قدوة القيادة في الإسلام 17
قدوة القيادة في الإسلام
الحلقة السابعة عشرة :
الهجرة إلى المدينة المنورة 5
د. فوّاز القاسم / سوريا
قال ابن اسحق : فلما أذن الله تعالى له صلى الله عليه وسلم بالحرب، وبايعه هذا الحي من الأنصار على الإسلام ، والنصرة له ولمن اتبعه، وآوى إليهم من المسلمين
أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم أصحابه من المهاجرين من قومه، ومن معه بمكة من المسلمين ، بالخروج إلى المدينة والهجرة إليها ، واللحوق بإخوانهم ، من الأنصار ، وقال :
(( إن الله عز وجل قد جعل لكم إخواناً وداراً تأمنون بها )).
فخرجوا أرسالاً (أي جماعات) ، فكان أول من هاجر إلى المدينة من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم من المهاجرين من قريش ، أبو سلمة بن عبد الأسد المخزومي ، ثم تتابع المهاجرون ، وأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم بمكة بعد أصحابه من المهاجرين ، ينتظر أن يؤذن له في الهجرة .
ولم يتخلف معه بمكة أحد من المهاجرين إلا من حُبس أو فُتن ، إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق ، رضي الله عنهما ..
وكان أبو بكر كثيراً ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وسلم : لاتعجل لعل الله يجعل لك صاحباً ، فيطمع أبو بكر أن يكونه.
ولما رأت قريش أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد صارت له شيعة وأصحاب من غيرهم بغير بلدهم ، ورأوا خروج أصحابه من المهاجرين إليهم ، حذروا خروج رسول الله صلى الله عليه وسلم إليهم ، وخافوا أن يكون قد أجمع لحربـهم .
فاجتمعوا له في دار الندوة يتشاورون فيما يصنعون بأمره ، فاجتمع رأيهم أخيراً على أن يأخذوا من كل قبيلة فتى شاباً جلداً ، ثم يعطى كل منهم سيفاً صارماً ، ثم يعمدوا إليه فيضربوه ضربة رجل واحد فيقتلوه ، فيتفرق دمه في القبائل ، فلا يقدر بنو عبد مناف على حربهم جميعاً ، فيقبلوا بالدية ، وضربوا لذلك ميعاد يوم معلوم…
فأتى جبريل عليه السلام رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال :
لا تبت هذه الليلة على فراشك الذي كنت تبيت عليه .
قال : فلما كانت عتمة من الليل ، اجتمعوا على بابه يرصدونه متى ينام ، فيثبون عليه ، فلما رأى رسول الله صلى الله عليه وسلم مكانهم، قال لعلي بن أبي طالب : (( نم على فراشي ، وتسجَّ ببردي هذا الحضرمي الأخضر ، فنم فيه ، فانه لن يخلص إليك شيء تكرهه منهم )) ..
قال ابن اسحق : وخرج رسول الله صلى الله عليه وسلم فأخذ حفنة من تراب في يده ، وجعل ينثر التراب على رؤوسهم وهو يتلو بعض الآيات من سورة (يس) إلى أن وصل إلى قوله تعالى : (( فأغشيناهم فهم لا يبصرون)).
فاخذ الله تعالى على أبصارهم عنه فهم لا يرونه .
قال ابن اسحق : يروي عن عائشة أم المؤمنين أنها قالت : كان لا يخطئ رسول الله صلى الله عليه وسلم ، أن يأتي بيت أبي بكر أحد طرفي النهار ، إما بكرة وإما عشية ، حتى إذا كان اليوم الذي أُذن فيه لرسول الله صلى الله عليه وسلم في الهجرة ، والخروج من مكة ، أتانا رسول الله صلى الله عليه وسلم بالهاجرة ، في ساعة كان لا يأتي فيها .
قالت : فما رآه أبو بكر ، قال : ما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم هذه الساعة إلا لأمر حدث .
قالت : فلما دخل تأخر له أبو بكر عن سريره ، فجلس رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وليس عند أبي بكر إلا أنا وأختي أسماء .
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : أخرج عني مَن عندك .
فقال : يا رسول الله ، إنما هما ابنتاي ، وفي رواية إنما هم أهلك ، وما ذاك فداك أبي وأمي .!؟
فقال : إن الله قد أذن لي بالخروج والهجرة .
فقال أبو بكر : الصحبة يا رسول الله ، قال : الصحبة .
قالت عائشة : فوالله ما شعرت قط قبل ذلك اليوم أن أحداً يبكي من الفرح ، حتى رأيت أبا بكر يبكي يومئذ .
ثم قال : يا نبي الله ، إن هاتين راحلتان قد كنت أعددتهما لهذا .
فاستأجرا عبد الله بن أرقط ، وكان مشركاً بعد أن وثقا به ، يدلهما على الطريق ، فدفعا إليه راحلتيهما ، فكانتا عنده يرعاهما لميعادهما.
قال ابن اسحق : ولم يعلم بخروج النبي صلى الله عليه وسلم أحد حين خرج ، إلا علي بن أبي طالب ، وأبو بكر الصديق ، وآل أبي بكر .
وقال : فلما أجمع رسول الله صلى الله عليه وسلم الخروج ، أتى أبا بكر ، فخرجا من خوخة لأبي بكر في ظهر بيته ، ثم عمدا إلى غار ثور – جبل بأسفل مكة- فدخلاه ليلاً ، ودخل أبو بكر رضي الله عنه قبل رسول الله صلى الله عليه وسلم فلمس الغار ، لينظر أفيه سبع أو حية ، يقي رسول الله صلى الله عليه وسلم بنفسه .!
وأمر أبو بكر ابنه عبد الله أن يتسمّع لهما ما يقول الناس فيهما نهاره، ثم يأتيهما إذا أمسى بما يكون في ذلك اليوم من الخبر.
وأمر عامر بن فهيرة مولاه ، أن يرعى غنمه نهاره ثم يريحها عليهما، يأتيهما إذا أمسى في الغار .
وكانت أسماء بنت أبي بكر تأتيهما من الطعام إذا أمست بما يصلحهما.
قال ابن اسحق : فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار ثلاثاً ومعه أبو بكر ، وجعلت قريش مائة ناقة لمن يرده عليهم .
وانطلق المشركون في طريق المدينة ، يفتشون في كل المظانّ ، حتى وصلوا إلى الغار الذي هما فيه .
وسمع رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبه ، خفق أقدام المشركين ، فأخذ الروع أبا بكر ، وهمس يحدث النبي صلى الله عليه وسلم: لو نظر أحدهم تحت أقدامه لرآنا .!!!
فأجابه النبي صلى الله عليه وسلم بلغة الواثق :
(( يا أبا بكر ، ما ظنك باثنين الله ثالثهما .!؟ )) . متفق عليه .
فأعمى الله أبصار المشركين ، حتى لم تحن لأحد منهم التفاتة إلى ذلك الغار ، حتى إذا مضت الثلاث ، وسكن عنهما الطلب ، أتاهما صاحبهما الذي استأجراه ببعير لهما وبعير له ، وأتتهما أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، بسفرتهما ، ونسيت أن تجعل لها عصاماً، فلما ارتحلا ذهبت لتعلقها ، فإذا ليس لها عصام ، فحلت نطاقها ، فعلقتها به ، ولذلك سميت بذات النطاقين . هشام1 ( 486 )
فلما قرب أبو بكر رضي الله عنه الراحلتين إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قدم له أفضلهما ، ثم قال : اركب فداك أمي وأبي !
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : بالثمن .؟ قال : بالثمن ..!
قال ابن اسحق : حُدثت عن أسماء بنت أبي بكر رضي الله عنهما ، أنها قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وأبو بكر ، أتانا نفر من قريش ، فيهم أبو جهل بن هشام ، فوقفوا على باب أبي بكر ، فخرجت إليهم ، فقالوا : أين أباك يا بنت أبي بكر .؟
قالت : قلت : لا أدري والله أين أبي .
قالت : فرفع أبو جهل يده ، وكان فاحشاً خبيثاً ، فلطم خدي لطمة طرح منها قرطي .! هشام1 ( 487 )
وقال أيضاً يحدث عنها : قالت : لما خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وخرج أبو بكر معه ، احتمل أبو بكر ماله كله ، وكان خمسة آلاف ، أو ستة آلاف درهم ، فدخل علينا جدي أبو قحافة ، وقد ذهب بصره، فقال : إني لأراه قد فجعكم بماله مع نفسه .!
قالت : قلت : كلا يا أبت .! إنه قد ترك لنا خيراً كثيراً .
قالت : فأخذت أحجاراً فوضعتها في كوة في البيت الذي كان أبي يضع ماله فيها ، ثم وضعت عليها ثوباً ، ثم أخذت بيده ، فقلت :
يا أبت ، ضع يدك على هذا المال ، قالت : فوضع يده عليه ، فقال : لا بأس ، إذا كان ترك لكم هذا فقد أحسن ، وفي هذا بلاغ لكم .
ولا والله ، ما ترك لنا شيئاً ، ولكنني أردت أن أسكن الشيخ بذلك ..!
هشام1 ( 488 )
وذات يوم ، بينما كان جماعة من بني مدلج في مجلس لهم ، وبينهم سراقة بن جعشم ، إذ أقبل إليهم رجل منهم فقال : إني قد رأيت آنفاً أسودة بالساحل ، أراهما محمداً وأصحابه ، فعرف سراقة أنهم هم ، ولكنه أراد أن يثني عزم غيره عن الطلب ، فقال له : إنك قد رأيت فلاناً وفلاناً ، انطلقوا بأعيننا يبتغون ضالة لهم .
ثم لبث في المجلس ساعة ، وقام فركب فرسه ثم سار ، حتى دنا من الرسول صلى الله عليه وسلم ، عثرت به فرسه ، فخرَّ عنها ، ثم ركبها ثانية وسار ، حتى صار يسمع قراءة النبي صلى الله عليه وسلم ، وهو لا يلتفت ، وأبو بكر يكثر من الالتفات ، فساخت قائمتا فرسه في الأرض ، حتى بلغتا الركبتين ، فخر عنها ، ثم زجرها حتى نهضت ، فلم تكد تخرج يديها حتى ارتفع لأثرهما غبار مثل الدخان في السماء ، فعلم سراقة أنه ممنوع عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، وداخله رعب عظيم ، فناداهما بالأمان ، فوقف الرسول صلى الله عليه وسلم ، ومن معه حتى وصل إليهم ، فاعتذر إليه ، وسأله أن يستغفر له ، ثم عرض عليهم الزاد والمتاع ، فقالا له : لا حاجة لنا بذلك ، ولكن عمِّ عنا الخبر ، فقال : كفيتم .
ثم عاد سراقة أدراجه إلى مكة ، وهو يصرف أنظار الناس عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ، بما يراه من القول .
وهكذا انطلق إليهما في الصباح جاهداً في قتلهما ، وعاد في المساء يحرسهما ، ويصرف الناس عنهما . بوطي181 .
وكان الأنصار يخرجون لما سمعوا بمقدم رسول الله صلى الله عليه وسلم من مكة ، كل يوم إذا صلوا الصبح إلى ظاهر الحرة ينتظرون مقدمه صلى الله عليه وسلم ، ولا يبرحون حتى تغلبهم الشمس على الظلال ، وذلك في أيام حارة ..
ولما وصل رسول الله صلى الله عليه وسلم إلى قباء ، استقبله من فيها بالترحاب . وأقام فيها بضعة أيام نازلاً على كلثوم بن هدم ، حيث أدركه فيها علي رضي الله عنه ، بعد أن أدى عنه الأمانات إلى أصحابها . وأسس النبي صلى الله عليه وسلم هناك مسجد قباء، وهو المسجد الذي وصفه الله تعالى بقوله : (( لمسجدٌ أُسِّسَ على التقوى من أول يوم ، أحقُّ أن تقومَ فيه )). التوبة (108).
ثم واصل سيره إلى المدينة فدخلها لاثنتي عشرة ليلة خلت من ربيع الأول ، بعد ثلاثة عشر عاماً من بعثته الشريفة .
وكانت الجمعة قد أدركته وهو في طريقه إلى المدينة ، في منازل بني سالم بن عوف ، فصلاها في المسجد الذي في بطن الوادي ، فكانت أول جمعة صلاها بالمدينة . هشام1 (494 )
واعترض طريقه الأنصار ، كل يمسك بزمام راحلته ويرجوه أن ينزل عنده ، فكان يقول : دعوها فإنها مأمورة .
فلم تزل تسير في فجاج المدينة وسككها ، حتى بركت في مربد لغلامين يتيمين من بني النجار ، أمام دار أبي أيوب الأنصاري ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ها هنا المنزل إن شاء الله .
وجاء أبو أيوب فاحتمل الرحل إلى بيته .
روى أبو بكر بن أبي شيبة ، وابن اسحق ، والإمام أحمد بن حنبل ، من طرق متعددة ، بألفاظ متقاربة ، أن أبا أيوب الأنصاري رضي الله عنه ، قال وهو يحدث عن أيام رسول الله صلى الله عليه وسلم عنده: لما نزل رسول الله صلى الله عليه وسلم في بيتي نزل في أسفل البيت ، وأنا وأم أيوب في العلو فقلت له : يا نبي الله ، بأبي أنت وأمي إني لأكره وأُعظم ، أن أكون فوقك وتكون تحتي ، فاظهر أنت فكن في العلو ، وننزل نحن نكون في الأسفل .
فقال : يا أبا أيوب ، إنه لأرفق بنا وبمن يغشانا ، أن نكون نحن في أسفل البيت .
قال : فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم في سفله ، وكنا فوقه في المسكن ، ولقد انكسرت جرة لنا فيها ماء يوماً ، فقمت أنا وأم أيوب بقطيفة لنا ، ما لنا لحاف غيرها ، ننشف بها الماء ، تخوفاً أن يقطر على رسول الله صلى الله عليه وسلم منه شئ يؤذيه ، فنزلت إليه فلم أزل أستعطفه ، حتى انتقل إلى العلو ..
قال : وكنا نصنع له العشاء ، ثم نبعث به إليه ، فإذا رد علينا فضله، تيممت أنا وأم أيوب موضع يده ، فأكلنا منه نبتغي بذلك البركة.
حتى بعثنا إليه ليلة بعشائه ، وقد جعلنا له بصلاً وثوماً ، فرده رسول الله صلى الله عليه وسلم ، ولم أر ليده فيه أثراً ، فجئته فزعاً ، فقلت: يا رسول الله ، بأبي أنت وأمي ، رددت عشاءك ، ولم أر فيه موضع يدك ، وكنت حينما ترد علينا فضل طعامك ، أتيمم أنا وأم أيوب موضع يدك ، نبتغي بذلك البركة ، فقال : إني وجدت فيه ريح هذه الشجرة ، وأنا رجل أناجي ، فأما أنتم فكلوه . قال : فأكلناه ، ثم لم نضع في طعامه شيئاً من البصل أو الثوم بعد . بوطي ص 183
وبوصول النبي صلى الله عليه وسلم ، الى المدينة المنورة ، تكون قد انتهت مرحلة من أصعب المراحل التي عاشها صلى الله عليه وسلم ، مع أصحابه الكرام رضوان الله عليهم ، وهي مرحلة الاستضعاف .
وبدأت مرحلة جديدة في عمر الدعوة المباركة ، وهي مرحلة التمكين في الأرض ، وإقامة الدولة الإسلامية الراشدة .
ولذلك فان أول عمل عمله النبي صلى الله عليه وسلم ، في بداية هذه المرحلة الجديدة هو : إقامة أسس وأركان هذه الدولة العتيدة .
مثل : بناء المؤسسات الراشدة ، وتأسيس الجيش المجاهد ، وكتابة الوثيقة (الدستور ) ، وتنظيم المجتمع ، وهذا هو موضوع القسم الثاني من هذه الدراسة بإذن الله …