حَدِيثٌ في العِلم
نَظريَّاتٌ في نشوءِ الكون - ( العلومُ أنهارٌ تصبُّ في محيطٍ واحدٍ هو المعرفة ثم الإيمان ) -
لقد حدثَ حادثٌ كونيٌّ غريبٌ لم تشهدهُ وتعرفهُ البشريَّةُ من قبل ولا من بعد وذلك في القرن الحادي عشر في سنة 1054 ميلاديَّة وبعد انقضاء حوال نصف قرن من الزمان عن الألف الأولى من الميلاد إذ ظهرت آنذاك نجمةٌ لامعةٌ أضاءت السماءَ كالقمر وظلت مُشِعِّةً وواضحة ومرئية في النهار...وهذه الحادثةُ الغريبةُ والفريدة سجلت في أوروبا وفي الشرق الاقصى في الصين بصفة خاصة .وبقيت هذه النجمةُ تلمعُ في السماءِ ليلا ونهارا لمدة أسبوعين وبعد ذلك بدأت تخبو وتختفي بشكل تدريجي ولم يبقَ منها اليوم سوى سحابة مشتتة لا تُرى بالعين المجردة ويطلق عليها سحابة السرطان crab nebula”" .
وبالتأكيد هذا الحادث الغريب أثار في وقته ردودَ فعل قويَّة جدا في الأوساط الدينيَّةِ والشعبيَّة ، والكثيرون اعتبروهُ علامة َ قربِ انتهاء العالم .. وهو الحادثُ الذي انتظرهُ الكثيرون مع نهاية الألف الأولى الميلاديّة .
إنَّ الذي حدثَ في ذلك الوقت هو نهاية نجم من نجوم السماء ( شمس ) ضاقت بما حملت من طاقة داخلها فانفجرت ولمعَ انفجارُها في السماء ، وتناثرت شظاياها وضاعت واختفت في الفضاءِ الواسع والفسيح ... وهذه الظاهرة يُطلِقُ عليها العلماءُ اليوم كلمة "super nova"... وهذا الحدث الأسطوري الذي رآهُ الناس في ذلك الزمان في القرن الحادي عشر الميلادي هو في الواقع تسجيل وتوثيق لما حصل قبل ذلك التاريخ والعهد بآلاف السنين. إن المسافة بين كرتنا الأرضيّة وبين تلك النجمة (الشمس) المنفجرة حوالي 5000 سنة ضوئيَّة . وهذا معناهُ ومفادهُ أنَّ صورة الحدث ( الذي شهدته البشريَّة) تصل إلى الأرض في مثل هذه المدة ..والذي رآهُ الناس في ذلك الوقت في سنة 1045 إنما هو في الحقيقة قد حدث في سنة 4000 قبل الميلاد .
إنَّ الذي ينظرُ للسماء في حقيقة الأمر هو ينظر للماضي السحيق والغابر بدرجاتهِ المتفاوته والمتباعدة ويرى ما كان عليه الكون قبل آلاف السنين .. فمثلا : إذا حدثت ظاهرةٌ كونية فريدة وغريبة كالظاهرة التي ذكرتها فقد ترى بالعين المجردة من قبل البشر على سطح الأرض بعد مئات السنين وبعد أن تكون الأحوالُ قد تغيرت كليا .. أي أن أضواءَ النجوم التي تنفجر وتنتهي وتموت تصلنا بعد انفجارها بمئات وربما آلاف السنين لأنها تبعد عن كرتنا الأرضة مساحات ساحقة وخيالية ..ملايين السنين الضوئيَّة .
الكون الفسيح : إنَّ الإنسان الذي على الأرض منذ القدم منذ أن نظر إلى السماء وتأمَّلَ فيها أصابتهُ الحيرةُ والدهشةُ فيما يراهُ من نجوم وكواكب تبعد عنه مسافات طويلة وتتحرك في مَجرَّاتها باستمرار وبشكل روتيني منتظم ..فظنَّ وحسب انَّ هذه السماء بكل ما تحتويه من أجرام سماويّة قد خُلقت له دون سواه وانها تدور كلها حوله وحول الأرض التي تحمله، وكان كل قول وكلام في غير هذا المنطلق والمفهوم السائد يُعتبرُ نوعا من الكفر، خاصة في العصور الوسطى في أوروبا وفي الشرق أيضا..إلى أن فنَّدَت ونقضت مكتشفات كوبيرنكوس وجاليليو من بعده وغيرهما من العلماء الكبار تلك الأفكار والمفاهيم الخاطئة وبدأ العالم يعي ويفهم ويدرك وضعَهُ وواقعَهُ وموقعَهُ في الكون الفسيح واللامتناهي واللامحدود .. وقد أصابتهُ طعنةٌ في صميم كبريائه الإنساني عندما عرفَ قدرَهُ وقدرَ وحجمَ الأرض التي يعيشُ فوق سطحها قياسا ومقارنة بالكون العظيم من حوله .
لقد عرف الإنسانُ وتأكد انه يعيش فوق كوكب متوسط الحجم ، بل أقل من متوسط يتبعُ مع كواكب أخرى البعض يكبره والبعض يصغره نجما متوسط الحجم أيضا هو ( الشمس ) بالمقارنةِ مع النجوم الأخرى التي لا تحصى في مجرتنا والمجرات الأخرى في هذا الكون ويدور حولها دوران التابع ولا يستطيعُ أن يتحرَّرَ من تبعيتها ولا يملكُ لنفسه منها فكاكا أو استقلالا. إن هذه الشمس التي تدورُ حولها كرتُنا الأرضية وباقي المجموعة الشمسية المعروفة هي في حقيقتها نجم موجود في أسرة وعائلة نجوميَّة أخرى كبيرة تشكلُ وتكونُ معها عددا كبيرا يتجاوز ال200 مليون نجم ( مائتي مليون ) آخر وكلها أسرة واحدة في مدينة نجومية - أذا صحَّت هذه التسمية - يطلقُ عليها السديم ( galaxy ) وهذا السديم " الوطني " أي الذي تتبعهُ شمسنا يُسمَّى ويدعى "الطريق اللبني " ( milky way ) أو درب التبَّانة كما سمَّاه العرب قديما .
إن شمسَنا تقعُ في الثلث الأوسط من هذا السديم العظيم وتدور في داخله دورة كاملة كل 220 مليون سنة ، حاملة معها توابعهَا من الكواكب التي نعرفها في مجموعتنا الشمسية وهي : عطارد ، الزهرة ، الأرض، المريخ ، المشتري ، زحل أورانيوس ، نبتون وبلوتو .. وآلاف أخرى من توابع التوابع كالأقمار والنيازك والشهب والسحب الذرية .
إن الأمرَ لا يتوقف عند هذا الحد وذلك لأن المجموعة النجوميَّة أو السديم الذي نتبعهُ هو في حقيقة الامر والواقع واحد من ملايين أخرى بل مليارات من السدائم التي تملأ الفضاء الكوني اللامتناهي وتتحركُ بسرعة رهيبة لا يستطيعُ أن يتخيَّلها العقلُ البشري وقد تصل إلى 38،000 ميل في الثانية
( ثمانية وثلاثين ألف ميل في الثانية ) .
والجدير بالذكر ان العلماءَ قد اختلفوا بينهم في وضع فكرة وصورة كاملة ونهائية لنشأةِ هذا الكون ... وهل لهذا الكون بداية وهل له نهاية .. أم انه سرمدي لا بداية له ولا نهاية . وتوجد هنالك نظريتان لنشأةِ الكون وهما :
الأولى: مفادها إن الكونَ العظيم واللامتناهي موجودٌ بشكله الذي هوعليه منذ الازل وبلا بداية ولا زمان، وما الزمن سوى عامل جديد قد طرأ عليه في فترة من قترات وجوده الأولى ..وهو( الكون) مع هذا الوجود الأزلي لا يتغيرُ أبدا مع الشكل بل التغيير والتحول يكونُ في المضمون...أي ان التغيرات تحدثُ وتجري داخله مع بقاءِ وجوده واستمراريته . ويفهم من هذه النظرية بديهيا وبالتأكيد أن أصحابها ومؤيديها قد تتأثروا بالفلسفة الإغريقيَّة وبالأفكار والآراءِ الدينيَّة الصوفيَّة....بيد انَّ الإكتشافات والإنجازات العلميَّة الحديثة قد أثبتت خطأ هذه النظريَّة . والذي نقضَ وفنَّدَ هذه النظرية هواكتشاف التمدد المستمر والتباعد المستمر والدائم بين أجزاء الكون،وأيضا باكتشاف أن السدائمَ (المجرَّات) تُرَى النجوم الموجودة قرب حافتها الخارجيَّة شديدة التزاحم عن الموجودة بالقرب من داخلها.وهذا يشيرُ ويؤكد أن المادة المتباعدة ما زالت كثيقة وما زال أمامها الكثير من التشرذم والتباعد .
النظريَّة الثانية : هذه النظريةُ منطقيّة أكثر ومقبولة ومتفق على صحتها لدى معظم العلماء اليوم في عصرنا هذا وهي نطرية ( الإنفجار الكبير) " big bang " ... وقد أثبت صحة هذه النظرية ملاحظات ومشاهدات واكتشافات فلكيَّة متعاقبة أكدتها ودعمت الإيمان بها.
تقول هذه النظرية : إن الكونَ بأجمعه كان وابتدأ على شكل بذرة صغيرة حملت في داخلها كلَّ ذراتِ الكون مضغوطة ضغطا رهيبا ولكنها بذرة مظلمة معتمة وباردة .. ولقد ضاقت الذراتُ داخلها من التكديس وتفاعلت وتمرَّدت وانفجرت بشدة وعنف وتناثرت في كلِّ اتجاه وصوب.. وحدث هذا الإنفجارالكوني منذ حوال 5000 مليون سنة.ومن هذا الإنفجار الرهيب تكونت سحابةٌ قاتمة ٌ مظلمة لا حياة فيها ملأت الفراغ من حولها وراحت تتمدَّدُ استمرار . وبعد 200 مليون سنة بدأت كثافةُ هذه السحابة الكونيَّة في التقلص والتناقص وبدأت ذراتٌ منها تتجمعُ وتتراكمُ في كتل صغيرة من المادة الأوليَّة راحت تكبر باستمرار بامتصاص ذرات أخرى من السحابة حولها . هذه الذرات التي هي لبنات وأسس الكون الأوليَّة هي ذرات الأيدروجين والهليوم وهي أبسط الذرات حجما وأكثرها وجودا في الكون حتى الآن . ومع تجمع تلك الذرات ظهرت الجاذبيَّة التي تزيد هذا التجمع وتزيد تماسك المادَّة معها . وكبرت التجمعات وبدأت تتكونُ مجموعاتٌ نجوميَّة منفصلة متباعدة .
كان كلُّ هذا والكون مظلم وبارد لا يوجدُ فيه حياة ولا أنوار وأضواء ، وبعد ذلك مرت 200 مليون سنة أخرى..وقد تفاعلت فجأة الذرات المجتمعة والمضغوطة داخل المادة فاشتعلت وظهر الضوءُ لأول مرة وأنار الكون وانسحبَ وتباعدَ الظلامُ وتكونت آنذاك آلاف وملايين النجوم والسدائم المشتعلة التي تطلقُ أنوارَها في كل مكان من حولنا في الفضاء الكوني الفسيح واللامحدود..وكان الكون الذي نعرفه ونشهده الآن .
لقد كانت الدنيا كلها ظلام في ظلام ..ظلام كثيف وبارد وموحش، ثم بعد ذلك انبثق وانطلق فيها الضياء.. نورعلى نور.. وظهرت الحياة .
إن نظرية الإنفجار الكوني الكبير كل يوم تزدادُ تأكيدا وإثباتا في عصرنا الحديث من خلال الإكتشافات الفلكيّة المستمرة وخاصة مع بداية عصر الفضاء ..ولكن السؤال الذي يطرحُ نفسه هنا : إذا كان لهذا الكون بداية ألا يكون له نهاية أيضا ؟؟
يقول الكثيرون من العلماء :إن الإنفجارالرهيب المستمر سوف يبقى ويدومُ ما دامت قوتهُ الطاردة الاولى ، بيد أنه مع مرور الوقت ستتصاعدُ الجاذبية داخل أجزاء هذا الكون الفسيح والواسع وتحاولُ تجميعَ مادته داخلها ضد إتجاه الإنفجار المتباعد،وستزدادُ وتتفاقمُ قوة هذه الجاذبية بالتأكيد باضطراد حتى تتعادل مع قوة الإنفجار..وعندها يتوقفُ التباعدُ وبعدها يبدأ بالتراجع ويعود الكون كله للإنكماش والإنحسار بشكل تدريجي ..وهذا الإنكاش يزيدُ تجمع المادة ويزيد جاذبيتها ..وهكذا وعلى هذا النحو حتى تعود إلى الطريق والمجال الذي أتت منه وتفقد اشتعالها وينطفىء ويخبو نورُها ويسودُ ويهيمنُ الظلام والبرودة ويموتُ الكون بأسره .
الجديرُ بالذكر أنه قد مرَّ حتى الآن 5000 مليون سنة من عمر الكون وما زال الكونُ صبيا وفتيًّا بالمفهوم والمصطلح العلمي .. وَيُرَجِّحُ ويقدرُ معظم العلماء تقديرا قريبا جدا للدقة العلميَّة أنَّه بقي 15،000 مليون سنة أخرى حتى يعود التقلصُ والإنكماشُ الكوني وتبدأ رحلة التلاشي والزوال.
إنَّ هذه الأرقام الفلكيَّة تبدو خياليَّة وأسطوريَّة لا يكادُ يستوعبُهَا ويصدقها العقلُ البشري ، ولكن في حقيقة الأمر هذه حقائق واستنتاجات علمية مثبتة ومدعومة بالبراهين وهي التي تُقيِّمُ وتُحَدِّدُ أهميَّة ومكانة الكرة الأرضية التي نعيشُ فوق سطحها..الكوكب التابع لنجم متوسط الحجم ( الشمس ) في داخل الكون الواسع والفسيح. وعلى الرغم من صغر حجم الأرض نسبيا بالنسبة للكواكب والأجرام السماويَّة الأخرى في الكون .. هذا الكوكب الذي لا يكادُ يكون لهُ وجودٌ محسوسٌ ولكنَّ الإنسانَ المتطور الذي يحيا فوقه قد امتلكَ العقلَ والخيالَ والعلمَ وأصبحَ بعد آلاف بل ملايين السنين من وجودهِ على سطح هذا الكوكب يفهمُ حقيقة وقصَّة نشوءِ الكون بداية ونهاية ويفكر كيف سَيصلُ في السنوات والعقود والقرون القادمة إذا بقي حياة ٌ على الأرض إلى كواكب وأجرام سماويَّة أخرى بعيدة غير مجموعتنا الشمسية هذه إلى مجرة ( درب التبَّانة ) والتي شمسنا ومجموعتنا الشمسية تابعة لها وإلى مجرَّات أخرى قد يكون هنالك كواكب شبيهة بالأرض فيها حياة وكائانات حية ومخلوقات متطورة علميًّا أكثر بكثير من الإنسان الآن على سطح هذه الارض .
وسوم: العدد 735