بعض الأسباب التي ساهمت في تدني التحصيل اللغوي لدى المتعلم

عبد الجليل عبد السلام

بعض الأسباب التي ساهمت

في تدني التحصيل اللغوي لدى المتعلم

عبد الجليل عبد السلام

[email protected]

تقديم:

حين نقوم بمقارنة سريعة بين التحصيل اللغوي التعليمي بين الأمس واليوم، نجد هوة كبيرة وتراجعا مهولا حاصلا بينهما. وهذا البون الشاسع يدفع كثيرا من المتتبعين للشأن التربوي إلى توزيع الاتهامات المجانية لهذا الطرف أو لذاك. فالبعض منهم يعزوها إلى المدرس بينما آخرون وبدون تمحيص، يتخذون المتعلم مشجبا لإخفاقاتهم. وفئة تراها في المنهاج والبرامج و ... بينما نحن في هذه الورقة سنعالج تلك المفارقة من منظور آخر قد لا يخطر على أذهان البعض، علما أن بعض النقط التي سنتطرق إليها سبقنا غيرنا إلى طرحها في كثير من المنابر الإعلامية، لهذا لن نستفيض فيها إنما سنعرج عليها ونمر عليها مرور الكرام من باب التذكير لا غير، لأنها تتقاسم مع غيرها من النقط، التي سنطرحها كأرضية للنقاش، هذا التراجع الخطير في التحصيل اللغوي لدى المتعلم.

فما الأسباب الكامنة وراء هذا التراجع؟ ومن يتحمل المسؤولية في ذلك؟ أم أن المسؤولية تقع على عاتق المتدخلين في الشأن التربوي من مدرسين ومؤطرين و... ؟ أم وراء ذلك أسباب أخرى وعوامل قد لا ننتبه إليها؟ إذن فما الأسباب أو المثبطات التي ساهمت في تدني مستوى التحصيل اللغوي عند المتعلم ؟ علما أن الشق المعرفي لمتعلم اليوم أحسن بكثير مما كان عليه بالأمس. وهذا راجع إلى عوامل كثيرة منها تعدد مصادر المعرفة، لكن بالمقابل يعاني المتعلم ضعفا شديدا في المستوى اللغوي.

   انطلاقا مما سبق، سنحاول في هذه الورقة سرد أهم الاختلالات والمثبطات التي نراها ساهمت بشكل كبير في تدني المستوى اللغوي لدى متعلم اليوم، ونجملها في النقط الآتية:

1-   ازدواجية اللغة.

2-    تراجع دور الكتاب القرآني.

3-   تقليص حصص اللغة العربية.

4-   انتشار ظاهرة التدريس بالدارجة.

5-   اختلاف رسم الحروف بين اللغات التي يتلقاها المتعلم واتجاه كتاباتها.

6-    أسباب تراجع التحصيل باللغة الأجنبية ( الفرنسية ).

7-    الخريطة المدرسية وعتبة النجاح.

8-     العنصر البشري.

9-    مختلفات.

1- اشكالية ازدواجية اللغة:

يعزو معظم المهتمين بالشأن التعليمي والتربوي عدم تمكن المتعلم المغربي من استيعاب اللغة الأم " العـــربيــة " بالدرجة الأولى إلى ازدواجية لغة التواصل اليومي ( الدارجة ) ولغة المدرسة ( الفصحى ). وقد أسال هذا الموضوع حبرا كثيرا على منابر إعلامية عديدة. وعلى الرغم مما بدل من جهود سواء على مستوى تغيير المناهج والبرامج أو انتهاج طرق بيداغوجية جديدة (المزج بين الطريقتين الكلية والجزئية )، بقي التحصيل دون المستوى المطلوب و يراوح مكانه ابتداء من مطلع الألفية الثالثة. ولازالت هذه الازدواجية تؤرق الفاعلين التربويين، وقد دعا المرحوم الجابري إلى تبسيط اللغة الفصحى والرفع من مستوى لغة الدارجة من أجل تقليص الهوة بين اللغتين. وقد يقول قائل وكيف تغلب جيل الماضي على هذه الازدواجية؟ سؤال وجيه وفي محله يحيلنا على المقارنة بين الوضع التعليمي بالأمس واليوم، ليمكننا من الإجابة عليه. فيكفي أن نشير إلى أن الحصص الزمنية المخصصة آنذاك للغة العربية كانت تسمح للمدرسين بالتغلب على هذه الإشكالية. أضف إلى ذلك استغلال مدرس الأمس المواد كلها (القراءة - القرآن الكريم ...) لتثبيت الظواهر التركيبية والصرفية والإملائية المدروسة. ومن منا لا يتذكر يوم الخميس ( الأسود للبعض منا ) حيث كان المعلم يعمد إلى إعراب قطعة الشكل من ألفها إلى يائها، يقول د.الحسين رحمون: " أذكر أنه كان يدرسنا مادة الشكل ( النحو العربي ) وكان يختار قطعا من النثر القديم من كتاب البخلاء للجاحظ، أو كليلة ودمنة لابن المقفع، أو كتاب ابن عبد ربه الأندلسي، أو نصوص نثرية لعبد الحميد الكاتب، لتكون مادة للتطبيقات النحوية وتباري التلاميذ إبراز قدراتهم اللغوية والعلمية.[i]" وقد يقول سائل وما المانع حاليا؟ الجواب بسيط ويكمن في تقليص حصص دروس اللغة العربية ( القراءة - التعبير ...). ودون أن ننسى ما كان لحفظ بعض سور القرآن وحفظ الأناشيد والمحفوظات من دور في اكتساب ملكة التعبير وإغناء الرصيد المعجمي واللغوي لدى المتعلم. أما حاليا فلم يعد ممكنا تحت طائلة حقوق الطفل، وهي حقوق مشروعة، مما قلص بشكل مهول من عدد المتعلمين الذين يهتمون بالحفظ، ما داموا يعرفون مسبقا أنهم في منأى عن العقاب. صحيح أن جيلنا درس تحت طائلة التهديد والترهيب، ومع ذلك كان يحقق نتائج مشرفة. جاء في مداخلة ذ. العربي بنجلون في مقال عميق وشامل ألقاه في نادي الكبار في الأردن: " إنّ الْمِصْريين يكتبون، والْمغاربة يُصَحِّحون..." [ii]. هذه شهادة تعكس مدى تمكن المغاربة من اللغة العربية فيما مضى، وهذا لم يأت من فراغ وإنما جاء نتيجة تضافر مجموعة من العوامل، منها ذلك الحزم والصرامة التي نهجها سلفنا الصالح، ومنها ما يرجع فضله للكتاتيب القرآنية وهي النقطة الثانية الموالية من هذه الورقة.

2- تراجع دور الكتاب لفائدة رياض الأطفال:

و أستشهد هنا بمقتطف من مقال عميق وشامل لأستاذنا العربي بنجلون ألقاه في نادي الكبار في الأردن: " لو يُقَدَّر أن تعود بنا آلةُ الزمن إلى فجر القرن الْماضي، فنسأل قارئا عن حال الأدب المغربي، فسيجيبنا فورا: إنّ الْمِصْريين يكتبون، والْمغاربة يُصَحِّحون، واللبنانيين يطبعون، والسودانيين يقرأون "[iii]، هذه شهادة تؤكد وتزكي مدى تمكن المغاربة، سابقا، من اللغة العربية أيما تمكن، وجعلتهم يتبوأون مكانة لائقة بهم بين سائر أقرانهم العرب. ويرجع الفضل في هذا إلى مجموعة من العوامل المتضافرة منها الدور الريادي الذي لعبته الكتاتيب القرآنية وما شابهها في زرع أسس اللغة العربية وتقعيد نظم قواعدها، وفي حسن تهذيب الألسن وتحصينها من اللحن والتصحيف والتحريف. كان الأطفال، إلى أواخر الستينيات، يلجون الكتاب أو المسيد، حيث كانوا يتتلمذون على أيدي شيوخ أجلاء، يعملون كل ما في وسعهم من أجل تحفيظ مريديهم ما تيسر من القرآن الكريم والأحاديث النبوية، ولو أنهم، في كثير من الأحيان، كانوا ينهجون ممارسات لا تمت بصلة إلى التربية الحديثة. أضف إلى ذلك فرض الفقيه على مريديه حفظ بعضٍ من أشعار عبد الواحد بن عاشر ونهج البردة للإمام البوصيري، التي كانت تزاوج بين ملكة الحفظ ودروس الأخلاق (التربية الإسلامية حاليا) فرائض الإسلام، الوضوء، وغيرها. هذا كله كان يؤهل المتعلم لمسايرة تعلمه ومتابعة دراسته في المرحلة الابتدائية بشكل سلس وبدون صعوبة. ويكفينا حاليا القيام بجولة في مؤسساتنا لنقف على هول ضعف مستوى التحصيل لدى المتعلم، بحيث نجد متعلم الخامس أو السادس ابتدائي يتهجى ويعجز عن تكوين جمل مفيدة، فما بالنا إن طلبنا منه التواصل بلغة عربية سلسة ولو لثوان. إنه لا يتواصل ولا يعبر إلا باللهجة الدارجة داخل الفصل. بينما كان بالأمس ندا لمعلمه في النحو والإعراب والصرف. وكانت نصوصه التعبيرية ( الإنشاء ) تثلج الصدر. هذا كله كان يحمس المتعلمين من أجل التحصيل والاجتهاد. أما في الآونة الأخيرة، وبحكم تخلي الكتاب القرآني عن دوره لفسح المجال لرياض الأطفال، التي يشرف على التدريس فيها أناس انسدت أمامهم أبواب الشغل، ومعظمهم لا علاقة لهم بالتربية والتكوين ما داموا لم يتلقوا أي تكوين تربوي يذكر. إنها، على الأقل، في نظرنا، ملاجئ تأوي أطفالا أبرياء، تبعد ضوضاءهم عن أسرهم لا غير، ليلتحقوا بعد ذلك بالمدارس بحمولة من الأخطاء اللغوية وتصحيف في حفظ آيات القرآن الكريم. وهنا لا نعمم لأن هناك رياضا تتوفر فيها جميع مواصفات المدرسة الحديثة وتحترم دفتر التحملات، لكنها تبقى متمركزة في المدن الكبرى وموجهة إلى نخبة معلومة. والغريب في الأمر أن القائمين على هذه الرياض لا يعرفون الأدوار المنوطة بها. فهم يعتقدون أن دورهم هو شحذ ذاكرة المتعلم بكم هائل من المعلومات، بينما المطلوب من المتعلم في هذه المرحلة العمرية هو الاستئناس وتعلم مبادئ القراءة والكتابة في شكل ألعاب. أما مقراتها فحدث ولا حرج، إذ تتخذ من المرأب حجرات دراسية، تتوزع فيها مقاعد تكاد تكون متلاصقة، يسجن فيها المتعلم لساعات وساعات، بينما طفل هذه المرحلة يحتاج إلى الحركة والوقوف والتنقل.    

يتبع...

               

د. الحسين رحمون،  من ذكريات المدرسة الحسنية، جريدة  فجيج صوت الجنوب الشرقي عدد 89،  أستاذ سابق بجامعة محمد الأول.  [i]

ذ. العربي بن جلون، مقال عميق وشامل ألقاه في نادي الكبار في الأردن، نقلا عن ذ. مصطفى لغتيري، موقع نادي " غاليري الأدب " [ii]

المرجع نفسه. [iii]