كيف فهم الإمام محمد الشيرازي حقوق الإنسان؟

مركز آدم للدفاع عن الحقوق والحريات

حقوق الإنسان هي مجموعة معايير أخلاقية واجتماعية، ينبغي للإنسان التمتع بها كحق له، والالتزام بها كواجب عليه إزاء الآخرين. وجاء في تعريف حقوق الإنسان في الإعلان العالمي لمنظمة الأمم المتحدة، عام (1918) بأنها "مجموعة من الحقوق الطبيعة التي يمتلكها الإنسان واللصيقة بطبيعته، والتي تظل موجودة، وإن لم يتم الاعتراف بها؛ بل وأكثر من ذلك، حتى لو انتهكت من السلطة"

 وفي تعريف آخر، صادر عن الأمم المتحــدة، عرفت حقوق الإنسان بأنها" ضــمانات قانونيــة عالميــة لحمايــة الأفــراد والجماعات من إجراءات الحكومات التي تمس الحريات الأساسية والكرامـة الإنسانية، ويلـزم قـانون حقـوق الإنسان الحكومـات بـبعض الأشـياء ويمنعهـا مـن القيـام بأشياء أخـرى" أي أن رؤيـة المنظمـة الدوليـة لحقوق الإنسان تقوم على أسـاس أنهـا حقـوق أصـيلة فـي طبيعـة الإنسان والتـي بـدونها لا يسـتطيع العـيش كإنسان.

 ونجد في الإسلام أساسا متينا ورصينا لفكرة حقوق الإنسان، ففضلا عن الكرامة الإنسانية التي خصصها الله تعالى لبني آدم "وَلَقَدْ كَرَّمْنَا بَنِي آدَمَ وَحَمَلْنَاهُمْ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ وَرَزَقْنَاهُم مِّنَ الطَّيِّبَاتِ وَفَضَّلْنَاهُمْ على كَثِيرٍ مِّمَّنْ خَلَقْنَا تَفْضِيلًا " فالبشر جميعا بغض النظر عن الجغرافية والموقع واللون والجنس هم أسرة واحدة، ينتمون إلى أب واحـد وأم واحـدة، لا مكـان بيـنهم لتفاضـل فـي أسـاس الخلقـة، وابتداء الحياة، وهذا ما أكده الرسول الأكرم "ص" في خطبة الوداع، بقوله: (يا أيها الناس، إن ربكـم واحـد، وإن أبـاكم واحـد، كلكـم لآدم وآدم مـن تـراب، إن أكرمكم عنـد الله أتقـاكم، لـيس لعربـي علـى أعجمي، ولا لأعجمي على عربي، ولا لأحمر على أبـيض ولا لأبـيض علـى أحمـر فضـل إلا بـالتقوى، ألا هل بلغت؟ اللهم فاشهد)

 وفي ظل مبادئ الإسلام وقيمه، استطاع ثلة من العلماء والمصلحين والمفكرين المسلمين المعاصرين صياغة رؤية حضارية شاملة للإنسان وأفكاره وسلوكه وعيشه مع الآخرين، من خلال إحياء مجموعة الحقوق والحريات التي ينبغي أن يحصل عليها الإنسان، فردا كان أو جماعة، كأساس للعيش المشترك والآمن مع الآخرين.

 كان المرجع الراحل الإمام السيد محمد الشيرازي أحد هؤلاء العلماء المصلحين، وكان رجل العلم والعمل، ورجل الاجتهاد والجهاد، دافع عن الإسلام بفكره وقلبه، وعرّف به بلسانه وقلمه وأخلاقه، وعمل بكل الوسائل على كشف حقائق الإسلام ومضامينه للناس. وعليه، فقد كان الإمام محمد الشيرازي أحد هؤلاء الكبار الذين أثروا هذه التجربة "تجربة الحقوق والحريات" بعطاء فكري وثقافي متميز. فلقد صاغ منظومة فكرية حقوقية متكاملة منطلقا من فهمه للإسلام كمشروع حياة، له قدرة الإجابة على أسئلة الواقع كلها، ومنها ما يجب أن يكون للإنسان كحق له، وما يجب أن يقوم به كواجب عليه.

 والسؤال هنا، وفي الذكرى السنوية لرحيله، كيف فهم المجدد الشيرازي حقوق الإنسان من منظور إسلامي؟ وما قيمة حقوق الإنسان عنده؟ وماذا لو افتقد الناس تلك الحقوق والحريات أو اضاعوها؟ وكيف ترجمها على أرض الواقع؟

 هناك ثلاثة أسس يمكن أن تكون مرتكزا لمنظومة الحقوق والحريات التي نادى بها الامام الشيرازي، كمبادئ تعبر عن العقيدة الإسلامية. الأساس الاول هو مبدأ "أصالة تكريم الإنسان" والأساس الثاني هو مبدأ "أصالة السلم المجتمعي" والأساس الثالث هو "أصالة الحرية".

1- مبدأ أصالة تكريم الإنسان

 يرى الإمام الشيرازي أن الأساس المتين لتطوير مبادئ الحقوق والحريات هو مبدأ "التكريم الإلهي"للإنسان، ودون هذا المبدأ لا يمكن الحديث عن الحقوق ولا عن الحريات قط، بل يكون الحديث دعاية فارغة، يتلهى بها الناس ولا يحصلون على نتائج مضمونة.

 في نظر الإمام الشيرازي أن الإنسان كائن مستحق للتكريم الإلهي، منذ الخلق الأول، وكائن له قيمة في الحياة بما يقوم به من دور إنساني واجتماعي بنّاء يساهم في البناء الحضاري، ويحقق السمو للنوع البشري، وإذا تخلف هذا الإنسان عن أداء دوره المنوط به فإنّه يفرط بذلك التكريم وينحدر إلى مرتبة دنيا، كما دل قوله تعالى: (لَقَدْ خَلَقْنَا الإنسان فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ*ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ *إِلا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ). ليس هذا وحسب، بل ما يفرط به الإنسان، لا يفرط به الله تعالى، ولا قانونه الإلهي، ولا المنهج الإسلامي في الحياة، بل تبقى للإنسان كرامته الإلهية التي تفرض معاملته كإنسان بغض النظر عن انتماءاته الأخرى؛ لان الأصل في الإنسان هي الكرامة ودونها الاستثناء.

 يقول المرجع الديني الراحل الإمام السيد محمد الحسيني الشيرازي في كتابه احترام الإنسان في الإسلام: فإن من أهم الأمور التي أكد عليها الإسلام تأكيداً بالغاً، هو احترام الإنسان بما هو إنسان، مع قطع النظر عن لونه ولغته وقوميته ودينه ورأيه، فالإسلام يؤكد على احترام كل الناس حتى إذا كانوا كفاراً غير مسلمين؛ لأن الإنسان بما هو إنسان محترم؛ وأن احترام الإنسان متدرج يبدأ من احترام الإنسان لذاته، وفي دائرة أوسع احترام الإنسان في داخل الأسرة باعتبارها الدائرة الأقرب للإنسان فإن حسن التعامل والاحترام في هذه الدائرة مهم جداً بالنسبة للإنسان وللأسرة التي ينتمي إليها.

 ويؤكد الإمام الشيرازي في كتابه احترام الإنسان على إن هناك خزائن من النصوص المقدسة التي يجب تفعيلها في تنمية الإنسان وتربية المجتمع في مجال احترام الإنسان والمحافظة على حقوقه المشروعة فيقول: لقد حفظ لنا التأريخ أحداث ووقائع ومواقف مشرفة تحكي الأسلوب الإسلامي الحقيقي في مراعاة حقوق الإنسان كائنا من كان، مسلماً كان أو منافقاً، مشركاً كان ذلك الإنسان أو كافراً، وقد تجسد ذلك بأعظم صورة من خلال الحياة الشريفة وأسلوب المعاشرة التي كان يتبعها الرسول الأعظم (صل الله عليه واله وسلم) وأمير المؤمنين(ع) والأئمة المعصومين (عليهم السلام) مع كل الناس.

2- مبدأ أصالة السلم المجتمعي

 رسخ الأمام المجدد الشيرازي في نظريته الحقوقية مفهوم (أصالة السلام) في الإسلام، وأن الحرب حالة استثنائية طارئة تحتمها الظروف والمتغيرات الواقعة والتبدلات السياسية ضمن اطر تقتضيها المصلحة والحاجة الملحة التي لا فكاك ولا مهرب منها. وإلا فالسلم حكم أولي واصل ثابت في الإسلام، إذ يقول تعالى (يا أيها الذين امنوا ادخلوا في السلم كافة ولا تتبعوا خطوات الشيطان) وقوله (وإن جنحوا للسلم فاجنح لها وتوكل على الله) ويقول الامام إن (الأمن والأمان وسيادة الاستقرار الاجتماعي سلسبيل الحياة ومادة الاستقرار والتكامل والنمو، وإن سيادة السلام ضرورة ملحة لتكريس حضارة متنامية تتصاعد مع مرور الزمن ... أما الحرب، فإنها مجمع الرذائل ومكمن الدمار وإذا أقبلت شبهت حيث يتيه الحق بالباطل وتهدر القيم وتنسال المفاهيم في لهوات التشابك فتلتبس المعاني وتختلط كل القيم والسبيل الوحيد هو إقصاء الحرب عن الحياة لتعود للقيم جذوتها وتبقى للحياة معناها وأصالتها).

 ليس هذا فحسب، بل ربط الإمام الشيرازي في السياق ذاته بين شروط قيام الدولة الإسلامية ومبدأ اللاعنف كذلك، فيقول لا يمكن أن تقوم الدولة الإسلامية دون انتهاج مبدأ اللاعنف، ويحث المجتمعات الإسلامية على ذلك، ابتداء من تعامل الرجل مع المرأة، وتعامل الرجل تجاه الرجل، والأم والأب تجاه الأولاد، والعكس صحيح، فيما يتدرج في نظريته لتشمل المؤسسة، والسلطة، والدولة اتجاه الدولة الأخرى.

 ولم يغفل الإمام الشيرازي الإشارة إلى فشل المنظمات والأحزاب والحركات الإسلامية في نجاح مشاريعها في الوقت الحاضر، معللا ذلك انتهاجها العنف في التعامل مع الآخرين. حيث يقول (إن استخدام الأحزاب والحركات الإسلامية العنف كنهج جعلهم لا يختلفون عن بقية الأحزاب والحركات السياسية غير الإسلامية، وهو السبب في عزوف الجماهير عن تأييدهم في مشروع بناء الدولة الإسلامية).

3- مبدأ أصالة الحرية

 حسب الشيرازي أن الأصل في الإنسان الحرية، إذ لا يحق لأي إنسان أن يسلب حرية وإرادة غيره أو يقيدها. فقد قال أمير المؤمنين (ع): (لا تكن عبد غيرك وقد جعلك الله حراً)، فالحرية الإسلامية حرية واسعة تنتهي عند حدود العبودية لله تعالى، التي ليست بدورها سوى التسليم لقوانين الله تعالى وأحكامه من أجل الاستفادة منها. والحرية في الإسلام، لا تعرف لونا معينا، وإنما هي قيمة دينية مقدسة تشمل جميع الألوان والشعوب، حيث أن الناس سواسية كأسنان المشط، والدين الإسلامي يربي في نفوس المؤمنين، قوة العقل ويبلورها حتى تتميز عن الهوى ودواعي المصلحة، ويبين المقاييس والمعايير الثابتة التي أودعها الله سبحانه وتعالى في فطرة الإنسان من الإيمان بالحق والعدالة والكرامة والحرية.

 واعتبر الشيرازي أن الحرية هي من صميم الدين، ولا يمكن أن تستقيم الحياة الإسلامية بدون الحرية، ونبذ الاستبداد السياسي والاستئثار بالرأي والقرار، فالإسلام هو دين الحرية والشورى، ولم يقم هذا الدين على اضطهاد مخالفيه أو مصادرة حقوقهم أو تحويلهم بالكره عن عقائدهم أو المساس الجائر بأموالهم وأعراضهم ودمائهم، وإنما قام على الحرية والشورى والتسامح والمياسرة واللطف وفضائل الأخلاق.

 ومن هنا، يرى المجدد الشيرازي أن الحرية أساس التقدم، إذ لا يمكن أن يتقدم المجتمع بدون حرية، فالحرية من الشرائط الضرورية للتقدم والبناء الحضاري، وهذه الحرية لا تعني الفوضى والتعدي على حقوق الآخرين، وإنما لهذه الحرية حدود وشروط، وهي: ألا توجب ضرراَ على الغير (فردا أو مجتمعا). وألا تكون كذبا أو تجاوزا على الغير. وألا تكون نقداَ للأخلاق العامة أو قيم الدين، أو تحريضا للمواطنين على ارتكاب الأعمال المخالفة للأخلاق الإسلامية. والجهة التي تحكم بأن العمل الفلاني ينسجم ومبادئ الحرية أولا، هي السلطة القضائية، بما تتمتع به من استقلال ونزاهة.

وسوم: العدد 743