شيخ المجاهدين .. بين العفو والانتقام!
هل يبذل العفو من يتشبع بالانتقام؟
السؤال بصيغة أخرى: هل يمكن طلب العفو ممن امتلأت قلوبهم وصدورهم وضمائرهم بالرغبة في التنكيل بالآخرين وإيذائهم والقسوة عليهم لدرجة الإفناء؟
الإجابة بالنفي فيما أعتقد! فالمنتقم المتجبر لا يعرف العفو الإنساني مهما ناشده الناس.
ولذلك لم يطلب محمد مهدى عاكف (1928-2017م) عفوا ممن ينتقمون منه، لأنه مسلم بريء! رحمه الله.
يوم قرر الجنرالات القضاء على ثورة الشعب المصري العظيمة في يناير 2011 وتأديبه، استخدموا لعبة الوقت والمماطلة وتشتيت الثوار، وانتهوا إلى تنفيذ مشورة مسيلمة الكذاب، وعرّاب الانقلاب الأول في عهد البكباشي وفحواها أكذوبة أن هذا الشعب لم يجد من يحنو عليه ويرفق به، وكانت الدبابات فيصلا، في حسم الموقف، لاستمرار الحكم العسكري الدموي الفاشي، وإبقاء الشعب في دائرة بعيدة عن الحنو والرفق جميعا.
كان خروج الشعب المصري إلى الميادين والشوارع وإصراره على رحيل الحاكم العسكري الذي ظل ثلاثين عاما يفعل ما يشاء، ولا يحاسبه أحد، حتى أصبح كنزا استراتيجيا عند اليهود النازيين الغزاة ؛ مسوغا عاجلا لتأديب الشعب المصري وإذلاله ومنعه من القيام بثورة أخرى مماثلة! وكان الانتقام من هذا الشعب أمرا استراتيجيا حتى لا تقوم لهذا الشعب قائمة - وخاصة أن طلائعه الإسلامية وقفت في التحرير وعبد المنعم رياض واستبسلت في معركة الجمل التي دبرتها مجموعات البلطجية الموَجَّهين واللصوص الكبار، وبررتها الأذرع الإعلامية. ومن ثم كانت الإنشائيات الفارغة التي وضعها مسيلمة الكذاب وبقايا التنظيم الطليعي للتمويه على الشعب المظلوم وتسويغ تقدم الدبابات وذبح آلاف المسلمين في الحرس والمنصة ورابعة والنهضة والفتح ورمسيس وأكتوبر وكرداسة وناهيا ودلجا والميمون والقائد إبراهيم والشوارع والبيوت ( مازال الذبح قائما حتى اليوم تحت مسمى التصفيات، وتبادل إطلاق النار المزعوم!).
استئصال الإسلام، كان من أولويات الانقلاب العسكري في عملية الانتقام، وتمثل هذا الاستئصال في اعتقال أكثر من ستين ألفا يحملون راية الإسلام جلهم من الإخوان والتيار الإسلامي، دون أصحاب اللحى التايواني الذين صنعتهم الأجهزة الأمنية وربتهم على عينها، فهؤلاء مازالوا يمرحون ويرتعون ويستمتعون بأموال السلفية المدخلية وأشباهها، ويصدرون وفق الطلب الفتاوى الهامشية البائسة التي تشغل الناس وتلهيهم عن الغلاء وعذاب فواتير الماء والكهرباء والغاز، وانكماش قيمة خالد الذكر الجنيه المصري، وتصاعد الديون الخارجية والداخلية إلى أرقام فلكية!
مازالت عملية الانتقام تتمدد في كل الاتجاهات: تكميم الأفواه، القمع الوحشي، المحاكمات الظالمة، مصادرة وسائط التعبير من صحافة وتلفزة ومواقع إلكترونية وغيرها، تأميم دور النشر، حرمان الشعب من المؤسسات العلاجية والتعليمية والاجتماعية التي تساعد المصريين ولا تحمل السلطة أعباء مالية أو إدارية.
لم يكن شيخ المجاهدين محمد مهدي عاكف – رحمه الله- وحده. هناك مئات مثله يصل عددهم إلى تسعمائة شيخ، من الطاعنين في السن يعيشون ظلام المقابر الانقلابية، والأمراض المزمنة الخطيرة، ومتاعب الشيخوخة وعذاباتها. بسبب دفاعهم عن الإسلام والمسلمين!
في أربعينيات القرن الماضي انضم عاكف إلى المدافعين المتطوعين عن فلسطين أمام الغزو النازي اليهودي، ومع ذلك لم يضعه اليهود في قائمة الإرهابيين.
وفي أوائل الخمسينيات شارك في مقاومة الاحتلال الإنجليزي، وقام بجهود كبيرة في التدريب وتوفير السلاح للمجاهدين، ولم يضعه الإنجليز على قوائم الإرهابيين. ومع ذلك تسمي جريدة انقلابية جهاده في هذه المرحلة بالنشاط الإرهابي؟!
المفارقة أن الانقلاب العسكري الدموي الفاشي لم يسمح – بسبب رعبه وذعره من الشهيد المتوفي- بتشييع جنازته، ولا العزاء فيه، بل لم يوافق على أداء صلاة الغائب عليه بأي من مساجد مصر، وهو الذي سمح باحتفالات صاخبة للوطيين الشواذ (20 ألفا) بالتجمع الخامس في القاهرة المحروسة؟!
لقد صلى عليه الآلاف في عواصم العالم صلاة الغائب، وكان وجوده وهو الغائب في هذه العواصم شهادة للرجل بقوة تأثيره وعظمة دوره في خدمة الإسلام والمسلمين على مدى سنوات عمره التي قضاها خارج قبور العسكر. وإني أسأل سلطة الانقلاب ماذا لو أن كاهنا في كنيسة مصرية سمح للمسلمين بصلاة الغائب في كنيسته. ماذا كنتم تفعلون معه؟ وهل إقامة حفل اللوطيين أكثر أمانا من صلاة الغائب؟
إلى أي حد يخيف هذا الجثمان المسجى دولة تملك جيشا عرمرما وجهاز أمن ضخما، فتفرض دفنه بعد منتصف الليل بحضور ابنته وزوجه، ورجال الأمن واللحاد؟؟
والأكثر عجبا هو تسليط كلاب الحراسة الليلية وسفهاء الأذرع الإعلامية في الفضائيات والصحف للطعن في الرجل، وتشويهه ووصمه بتهم باطلة يحاسبهم الله عليها، ومضغوا ما نسبه إليه صحفي ناصري في سياق مجتزأ، ونسوا أن هناك من باع مصر وشعبها وفتح أبوابها لأشرار الأرض وجهلائها. حينما تصدر صحيفة انقلابية وتهين الرجل بعنوان كبير: "الجنازة حارة والميت عاكف" في إشارة إلى المثل الشعبي "الجنازة حارة والميت كلب"، فهذا دليل على انحطاط خلقي وسياسي وثقافي غير مسبوق. أين حرمة الموت يا نعال البيادة؟
ومن الغرائب أن يتجاهل رئيس السلطة الفلسطينية محمود عباس وفاة شيخ المجاهدين الذي كان من أوائل المتطوعين دفاعا عن فلسطين فلا يعزي فيه، بينما يعزي في كاتب يهودي من الغزاة اسمه شموئيل (سامي) موريه، ويتصل هاتفيا بأهله، ويبلغهم أنه سيرسل وفدا باسمه ليقدم واجب العزاء! على كل فقد قام أبناء القدس والمثلث والجليل وغزة وبقية أرجاء فلسطين المحتلة بالواجب، وصلوا على الشيخ صلاة الغائب.
لقد رسخ محمد مهدي عاكف أسس الشورى أو الديمقراطية، حين ترك منصب المرشد العام، ليحظى بلقب المرشد السابق، بينما الانقلابيون يصرون على أن يكون الموت أو الخلع أو الأسباب القهرية هي التي تجعلهم يتركون مناصبهم.
شيخ المجاهدين كان صلبا وثابتا وراسخا في دفاعه عن الإسلام وكرامة المسلمين.
الله مولانا. اللهم فرّج كرب المظلومين. اللهم عليك بالظالمين وأعوانهم!