سوق الكتابة.. هل تخضع، دائماً، لقانون العرض والطلب !؟

 *) كلمة : السوق ، معروفة الدلالة ، للقاصي والداني ، كبيراً كان أم صغيراً. وهي تذكَّر وتؤنَّث . وقد آثرنا استعمالها، هنا، مؤنّثة ، لأسباب متعلّقة بالموضوع المطروح!

 *) استعمال كلمة : السوق ، لايعني أن المستعمل مثقّف ! لكن الإبحار في دلالاتها ، يحتاج إلى ثقافة مميّزة ! لأنها بحار واسعة ، بل محيطات هائلة ، عميقة الأغوار، متنوّعة الأشكال والأهداف ! والسباحة فيها ، أو في أيّ منها ، تحتاج إلى خبرات واسعة ، كيلا يغرق السابح ، أو المبحِر، دون أن يجد من يرثي له ! فـفيها تشتبك ، وتصطرع ، أخلاق البشر، جميعاً، بسائر مستوباتها ، النبيلة السامية ، والمتدنّية الهابطة (السوقية !) . ولن نكثر من ضرب الأمثلة ، هنا.. حسبنا الإشارة العجلى ، إلى بعض أسواق المال (أسواق الأسهم والسندات ، وما يجري فيها ، من لعب ومناورات ، ومؤامرات شيطانية، ومن كوارث إنسانية !) .

 *) سوق الكتابة، هي واحدة من هذه الأسواق. وهي ، بحدّ ذاتها، مجمّع هائل ضخم، لأسواق شتّى ، واسعة الميادين ، متنوّعة الساحات ! فسوق الكتابة الأدبية ، مثلاً ، تضمّ أسواقاً شتّى ، كسوق الشعر، وسوق القصّة ، وسوق الرواية ، وسوق المقالة ، وسوق النقد ! وكل ذي أرب فيها ، يتذوّق .. ويتسوّق !

 *) سوق الكتابة السياسية ، أعقد هذه الأسواق ، وأخطرها ، وأكثرها مزالق ! لأن السياسة ، بطبيعتها ، عمل غير فردي ، ولا يمكن أن يكون فردياً ، حتّى لوحقّق مصالح فردية ، لأناس بأعيانهم ، في ظروف معينة ! فالكتابة السياسة ، يمارسها فرد للجماعة ، التي قد تكون حزباً ، أو تحالفاً ، أو دولة ، أو شعباً ، أو أمّة بأسرها ! وكل متسوّق لهذه الكتابة ، متأثّرٍ بها ، سلباً أو إيجاباً..إنّما يتأثّر ضمن هذا المناخ الجماعي ، ليعود ، هو ، فيؤثّر في الناس ، ضمن هذا المناخ الجماعي ! وربّ كلمة سياسية ، أدّت إلى قيام مظاهرة ،أو ثورة..أو أسهمت في إسقاط نظام حكم ! كما أنها قد تحمل لقائلها، أو كاتبها ، نوعاً من النفع أو الضرر، مادياً أو معنوياً ! وربّما بلغت خطورتها عليه ، حدّ السجن ، أو القتل ، أو النفي والتشريد ، أومصادرة الأرزاق !

 *) من أنواع الكتابات السياسية :

 (1) من حيث الأخلاق :

المبدئية ، والمصلحية ، والصادقة ، والكاذبة ، والمنافقة ، والسامية ، والمبتذلة..

 (2) من حيث الجدّة والتكرار :

 المبتكرة ، والمكرّرة: المكرّرة بلفظها ومعناها، والمكرّرة مع بعض التطوير والتحوير، والمكرّرة من قبل صاحبها نفسه ، والمكرّرة من قبل الآخرين !

 (3) من حيث النفع والضرر:

 ـ النافعة لصاحبها ، مادياً أو معنوياً.. ولغيره ، من حزب ، أو جماعة ، أو تحالف، أو شعب، أو دولة ، أو وطن ..!

 ـ النافعة لصاحبها ، فردياً .. الضارّة لحزبه ، أو شعبه ، أو وطنه .. والضارّة لصاحبها ضمن الضرر اللاحق بحزب ، أو شعبه ، أو وطنه !

 ـ الضارّة لصاحبها ، فردياً..النافعة لحزبه ، أو شعبه ، أو وطنه.. والنافعة له ، بالتالي ، ضمن النفع الذي يناله الحزب ، أو الشعب ، أو الوطن !

 ـ الضارّة لصاحبها ، فردياً .. ولحزبه وشعبه ووطنه ، جماعياً .. والضارّة له ، أيضاً ، ضمن الضرر العامّ ، الذي يلحق بجماعته .. فضرر صاحبها ، هنا ، مصاعَف عليه !

 (4) من حيث القدرة على التأثير، السلبي والإيجابي:( والتي تتحكّم بقوّة تأثيرِها ، وضعفِه، جملة من الخصائص المتعلّقة بها ، وجملة من الظروف المحيطة بها !)

 ـ ذات التأثير الشديد ، في الحال والمآل ، وعلى أزمنة متطاولة !

ـ ذات التأثير الشديد في الحال ، لكن تأثيرها مرحلي ، سريع التلاشي !

ـ ذات التأثير الضعيف ، أوالضعيف جداً ، أو منعدمة التأثير، في الحال ، وفي المآل !

 (5) من حيث درجات الوعي ، بأهمّية الكلمة وخطورتها :

 ـ التي يقولها المتمرّس ، الخبير بأنواع الكلام ، وأسواقه ، وتأثيراته ، ودرجات هذا التاثير.. وبالظروف المناسبة وغير المناسبة ، لكل نوع من أنواع الكلام ! وهذه تكون ـ في الأصل ـ أكثر الكلمات تأثيراً إيجابياً ، لصاحبها ومجموعته..وأشدّها تأثيراً سلبياً ، على أعدائه، أو خصومه ، الذين ينافسهم ، أو يصارعهم! والسياسة ـ بطبيعتها ـ لا تخلو، ألبتّة، من تنافس وصراع ، بين أفراد وكتل ، وأحزاب ودول !

 ـ التي يلقي بها صاحبها ، لا يلقي لها بالاً ، فتكون وبالاً عليه ، وعلى المجموعة التي ينتمي إليها ، من قبيلة ، أو حزب ، أو تحالف ، أو شعب .. وهو يظنّ أنه يحسن صنعاً !

 ـ التي يقولها صاحبها ، بعد دراسة وتروّ، فتسبّب له ، ولمجموعته ، وبالاً لم يكن في حسبانه ! لأنه لا يملك ، في الأصل ، القدرة الكافية ، لدراسة السلبيات والإيجابيات ، التي تحدثها الكلمة .. ويحبّ أن يخدم نفسه ومجموعته ، بكلمة فيها بعض الإخلاص ! أو يحبّ أن يتفاصح ، أو يتظرّف..أو يصبّ نقمته على بعض الناس ، الذين يظلمونه ، ويظلمون جماعته، من أهل ، وحزب ، وشعب ..!

 (6) وتبقى الحكمة الفردية ، أولاً، هي المقياس الأول، والأهمّ ، للكلمة ؛ من حيث كل ماذكِر آنفاً، وهي نسبية ، بطبيعتها ، تتفاوت من شخص إلى آخر ! كما أن التوهّم بامتلاكها ، يختلف من شخص إلى آخر! فربّما اعتقد أحد الحمقى، أنه أوتيَ الحكمة وفصل الخطاب، وأنه، وحده ، المؤهّل ، للفصل بين الأمور! فيجرّ نفسه ، ومَن حوله ، إلى كوارث ، لايعلم مداها إلاّ الله .. وهو يحسب أنه يحسن صنعا ! وواجب المتضرّرين من (حكمته!) ، هو شكمه بحزم ، كيلا يهلك الحرث والنسل ، ويحرق بلاده ، وهو جالس يغنّي ، ويستمتع بمنظر اللهب المتصاعد من جحيمها .. وربّما ردّد قول المعرّي :

 وإنّي ، وإن كنت الأخيرَ زمانـُه لآتٍ بما لمْ تَستطعْه الأوائـل !

 (7) يبقى ، التذكير بالعنوان ، على ضوء السطور المذكورة آنفاً ، فنقول : إن سوق الكتابة السياسية، لاتخضع ، دائما، للقانون الراسخ ، الذي يحكم السوق ، وهو قانون العرض والطلب! فقد تَفرض بعض الكلمات ، نفسَها ، بطريقة اقتحامية ، دون أن يشعر الناس بحاجتهم إليها ، ابتداءً ، فتحدث تأثيراً هائلاً، سلبياً أو إيجابياً..أو تحدث السلب والإيجاب معاً، لفئات متعارضة، على مبدأ : مصائب قوم عند قوم فوائد ! وذلك على مستوى وطن ، ودولة ، وشعب .. أو على مستوى إقليم كامل ، بل على المستوى الدولي أحياناً !

 (8) ويبقى ، أخيراً ، واجب الإشارة ، إلى القانون اللطيف ، الذي اكتشفه الإمام الشافعي ، ذات يوم ، متأخّراً، وبنى عليه نوعاً خاصاً من الفقه.. والذي أولاه علماء الاقتصاد ، بعض مايستحقّ، من العناية والاهتمام .. وهو ذلك الذي عبّر عنه الشافعي ، بقوله :

 لكلّ ساقطةٍ في الحيّ لاقِـطةٌ وكلّ كاسدةٍ ، يوماً ، لها سوق !

وسندع هذا القانون الطريف ، في حدود الحيّز الذي اكتشفه فيه الشافعي ، دون تفصيل في الحديث ، عن أهمّيته البالغة ، في ظروف معيّنة ، يتحوّل فيها إلى قانون أساسي ، وهامّ ، في حياة الكثيرين .. عند فساد الأذواق !

وسوم: العدد 750