استغاثة عرب اليوم برموزهم التاريخية
لكل أمة رموزها التاريخية في القيم الرفيعة مثل الشجاعة والوفاء والتضحية بالنفس ذيادا عن الوطن والشعب . وتستلهم الأمة مآثر هذه الرموز بين الفينة والأخرى ، ويكثر هذا الاستلهام وقت الشدائد والأخطار لاتخاذهم قدوة وحذوة في اتباع القيم التي يرمزون لها ليظهر شجعان وأوفياء ومضحون جدد . ويخشى في العلاقة بين تلك الرموز التاريخية وأحفادهم المعاصرين أن يكتفي هؤلاء الأحفاد بالاستغاثة الباكية بتلك الرموز كاشفين عن قصور في فهمهم لقيمتها الحقيقية ، وعن عجز كبير في الإقتداء والاحتذاء بها ، وللأسف هذا ما يحدث في عالمنا العربي . الآن ، ما أن تهان امرأة عربية أو تذبح أو تغتصب ، بعد أن تجاوزت مآسي العربيات حالات الإهانة المعنوية ، حتى نسمع من يصرخ مستغيثا : " وامعتصماه ! " ، ويجيب على صرخته المستغيثة : ما من معتصم في هذا الزمان . ويغيب عنه أن العربية المستغيثة في زماننا ، بل في أيامنا ، أكثر استغاثاتها ، حتى لا نقول كلها ، من عرب لا من روم مثلما حدث مع العربية التي استغاثت بالمعتصم ، ويغيب عنه وعن أمثاله أن عربية اليوم أبدت من صنوف الشجاعة والصلابة في مواجهة الأعداء الأجانب ما تفوقت فيه على الرجال في كل الأعصار ، وخذوا الفلسطينية مثلا أو أمثالا! هي أم الشهيد أو الشهداء ، وأرملة الشهيد وأخت الشهيد ، والصبور بعد شهيدها على تربية أولادها ، والمواصلة لدراستها بعد استشهاد والدها ، والمنتظرة لخطيبها المؤبد في السجن الإسرائيلي . ولنقرأ ما كتبه يعقوب بيري رئيس الشاباك الأسبق في كتابه " الآتي لقتلك استبق واقتله " عن تجربته في التحقيق مع المناضلات الفلسطينيات في الضفة الغربية حين كان ضابطا في ذلك الجهاز في أواخر ستينات القرن الماضي وسبعيناته : " قابلت عدة ( مخربات ) اعتقلن ، والقاسم بينهن جميعا كان القدرة على الصمود في التحقيق . كن مصممات على آرائهن ، يتغلغل فيهن الكبرياء الوطني ، ويثقن بعدالة نضالهن ... " . وكم شهدت الانتفاضات الفلسطينية من "معتصمين " شجعان غيورين ! في الانتفاضة الأولى ، في البريج ، سقط شاب فلسطيني في بيته برصاصة جندي إسرائيلي ، واعتدى جندي آخر على زوجة ذلك الشاب لبكائها واحتجاجها على ما حدث لزوجها ، وكانت حاملا ، فانتفض الزوج من غشيته ، وقبض على رأسي الجنديين ، وضربهما في بعضهما بكل ما تبقى في جسده من نبض الحياة ، وثنى عليه جندي بالرصاص ، فاستشهد . وأكثر الشخصيات التاريخية استحضارا في الاستغاثة هي الناصر صلاح الدين الأيوبي ، وجمال عبد الناصر الذي وافتنا هذه الأيام ذكرى رحيله السابعة والأربعون ، فظهر الحزن في كتابات تشكو إليه سوء ما تردى العرب في هاويته العميقة من انهيار وانكسار ، واستعلم كاتب : " هل يرضى صلاح الدين عن استفتاء كردستان ؟! " . في الأمة العربية والإسلامية آلاف حتى لا نقول ملايين في شجاعة صلاح الدين وعبد الناصر وإخلاصهما . والمهم الفعال أن تخلق الأمة البيئة الشاملة المعينة على ظهورهم وإحداث تأثيرهم . يكاد الإجماع ينعقد كاملا غير منتقص على أن ترامب شخص أهوج مضطرب الشخصية لا يصلح لرئاسة دولة صغيرة ، والذي يستر هوجه واضطرابه في أقواله وأفعاله تبعيته لنظام مؤسسي راسخ يصد مخاطر هوجه واضطرابه على المصالح الأميركية . صعب كثيرا أن يظهر صلاح أو ناصر جديد في أمة تحارب ذاتها وهويتها وتاريخها وحاضرها ومستقبلها ، وتقترف في حق ذاتها من الموبقات المنكرات ما يتحرج حتى الأعداء عن اقترافه ولو بتعفف منافق . والشجاعة والوفاء _ بمعناه الشامل _ والتضحية والإخلاص ، وسائر القيم الفضلى الرفيعة ؛ ليس من المتحتم أن تتجسد في صورة قائد أمة فحسب ، يمكنها أن تتجسد في أي إنسان ، وفي أي مكان ، وفي أي عمل مهما بدا بسيطا ، وفي أي مستوى من مستويات النشاط الإنساني ، والله _ جل قدره _ يثيب الإنسان أو يعاقبه على وزن الذرة من أقواله وأعماله . ولعل الأولى أن تتجسد هذه القيم أولا في المستويات الصغرى قبل الكبرى ؛ لأن هذه المستويات هي التي تمهد لتجسدها في المستويات العليا ، وعميق الرؤية هو الشاعر خليل مطران في تفسيره لظهور الطاغية حين يقول : " لا تلم نيرون إني لائم * أمة لو كهرته ارتد كهرا !
كل قوم خالقو نيرونهم * قيصر قيل له أم قيل كسرى " . صلتنا بالرموز التاريخية يجب أن تكون صلة اقتداء واحتذاء وتجسد في كل شخص مهما كان موقعه ودوره ، لا صلة استغاثة يائسة وقصور عاجز ، وعندها سيمتلىء المجتمع بأمثال تلك الرموز .
وسوم: العدد 741