معارك إدلب بين تعدد الأسباب وغموض النهايات
في 30 سبتمبر عام 2015 بدأ سلاح الجو الروسي توجيه ضرباته الجوية في الأراضي السورية ، جاء ذلك بناءً على طلب من الرئيس السوري . وافق مجلس الإتحاد الروسي على تفويض الرئيس بوتين إستخدام القوات الروسية خارج البلاد ، وقدر الوقت المطلوب لعمل تلك القوات بثلاثة أشهر ، حيث ستتمكن من هزيمة داعش، وها هي القوات الروسية دخلت عامها الثالث ولم تنجز مهمتها بعد ، علماً أنها نفذت أكثر من تسعين ألف طلعة جويه هاجمت من خلالها أكثر من مائتين وخمسين ألف هدف ، كان نصيب المعارضة السورية منها سبعة وتسعون بالمئة فيما طال داعش منها ثلاثة بالمئة فقط حسب وكالة الإستخبارات الأمريكية.
جاء التدخل الروسي في الوقت المناسب بالنسبة للنظام السوري ، حيث فقدت القوات السورية أكثر من ستين بالمئة من الأراضي ، وبعد أن فشل حزب الله وإيران ومليشياتها في وقف تقدم قوات المعارضة السورية ومحاصرتها لسوريا المفيدة ، و تزامن ذلك مع تمدد تنظيم الدولة في ريف حلب الشمالي والشمالي الشرقي. وقد عبر عن ذلك الوضع الرئيس السوري عندما تحدث عن ضرورة التنازل عن بعض الأراضي من أجل الحفاظ على أراضٍ أكثر أهمية ، فيما كان وزير الخارجية الروسي أكثر وضوحاً عندما قال أن التدخل الروسي جاء قبل سقوط النظام السوري بأسبوعين. إستطاعت القوات الروسية من إعادة التوازن العملياتي الذي فقدته قوات النظام السوري وحلفائه، ومع مرور الوقت تمكنت قوات النظام والقوات الرديفة بفضل الحملة الجوية الروسية من تحقيق إنجازات ميدانية كبيرة في محافظة اللاذقية و جبال الأكراد والتركمان ووادي بردى والغوطة الغربية كما تمكنت من إستعادة السيطرة على أحياء مدينة حلب الشرقية. تزامنت تلك العمليات مع إزدياد تعقيد الأزمة السورية ، حيث إختارت الولايات المتحدة الأمريكية التحالف مع الأكراد وأنشأت قوات قسد ( قوات غضب الفرات) وبدأت عملياتها شرق الفرات فيما إختارت تركيا التحالف مع بعض فصائل المعارضة المسلحة تحت مسمى قوات درع الفرات وبدأت عملياتها أيضاً غرب النهر وكانت عملياتهما تنافسية وليست تكاملية رغم أنها ضد نفس العدو (داعش). بعد إستعادة قوات النظام السيطرة على الأحياء الشرقية من مدينة حلب تم توقيع وقف إطلاق النار في أنقرة بضمانة تركية روسية والذي أفضى الى عقد لقاء أستانا الاول ، يعتبر لقاء أستانا الرابع العلامة الفارقة في تلك السلسلة إذ أقرت روسيا والدول الضامنة إنشاء مناطق خفض التصعيد. و يمكن تقييم قرار إنشاء مناطق خفض التصعيد إيجابيا من الناحية الإنسانية والأخلاقية بسبب تراجع حدة القتال في بعض المناطق وإنخفاض معدل القتل اليومي ، ولكنه ترك آثاراً سلبية كبيرة على المعارضة السورية من الناحية العسكرية ، حيث حوصرت قوى المعارضة في مناطق محددة مما أفقدها القدرة على المناورة العملياتية وإمكانية تقديم الإسناد المتبادل بين تلك المناطق ، فيما أطلقت يد قوات النظام وحلفائه لشن عمليات واسعة في البادية الشرقية والحدود السورية اللبنانية ، إستطاعت إكمالها بنجاح بإستثناء جيب التنف . أدى تسارع العمليات العسكرية في البادية الشامية الى تزايد الدعم الأمريكي لقوات قسد والتي تمكنت من السيطرة على مدينتي الطبقة والرقة ومعظم أراضي بادية الجزيرة . تلى إستعادة السيطرة على مدينة البوكمال توالي تصريحات المسؤولين الروس والإيرانيين عن العمليات العسكرية المستقبلية ، فصرح مستشار المرشد الإيراني السيد علي أكبر ولايتي أنه يتوقع أن يبدأ الجيش السوري قريباً إنتزاع السيطرة على محافظة إدلب الخاضعة للمعارضة المسلحة وكذلك مدينة الرقة التي تسيطر عليها قوات قسد . تلى ذلك تصريح وزير خارجية روسيا بأن عام 2018 سيكون عام القضاء على جبهة النصرة المسيطرة على إدلب متناسياً أنه يوجد في تلك المناطق عشرات الفصائل المسلحة الأخرى غير المصنفة كتنظيمات إرهابية ، وهي متداخلة الإنتشار مع جبهة النصرة بحيث يصعب الفصل بينها جغرافياً. أُعتبر خط سكة الحديد الحجازي الذي يمر من أبو الظهور عبر سنجار -أبو دالي – قبيلات أبو الهدى- معردس ، هو الحد الفاصل بين مناطق النفوذ الروسية ومناطق النفوذ التركية في منطقة تخفيض التصعيد الرابعة مما يسمح لهما بنشر قوات مراقبة في تلك المناطق. تغاضت كل من القوات الجوية الروسية وقوات النظام عن إنتقال قوات تنظيم الدولة خلال شهر تشرين أول الماضي من مناطق نهر الفرات عبر وادي العذيب ومن ريف السلمية وبلدة عقيربات التي تحاصرها قوات النظام الى بلدة الرهجان لتبدأ هجماتها ضد هيئة تحرير الشام مستغلة عاملي المفجأة وتنشيط الخلايا النائمة مما مكنها من السيطرة على ثلاثة عشر بلدة ، تمكنت هيئة تحرير الشام من إستعادة السيطرة على خمسة منها من خلال الهجمات المعاكسة . إستغلت قوات النظام السوري والقوات المتحالفة معها الأوضاع الميدانية الجديدة فبدأت في منتصف شهر تشرين الثاني الماضي بشن هجوماً على المثلث المشترك ( ريف حماة الشمالي الشرقي ، ريف إدلب الشرقي ، ريف حلب الجنوبي) ومن ثلاثة محاور : المحور الأول ، ويبدأ من منطقة خناصر بإتجاه بلدة الحص ، وإستطاعت القوات السورية. مدعومة بالفصائل الشيعية والخبراء الإيرانيين والدعم الجوي الروسي من السيطرة على بلدات الرشادية ، الحجارة وعبيسات وهي النقاط التي تفصلها عن المطار . المحور الثاني ، ويبدأمن ريف حماة الشمالي للسيطرة على أبو دالي وسنجار. المحور الثلث ، ويبدأ من ريف إدلب الجنوبي للسيطرة على مورك والتمانعة وخان شيخون . بدءاً من الخامس والعشرين من شهر كانون أول الماضي صعّدت القوات الجوية الروسية مدعومة بطائرات النظام والقصف المدفعي والصاروخي من حملتها معتمدة سياسة الأرض المحروقة لتسريع وتيرة العمليات العسكرية ولتحقيق إنجازات عسكرية ميدانية تقوي أوراق النظام التفاوضية في مؤتمر سوتشي ، وترغم المعارضة على المشاركة فيه . تمكنت قوات النظام العاملة على المحور الجنوبي من السيطرة على العديد من البلدات والمزارع من أهمها أبو دالي وسنجار ووصلت مساء يوم الأربعاء العاشر من كانون الثاني الى الأطراف الجنوبية لمطار أبو الظهور. إزداد المشهد الميداني تعقيداً صباح يوم الخميس التالي ، حيث شنت قوات المعارضة ثلاث عمليات عسكرية متزامنة هي : هجوم معاكس مزدوج من داخل مطار أبو الظهور ومن الجهة الجنوبية الشرقية للمطار حيث تمكنت من إستعادت السيطرة على تل سلمو وأبعدت القوات المهاجمة مسافة خمسة كيلو مترات عن المطار . أطلقت فصائل المعارضة المسلحة ( جيش العزة، جيش النصر، جيش إدلب الحر،جيش النخبة،فيلق الشام، الجيش الثاني) معركة رد الطغيان بهدف إستعادة السيطرة على البلدات والمزارع التي فقدتها وعمل إحاطة قريبة لقطع طرق إمداد قوات النظام تمهيداً لمحاصرتها ، تمكنت قوات المعارضة من السيطرة خلال الساعات الأولى للمعركة على اكثر من عشرة بلدات من أهمها عطشانة ، والخوين وزرزور ، إِلَّا أن قوات النظام قامت بشن هجمات معاكسة إستعادت من خلالها بعض البلدات منها الخوين والسلوقية ولا تزال المعارك بين كَر وفر. بدأت حركة أحرار الشام وبالتعاون مع جيش الأحرار ، حركة نور الدين زنكي معركة” إن الله على نصرهم لقدير ” إنطلاقاً من ريف حماة الشمالي وريف إدلب الجنوبي الشرقي فيما نفذ الحزب الإسلامي التركستاني عملية مستقلة إنطلاقاً من قاعدته في أم الخلاخيل حققت جميعها إنجازات محدودة. إستغل تنظيم الدولة الأوضاع الميدانية المرتبكة وبدأ بشن هجوماً على مطار أبو الظهور من الجهة الجنوبية الشرقية حيث سيطر على ثلاثة عشر قرية منها قصر بن وردان وجب القناة وجب الصفا وغيرها ،ويبعد الآن خمسة عشر كيلومتراً عن مطارأبو الظهور ، وَمِمَّا يثير الدهشة أن قوات تنظيم الدولة تعمل في منطقة ملاصقة لعمل قوات النظام على محور خناصر الخص. و رغم أن السمة الغالبة للمعارك الحالية هي الكر والفر وتبادل السيطرة على على المواقع لساعات أو أيام إِلَّا أن قوات النظام السوري وحلفائه تتميز بتوفر الغطاء الجوي والكثافة النارية والقدرة على المناورة وتوفر الإسناد الإداري والطبي مما يجعلها قادرةً على حسم معركة مطار أبو الظهور لصالحها .
خسرت قوات المعارضة منذ الخامس والعشرين من كانون الأول 117 قرية ، فيما بلغ مجموع القرى والمزارع التي خسرتها منذ منتصف تشرين الأول 160 قرية حسب المرصد السوري جراء تقدم قوات النظام وحلفاءه على جبهة بعرض 22 كيلومتر وبعمق 28 كيلو متر . سرعة تقدم قوات النظام وعدم حدوث معارك حاسمة وعدد البلدات والمزارع التي فقدت أثار العديد من التساؤلات والتي بلغت حد التخوين لجبهة فتح الشام ، لكنني أعزو ما حدث للأسباب السياسية والعسكرية التالية: الإصرار الروسي على حل الأزمة السورية وفقاً للرؤية الروسية والتي تبقي على مؤسسات الدولة السورية المتبقية ونظام الأسد ، وتعتبر أن إنعقاد مؤتمر سوتشي يمهد الطريق للوصول الى تلك الغاية ، كما تعتبر روسيا أن المعارضة السورية بشقيها السياسي والعسكري مسؤولين عن تأجيل إنعقاد المؤتمر في الماضي وإحتمالية فشل عقد المؤتمر القادم خاصة بعد إعلان أكثر من أربعين فصيل عسكري والعديد من شخصيات الإئتلاف السوري عدم المشاركة به ، لذا لجأت روسيا للتصعيد العسكري لفرض واقع ميداني جديد ووضع المعارضة بين خيارين إما المشاركة أو تدمير إدلب. الطموح الإيراني بتعزيز نفوذها في المناطق المحاذية لمنطقة النفوذ الروسي والإقتراب من قواعدها العسكرية في حميميم وطرطوس ، وفك الحصار عن كفريا والفوعة وربطها بممر أرضي مع نبل والزهراء في ريف حلب الشمالي الغربي.
تشرذم فصائل المعارضة المسلحة وعمليات الإقتتال بينها مما أضعف قدراتها القتالية وعمق الشرخ بينها ، حيث أصبح من الصعب جداً انشاء جيش وطني موحد أو تأسيس غرفة عمليات مشتركة تكون مسؤولة عن تخطيط وإدارة العمليات القتالية في الحد الأدني مما جعل الفصائل تقاتل إما منفردة أو في تجمعات صغيرة ، والتي في الغالب ما ترتكب أخطاء قاتلة كإنسحاب بعض الجماعات المقاتلة دون التنسيق مع القوات التي تعمل على جنباتها مما يحدث ثغرة في الجدار الدفاعي تأدي تداعياتها الى انهيار المنظومة الدفاعية بالكامل.
محاولة هيئة فتح الشام أن تقدم نفسها أنها ليست تنظيماً إرهابياً وأنها خلعت رداء القاعدة ، وإنها مستعدة للتعامل مع مخرجات أستانا ( التي لم تشارك بها ) وما يتمخض عنه مؤتمر سوتشي ، لذا نجدها لم تقاتل بنفس الضراوة والروح المعنوية وتخلت عن عشرات البلدات والمزارع في الريف المشترك خاصة ريف حلب الجنوبي (114 بلدة ) ، ولم تستخدم أسلوبها المفضل في القتال والمتمثل بالعمليات الإنتحارية والإنغماسية وهو ما أثار الشكوك حولها. الموقف التركي المتردد في إتخاذ قرارات حاسمة بشأن التدخل العسكري الفعلي وتكرار تجربة درع الفرات ، فلم تستغل تركيا فرصة نشر مراقبين وقوات عسكرية في نقاط المراقبة الإثنتي عشر وإكتفت بنشر200 عنصر في محيط مدينة عفرين . ويمكن تفسير ذلك التردد أنه نتيجة حتمية للضغوط الأمريكية الروسية ، وتركيز تركيا على الخطر الكردي بإعتباره يمس مباشرة بالأمن القومي التركي.
تعتبر تركيا منطقة الحدود السورية التركية تقع ضمن الميثاق الوطني التركي ( ميثاق الأمة) ، والذي يعطيها حق المشاركة في تقرير مصير مناطق خارج حدودها الجغرافية كالموصل وكركوك وحلب وإدلب ومناطق أخرى في اليونان وبلغاريا إستناداً الى معاهدتي سيفر ولوزان . وهذا ما أشار إليه الرئيس التركي عندما ألمح الى إمكانية التحرك العسكري في منبج وعفرين وقد تتجاوز القوات التركية تلك المناطق إذا ما واصلت القوات السورية بعد حسم معركة مطار أبو الظهور الى المدن الرئيسية في إدلب مما يعني إغراق تركيا بموجات نزوح تقدر بالملايين . يسعى النظام السوري ومن وراءه إيران الى إستعادة السيطرة على كامل التراب السوري ، لكن ذلك لن يتحقق له في المدى المنظور تحديداً في منطقة بادية الجزيرة بسبب التواجد الأمريكي والمتوقع إستمراره لسنوات ، كما لن تستطيع السيطرة على كامل محافظة إدلب بسبب الرفض التركي والتحفظ الروسي ، وقد يكون الطريق الدولي حلب سراقب حماة هو الخط الفاصل الجديد لمنطقة خفض التصعيد الرابعة ، مالم تحدث تغيرات هامة سواء على الأرض السورية في البعدين السياسي والعسكري أو في مواقف الدول الفاعلة إقليمياً وعالمياً.
وسوم: العدد 756