فلْنكُن صادقين
الصدق من أعظم الأخلاق في الإسلام، كما أن نقيضه، وهو الكذب، لا يكاد يُتصوَّر من المسلم!.
الصدق مطابقة الأمر للواقع، والقول بالحق، والعمل به.
وما ينبغي للمسلم أن يقول إلا الحق، وأن يعمل إلا بالحق.
والاستمساك بالصدق في كل شأن، وتحرّيه في كل قضية، والمصير إليه في كل حكم... دعامة عظيمة في خُلُق المسلم، بل هي صفة من صفات الصدّيقين.
عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "عليكم بالصدق فإنّ الصدق يهدي إلى البرّ وإن البر يهدي إلى الجنة، وما يزال الرجل يصدق ويتحرّى الصدق حتى يُكتب عند الله صدّيقاً. وإيّاكم والكذبَ فإنّ الكذب يهدي إلى الفجور وإنّ الفجور يهدي إلى النار، وما يزال العبد يكذب ويتحرّى الكذب حتى يُكتب عند الله كذّاباً". رواه البخاري ومسلم وغيرهما.
وفي سنن الترمذي: "الصدق طمأنينة، والكذب ريبة".
وفي مسند أحمد: "ما كان من خُلق أبغض إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم من الكذب".
وفي مسند أحمد أيضاً: "يُطبَع المؤمن على الخلال كلها إلا الكذب والخيانة".
ومن أعظم الصدق، أن يكون سلوك المؤمن مطابقاً لعهد الإيمان الذي جعله الله في أعناق المؤمنين: أن يُضحّوا بأموالهم وأنفسهم نُصرةً للحق، وإعلاء لكلمة الله، والتزاماً بأحكام هذا الدين. اقرأ معنا قول الباري جل جلاله: (من المؤمنينَ رجالٌ صدقوا ما عاهدوا الله عليه. فمنهم مَن قضى نحبه، ومنهم من ينتظر، وما بدّلوا تبديلاً). {سورة الأحزاب: 23}.
وقوله سبحانه وتعالى: (ليس البرّ أن تُولّوا وجوهكم قِبلَ المشرق والمغرب ولكنّ البرّ مَن آمن بالله واليوم الآخر والملائكة والكتاب والنبيّين وآتى المال على حبه ذوي القربى واليتامى والمساكين وابن السبيل والسائلين وفي الرقاب وأقام الصلاة وآتى الزكاة والموفون بعهدهم إذا عاهدوا والصابرين في البأساء والضراء وحين البأس. أولئك الذين صدقوا وأولئك هم المتقون). {سورة البقرة: 177}.
وإذا كان للصدق تلك المكانة الرفيعة، وللكذب هذه المكانة الوضيعة، فلا عجب أن يتكرر الأمر بالصدق، والوصية بمصاحبة أهل الصدق، وذلك في قوله تعالى: (يا أيها الذين آمنوا اتقوا الله وكونوا مع الصادقين). {سورة التوبة: 119}.
وأن يُعدّ الكذب من صفات الكافرين، وذلك في قوله تعالى: (إنما يفتري الكذب الذين لا يؤمنون بآيات الله، وأولئك هم الكاذبون). {سورة النمل: 105}.
وكذلك فالكذب من صفات المنافقين، ففي الصحيح عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: "آية المنافق ثلاث: إذا حدّث كذب، وإذا وعد أخلف، وإذا اؤتمن خان". متفق عليه.
بل إن الله تعالى حين ذكر المنافقين، في بدايات سورة البقرة، واستحقاقهم للعذاب، جعل ذلك نتيجة كذبهم (... ولهم عذاب أليمٌ بما كانوا يكذبون) {سورة البقرة: 10} وهل ميّز المنافقين من إخوانهم الكافرين الآخرين إلا الكذب؟!.
* * *
ولاستئصال شأفة الكذب من المجتمع، حرّم الإسلام الكذب في الجد والهزل، وحرّمه ولو في تعامل الكبار مع أطفالهم، أو في الأمور الصغيرة التي لا يأبه الناس لخطورتها.
روى أبو داود عن عبد الله بن عامر رضي الله عنه قال: دعتْني أمي يوماً، ورسول الله صلى الله عليه وسلم قاعدٌ في بيتنا، فقالت: تعالَ أُعطِكَ. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "وما أردتِ أن تُعطيَه؟" قالت: أردتُ أن أعطيه تمراً. فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: "أما إنك لو لم تُعطِهِ شيئاً كُتبتْ عليك كذبة"!.
وكم من آباء وأمهات يكذبون على أبنائهم. بحجة أنهم صغار. فيغرسون في نفوسهم حب الكذب، وهم لا يشعرون.
وروى مسلم عن أسماء بنت يزيد رضي الله عنها قالت: يا رسول الله، إنْ قالت إحدانا لشيء تشتهيه: لا أشتهيه، أيعدّ ذلك كذباً؟ قال صلى الله عليه وسلم: "إن الكذب يُكتب كذباً؛ حتى تُكتب الكُذيبة كذيبة".
وروى الترمذي: "ويلٌ للذي يُحدّث بالحديث ليَضْحك منه القوم فيكذب! ويلٌ له، ويل له!".
وروى البيهقي: "أنا زعيم ببيت في وسط الجنة لمن ترك الكذب وإن كان مازحاً".
* * *
وإنّ من أقبح الكذب كذب الحكام على الشعوب، فإن الإنسان العادي قد يكذب ستراً لضعفه، أو خوفاً من غيره، أو طمعاً في مكسب رخيص... فإذا كذب الحاكم، وهو في موضع القوة والصولجان، دلّ ذلك على انحدار في حمأة الرذيلة. لذلك جاء في حديثٍ رواه البزّار: "ثلاثة لا يدخلون الجنة، الشيخ الزاني، والإمام الكاذب، والعائل المزهوّ (أي الفقير المستكبر)".
فهؤلاء الثلاثة، فقدوا الدوافع لارتكاب جرائمهم، فكان ارتكابهم لها دليلاً على اعوجاج خطير، وانسلاخٍ من كل فضيلة!.
اللهم اجعلنا من الصادقين، واجعلنا مع الصادقين، واحشرنا مع النبيين والصدّيقين.