شريحة واسعة من السوريين، بمن فيهم المهتمون بالشأن العام. ولهم الحق في ذلك، إلى حدٍ ما. فجولات جنيف، لم تنضج بعد لتصبح مفاوضات، لأن الميدان لم يقل كلمته الأخيرة. لكنه اقترب من ذلك، وفق ما يبدو.
حالما يُطلق الأمريكيون صفارة الانتهاء من لعبة السيطرة على الرقة، وطرد "داعش" من أهم معاقلها، ربما يكون صراع القوى في سوريا قد وصل إلى خاتمته، وفق قاعدة "لا غالب ولا مغلوب"، ليس بين السوريين، بل بين المتصارعين الإقليميين والدوليين، على ترابهم.
منذ أن قطعت إيران الطريق على الأمريكيين باتجاه دير الزور، وتقبلت واشنطن ذلك بمرونة. وبعد أن قطع الأمريكيون بمشاركة روسية، الطريق على الإيرانيين إلى حدود الجولان المحتل والأردن، وتقبلت إيران ذلك، بمرونة، وفق ما يظهر حتى الآن.. تُوحي التحركات الدبلوماسية بوجود قناعة لدى مختلف اللاعبين الإقليميين والدوليين، بضرورة وقف الجانب الميداني من الصراع، والانتقال إلى الجانب السياسي منه.
بطبيعة الحال، من المبكر جداً التفاؤل بحصيلة تلك التحركات، التي أُجهضت سابقات عديدة لها. لكن هذه المرة قد تكون مختلفة. فخروج "داعش" من اللعبة، والرغبة الروسية الجامحة بإيجاد خاتمة سياسية مثمرة لتورطها العسكري في سوريا، وملامح الخلاف بين الروس والإيرانيين، التي ظهرت على العلن، أكثر من مرة، ناهيك عن انخراط أكبر للأمريكيين في المشهد السوري، بصيغة ميدانية، هذه المرة.. كل ذلك يدفع حالة توازن القوى بين اللاعبين إلى مراحل النضج النهائية. الأمر الذي يتطلب تخريجة سياسية لإنهاء الصراع، وتقاسم المكاسب.
تلك التخريجة ستكون جنيف ساحتها. حيث ستخوض القوى السياسية السورية المختلفة، مدعّمةً بالمتصارعين على تراب بلادها، أشرس المعارك التفاوضية، لترتيب المشهد النهائي لسوريا المستقبل. معارك تبدو معها جولات جنيف السبع، حتى الآن، مجرد تمرينات، لتعليم المتفاوضين السوريين فنون الواقعية السياسية.
وفي هذه التمرينات، قد يكون الفريق المفاوض من جانب المعارضة، هو الأنضج حتى الآن، مقارنة بمفاوضي النظام. والسبب ببساطة، هو انسداد أفق الفعل الميداني المتاح لدى معظم فصائل المعارضة، بفيتو من داعميها. بخلاف حالة النظام، الذي لا يبدو أنه مستعد لخوض المفاوضات الجدية، حتى الآن. وهو ما أكده تصريح الممثل البريطاني الخاص بالشأن السوري، الذي طالب الروس بإزاحة رئيس وفد النظام المفاوض في جنيف، بشار الجعفري، "بسبب مماطلته وإعاقته للمفاوضات".
مفاوضات جنيف لم تبدأ حقيقةً. وهو ما أقرّ به دي ميستورا لشخصية ممثلة للاتحاد الديمقراطي الكردي في جنيف، حينما قال له، إن جولات جنيف السبع حتى الآن، مجرد مشاورات ومناقشات، وأن المفاوضات الحقيقية لم تبدأ بعد.
فالحديث عن الدستور ومكافحة الإرهاب وإيصال المساعدات ووقف إطلاق النار، وحتى بقاء الأسد من عدمه.. كلها قضايا لا صلة لها بمفاوضات الحل النهائي. تلك المفاوضات التي ستتناول، حينما تبدأ، أكثر القضايا جوهرية في مستقبل سوريا، وهي إعادة هيكلة الجيش ومؤسسات الأمن. وكذلك، تقاسم السيطرة على ثروات التراب السوري. حيث ستتضح أكثر، معالم العُقدة الكردية.
لكن، بخلاف ما يعتقد الكثيرون، من المرجح أن العُقدة الكردية، التي لا ترتبط بالديمغرافيا أو الجغرافيا، بقدر ما ترتبط بالثروات التي تكمن تحتها، قد تجد طريقها للاتفاق، بصورة أسرع، مقارنةً بعقدة من يمسك بالجيش والأمن.
نظرياً، فإن الإقرار ببقاء بشار الأسد على سدة السلطة في دمشق، يعني عملياً، الإقرار باستمرار إمساكه بأدوات القسر المرتبطة بالجيش والأمن. وهي لُب المشكلة السورية. وهي مصدر قوة الأسد، الرئيسية. ونحن نعلم اليوم، أن معظم القوى الفاعلة في المشهد السوري، تقرّ علناً أو ضمناً ببقاء الأسد. لكن أحداً لم يناقش، إعادة هيكلة الجيش وأجهزة الأمن، وتحديداً الأول منهما. فالجميع يعلم، أن لا جيش سورياً قائماً اليوم فعلياً. هناك بقايا جيش، يشكل الواجهة الشرعية لنشاطات مليشيات محلية وأجنبية، تقاتل دفاعاً عن نظام الأسد، وعن مصالح حلفائه. وحينما سيتم طرح قضايا الحل النهائي في سوريا، سيكون السؤال: ما مصير فصائل المعارضة المسلحة، ومقاتليها، من المنخرطين في العملية التفاوضية؟، وكذلك، ما مصير القوة المسلحة التابعة للأكراد؟.. هل ستصبح تلك الفصائل المسلحة جزءاً من الجيش السوري، في إطار عملية هيكلة شاملة لتركيبته؟، وهل سيقبل الأسد بذلك، ويتنازل عن سيطرته على الجيش، أو يقبل بانحسار سيطرته على قطاعات منه فقط؟
ذلك السؤال المُغيّب عن جولات جنيف التدريبية، المتتالية. وهو السؤال الذي يهرب منه نظام الأسد. ويخشاه الروس من دون شك. فكيف تريد إعداد حل سياسي بين أفرقاء، يشكلون معاً دولة واحدة، ومن ثم تطلب منهم حل فصائلهم المسلحة من دون أن يكون لهم نصيب في جيش البلاد المستقبلي؟
وهنا سنواجه في مستقبل سوريا، سيناريوهات عديدة، شائكة. أبرزها ربما، "فدرلة الجيش السوري"، بحيث يصبح كل فصيل رئيسي، مسؤولاً عن مناطق نفوذه الحالية، بما فيه، فصيل "الجيش السوري" المتبقي تحت قبضة نظام الأسد. لكن ذلك الحل، إن تم التوافق عليه، يطرح سؤالاً أعقد، ما مصير الميليشيات الأجنبية التي تقاتل إلى جانب نظام الأسد؟، هل ستغادر البلاد؟، ومن سيرغمها على ذلك؟
حالما يضطر الروس إلى مواجهة تلك الأسئلة بشكل جدّي، سيفترقون عن الإيرانيين في سوريا. ربما، بصورة نهائية وحاسمة.
وأياً كان المُنتظر في مستقبل مسيرة جنيف، يبقى أنها حتى اليوم لم تتأهل بعد، لتكون منصة تفاوضية حقيقية في الأزمة السورية. لكنها قد تكون في وقت قريب.
وسوم: العدد 729