تجربة حزب الله لن تتكرر في غزة
ترتسم معادلة جديدة داخل البيت الفلسطيني بعد توقيع اتفاق المصالحة بين حركتي فتح وحماس، برعاية المخابرات المصرية، يوم 12 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري، الحافل بالبرامج الزمنية، والعامر بالتفاصيل الكثيرة المؤجلة إلى حوارات واتفاقيات أخرى، ستحدّد مصير المصالحة النهائي وشكلها ومسارها.
الثابت حتى اللحظة أنّ حركة حماس تنوي التخلّي عن إدارة الشؤون اليومية في قطاع غزة، وتسليمها لحكومة وفاق وطني، ستشارك فيها أو تدعمها، بحيث تتحمل هذه الحكومة مسؤولياتها كاملة في إدارة القطاع، وينتقل إليها عبء الشؤون الحياتية التي أرهقت سكّانه خلال أعوام الحصار الطويلة.
من المتفق عليه أن تصل قوة من الشرطة الفلسطينية إلى قطاع غزة، للمشاركة في الحفاظ على أمنه الداخلي، بعد انتهاء اللقاءات التنسيقية بين مسؤولي الأجهزة الأمنية من الطرفين، لكن على حرس الرئيس أن يصل إلى القطاع قبل بداية شهر نوفمبر/ تشرين الثاني المقبل، ليتولى الإشراف على معبر رفح مع مصر والمعابر مع "إسرائيل"، ولهذا مدلول يتعدّى الاتفاق بين الطرفين، إذ يعدّ وجود حرس الرئيس شرطًا ضروريًا لفتح المعابر، حيث سيُعاد العمل بالاتفاق السابق الذي وُقّع بين السلطة الفلسطينية و"إسرائيل"، بعد أن أعاد الاحتلال انتشار قواته خارج قطاع غزة عام 2005، والقاضي بوجود مراقبين دوليين على معبر رفح، وربط هذا المعبر بنظام اتصال يُتيح مراقبة "إسرائيل" له، وتحكّمها الكامل به، أسوة بما حصل في المعبر الحدودي مع الأردن.
الثابت أيضًا أنّ الإدارة والرعاية المصرية ستتجاوز، لتطبيق هذا الاتفاق، الجانب المعنوي إلى مشاركة ميدانية ذات طابع أمني، أكان ذلك على المعابر أم في داخل قطاع غزة وعبر وجود بعثة أمنية دائمة فيها. أمّا بقية القضايا، مثل الانتخابات وحكومة وحدة وطنية، وإعادة تشكيل منظمة التحرير، والاتفاق على برنامج سياسي، وسلاح المقاومة، فتبقى بانتظار بروتوكولات واتفاقات لاحقة وتقييم لما تمّ، وترقّب لمسيرة الاتفاق الحالي.
وبشأن سلاح المقاومة، وكيفية التعامل معه من الأطراف المختلفة. كان رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، قد وضع شرطين للقبول بالمصالحة الفلسطينية: قبول "حماس" شروط الرباعية، وتجريدها من السلاح، قبل أن يتراجع ويعلن عبر مكتبه، هو والولايات المتحدة الأميركية، عن ترحيبهما بعودة السلطة الفلسطينية إلى غزة، مع الإشارة إلى أنّهما سيراقبان عن كثب تطورات هذا الاتفاق. وكان الناطق باسم أجهزة الأمن الفلسطينية، اللواء عدنان الضميري، قد أعلن، عشية إعلان "حماس" حل لجنتها الإدارية، عن عدم قبول السلطة بأي سلاح في غزة غير سلاح "الشرعية"، وثمّة تصريحات سابقة متكرّرة بالمعنى نفسه للرئيس الفلسطيني، محمود عباس. لكن يُلاحظ أنّ ثمّة صمتا مطبقا قد خيّم بعد ذلك لدى مسؤولي السلطة في رام الله، خصوصًا بعد تسريباتٍ عن انزعاج مصري من هذه التصريحات، وأنّ هذا الموضوع مؤجل، وربما إلى ما بعد الانتخابات (إن حصلت)، وأنّ لجنة أمنية مصرية، توجد في غزة، ستتابع الترتيبات الأمنية.
وأخذت أوساط مؤيدة للمقاومة أو قريبة من "حماس" تروّج فكرة إمكان تكرار تجربة حزب الله في لبنان، واستنساخها في قطاع غزة، من حيث شكل علاقة المقاومة بالسلطة، وقدرتها على الاحتفاظ بسلاحها، أكانت خارج السلطة، كما في أعوام مقاومة الاحتلال الإسرائيلي في جنوب لبنان، أو بعد مشاركتها في الحكم لاحقًا. وغابت عن دعاة هذا الرأي اعتبارات كثيرة، منها أنّ تجربة حزب الله نمت وتطوّرت خلال الاشتباك اليومي مع الاحتلال الصهيوني لجنوب لبنان، وأنّها حظيت بدعم كامل من النظام السوري الذي كان الحاكم الفعلي للبنان، وحتى انسحابه منه، ووصل هذا الدعم إلى حدود تدخّل الأجهزة السورية لمنع تطوّر أي مقاومة أخرى غير مقاومة حزب الله (لهذا حديث آخر). أمّا في حالة "حماس" فإنّها الآن في حالة تجميد لهذا الاشتباك (على الأقل من قطاع غزة)، وهي لا تحظى بدعم أي نظام يتحكم أو يؤثر في مفاصل السلطة، كما يُستبعد أن تلجأ إلى هذا الأسلوب، وهي السلطة الفعلية في قطاع غزة والمهيمنة على كل إداراتها، ما يجعل من الصعوبة بمكان فصل نشاط المقاومة (كتائب القسّام) عن العلاقة المتشابكة مع السلطة، والتي سيبقى لها شكل من أشكال المشاركة فيها صَغُر أم كَبُر. أمّا حزب الله فعندما انخرط في معادلة الحكم في لبنان، بتوازنات لبنان الطائفية، أحال الجزء الأكبر من محاصصة الحكم الطائفية على شريكه في الثنائي الشيعي، حركة أمل.
وعند المقارنة، ثمّة تجاهل لمعطيات أخرى، أهمها دور السلطة الفلسطينية والتزامها بالاتفاقات المبرمة مع العدو الإسرائيلي، والأكثر أهمية الدور المناط بالنظام المصري في ترتيب أمر المصالحة، وأغلب الظنّ أنّ ما يخطط له هو توريط "حماس" بتحمّل مسؤولية الأمن الداخلي وحراسة الحدود مع مصر، أو القيام بالعبء الأكبر فيه، ما يعني تحويل وحدات المقاومة بشكل تدريجي، واستيعابها في وحدات شرطية، ما تلبث أن تندرج ضمن منظومة السلطة الحاكمة،
وضمن إشراف ومتابعة أمنية مصرية. وهنا، ينبغي التذكير بأنّ هذا كان مصير كتائب الفدائيين المرابطة في غزة في حرب 1948، وأنّ "جيش الجهاد المقدس" في الضفة قد تحوّل بمعظمة إلى ما سُمّي بالحرس الوطني.
يختلف النظام المصري في عهد الرئيس عبد الفتاح السيسي كليًا عمّا سبقه. في السابق، وفي عهد الرئيس حسني مبارك ومدير المخابرات عمر سليمان، كان هناك بقايا للدولة المصرية الممتدة عبر قرون، والتي تدرك أنّ عدوها يأتيها عبر التاريخ من الشرق، لذا كان عمر سليمان يساعد أحيانًا في إدخال سلاح إلى قطاع غزة، ويغض الطرف أحيانًا أخرى، عن عمليات تهريب السلاح، ربما لم يكن هذا حبًا في المقاومة، ولكن تحقيقًا لمصلحة الدولة المصرية في الإمساك بخيوط وأوراق تُستخدم للضغط على المقاومة ذاتها أحيانًا، وعلى العدو الصهيوني أحيانًا أخرى.
لم يعد الحال هو الحال، ثمّة تواطؤ لا يخفى على أحد، وثمّة مباركة أميركية وصمت إسرائيلي، إن لم يكن موافقة، على تولّي مصر مسؤولية ضمان الهدوء على الجبهة الجنوبية للعدو الصهيوني، خصوصًا مع تزايد احتمالات المواجهة على الجبهة الشمالية. وليس موضوع المقاومة موضوعًا ماديًا يرتبط بسلاح المقاومة وأنفاقها فحسب، بل هو في الأساس مسألة ترتبط بإرادة القتال وبالقرار السياسي الذي يوجه هذا السلاح، ويقرّر كيف ومتى يُستخدم، وكيف يتم تطويره وتحسين نوعيته. في الأردن عام 1970 جُمع سلاح المليشيا نتيجة لمعارك أيلول/ سبتمبر، وبعيدًا عن الصيغة التي تمّ بها ذلك ومبرّراته، ومدى الصواب أو الخطأ، فقد كان ذلك مقدمة لإنهاء تلك الظاهرة. إن لم يحافظ سلاح المقاومة في غزة على قراره السياسي فسيصدأ في المخازن، وستتحوّل شبكة الأنفاق إلى أماكن سياحية. وأولى خطوات الحفاظ على المقاومة الابتعاد عن وهم تكرار تجارب الآخرين، والحفاظ على تجربة كتائب القسّام وسرايا القدس وكتائب الأقصى، ورفض كل محاولات التدجين والاحتواء، والتمسّك بشعلة المقاومة بجميع أشكالها، ليس في غزة فحسب، بل في فلسطين كلها.
وسوم: العدد 742