نظرية الأواني المستطرقة

نظرية الأواني المستطرقة المشهورة، تشير إلى أن السائل يأخذ شكل الأواني التي يشغلها ويعلو فيها بمنسوب واحد. وعندما نُسقط هذه النظرية على المقاومة، فهذا يعني أن تَشْغَل المقاومة كل مجالات الحياة على اختلاف أهميتها وحجمها، وتعلو فيها جميعها بمنسوب واحد رغم ما بينها من اختلاف في العمق والحجم والأهمية. وبهذه الطريقة يُشار إلى مجتمع ما على أنه مجتمعٌ مقاوِم.

هذا يعني أن يتدفق الفكر والسلوك المقاوِم في كل بيت ومسجد ومدرسة وجامعة ومستشفى وإذاعة وفضائية ومؤسسة أهلية أو خاصة أو عامة، وكل منظمة أو حركة، وفي كل الأماكن في الداخل والشتات. ويأخذ هذا التدفق والانسياب اتجاهين: أفقي، ورأسي.

وحيث أن المقاومة تنشأ كردة فعل على وجود احتلال، وحيث أن الاحتلال اليهودي لفلسطين تسبب في تهجير معظم أهلها، فتفرقت بهم السُبُل، وتشتتوا في أصقاع الأرض. فإن مجتمع الفلسطينيين المقاوِم يجب أن يشمل كل مجتمعات الفلسطينيين حيثما كانوا، فيحقق ذلك وحدة الشعب الفلسطيني على أرضية المقاومة فكراً وسلوكاً، ويمنح الشعب الفلسطيني أينما كان صبغة الشعب المقاوِم. وهذا هو الاتجاه الأفقي.

وأما الاتجاه الرأسي لتدفق وانسياب الفكر والسلوك المقاوِم، فيقضي بأن يتدفق في كل مناحي الحياة. مثلاً: التعليم يجب أن يكون مقاوِماً، يشحذ الأبناء، ويجلو لهم حقائق التاريخ وخفايا الصراع مع العدو، ويعلمهم سُبُل المقاومة وكيف يدور الإنسان مع الحق حيث دار، وعلى المؤسسة التعليمية خلق أجواء للمقاومة. ويُحظر أن تخرج مؤسسة تعليمية عن سياق الفكر والسلوك المقاوِم لأنها ستكون ثغرة ينفذ منها العدو إلى فكر أبنائنا ويُبعدهم عن مجال مقاومته، الأمر الذي يشكل طعنة في ظهر المقاومة. ولذلك وجب على المجتمع الفلسطيني المقاوِم أن يتفحص مؤسساته التعليمية ويعالج أي خروج منها على مبادئ المقاومة، ولا فرق هنا بين مؤسسة تعليمية عامة أو خاصة أو أهلية، وهذا ما حذرت منه الآية الكريمة: (..وَلَوْلا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوَامِعُ وَبِيَعٌ وَصَلَوَاتٌ وَمَسَاجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَلَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ) (سورة الحج: 40)

وفي مجتمع مقاوِم كقطاع غزة، وَجَب الانتهاء من هذه المسألة دون إبطاء، لأنه لا معنى لبقاء مؤسسات تعليمية تجدِّف ضد تيار المقاومة، وتربي الأطفال والشباب على معاكسة التيار الذي يفرضه وجود الاحتلال.

والعمل الصحي يجب أن يكون مقاوِماً بمؤسساته وبالقائمين عليه، فليس مقبولاً، ولا مفهوماً أن يكون في المجتمع المقاوِم طبيب لا يؤمن بالمقاومة، وقد يرفض علاج المقاوِمين، أو يرفض العمل في مؤسسات صحية تتبنى المقاومة. وليس مفهوماً ولا مقبولاً أن تعاني المستشفيات والعيادات العامة أوضاعاً صحية غير مكافئة لحاجات المجتمع المقاوِم. وليس مفهوماً ولا مقبولاً أن يعاني مجتمعنا من أسلحة العدو الفتاكة ثم لا نُوجد أساليب العلاج اللازمة سواء من حيث الأجهزة والمختبرات والمختصين. وينطبق على هذا الأمر فقه فرض الكفاية؛ فالمؤسسة الصحية آثمة ما لم توفر الحد الكافي من سُبُل معالجة الإصابات بالفوسفور الأبيض على سبيل المثال، وتوفير الحد الكافي من جرّاحي إصابات الحروب، ويُقاس على ذلك في سائر ميادين المجتمع.

خلاصة القول: إنه لا يكون المجتمع مقاوِماً ما لم يتغلغل فكر المقاومة وسلوك المقاومة في داخل كل مؤسسة في المجتمع. وحتى يقع المُراد، فعلى حركات المقاومة وسلطة المقاومة أعباء كبيرة في تنفيذ هذا الهدف.

إن التأسيس لمجتمع مقاوِم هو أمر غير متيسر في الضفة الغربية والأرض المحتلة عام 1948م والشتات الفلسطيني بنسبة كبيرة بينما هو متاح في قطاع غزة. وهذا يُلقي عبئاً إضافياً ومسئولية خاصة على قطاع غزة بأن يتم تأسيس المجتمع المقاوِم ونشر فكر وسلوك المقاومة في كل مؤسسات المجتمع بلا استثناء لخلق حالة من النهوض والتوازن في المجتمع الفلسطيني عامة، كي لا نجد أنفسنا بعد عشر سنين ننطلق من النقطة نفسها التي بدأنا منها.

وسوم: العدد 733