مخطوطةُ المحنة
رعد فاضل/ العراق/الموصل
بدا مثلَ محكومٍ بالموتِ ، يركضُ خلفَ بنادقِ اعدامِهِ
لا تخرجْ وأنتَ كمثْلِ صبّيٍ تائهٍ ينحَشِرُ في ظلامِ روحِهِ
إعطِهم قمصانَ الشمسِ التي يريدونَ، ولكنْ ابخَلْ بما بينَ عينيكَ
أعطِهم ولا تأبَه بهذي الذّئابِ وصَيْدِها.
لا تخرجْ فتفاجِئُهُمْ بلحيةٍ حالكةٍ ووجْهٍ قمطريرٍ وحاجبيْنِ مُقطِّبيْنِ لم يُرَ مثلُهُما
فهؤلاءِ محروسونَ بدراويشَ يَلْهَمونَ الزّرنيخَ وسْطَ دفوفٍ وبَخورٍ
ويجلسونَ إلى جنٍّ تلحسُ أصابعَهُمُ الذّئاب.
لا تخرجْ حتى إلى صحْنِ البيتِ وإنْ كانوا عنكَ غافلينَ
فالهواءُ بَصّاصٌ، والعصافيرُ ليستْ بحافظةٍ للعهود.
فلا تخرجْ
ولكنْ لا تأبَه، ماداموا بكَ يأبهونْ .
ربّما سأظلُّ مليئاً بالماءِ
والصّحراءُ تهربُ من حولي
وعلى كتفيَّ الشتاءُ يضحكُ
وخلفي الخريفُ يجرُّ خيطَ الغيومِ
كمثْلِ طيّارةٍ تُتَعتِعُها الرّيحُ
وكانَ الربيعُ
يتعلّقُ بأذيالي ويضربُ بِكعْبَيْهِ الأرضَ... ويبكي..
وربّما كانتِ الغيومُ وقتَها تتكئُ على الجبالِ وتَصْفُنُ
والسّهولُ خلفَ الوعولِ تهرولُ
وربّما الأرملةُ إيّاها مازالتْ تأخذُ الزهورَ إلى ذاكَ الضّريحِ
ولا تتضوَّرُ إلاّ في الظّلامِ، وبينَ ساقيها مخدَّةٌ طويلةٌ
وهيَ كمثلِ جمرةٍ تتفايضُ منها اللّوعةُ والقيْظُ
وربّما ينبغي الآنَ وأنت تذهبُ وحدَكَ إلى حربِ الظّلامِ،
أنْ تُذخِّرَ عينيكَ بالشمسِ،
وشَعْرَكَ بالنّجومِ وأصابعَكَ بالفخاخِ
وإذا سمِعتَ صوتاً يغويكَ فلا تلتفت
أو رأيتَ نفسَكَ في الطريقِ يملأ عينيها الدّمعُ، وتلفُّها الوَحشَةُ والغبارُ فلا تعجَب، ولا تصافحها لئِلاّ تخطف من أصابعِكَ الفخاخَ وتنقلب عليكَ
وإذا..إذا رأيت نساءً يقذفنَ بِحصىَ كمثْلِ حبّاتِ الدّمعِ عشاقَهُنَّ البائدينَ
أو أطفالاً يُكتّفونَ بالقِِماطاتِ المُرضعاتِ
ويقطفونَ حُلْماتِهنَّ
ويتراشقونَ بها فلا تجفلْ
ولا تتدخّل، فالوقتُ ضيّقٌ والطريقُ صراطٌ وفخاخٌ، والجهاتُ هباءٌ
وأنتَ لا بالشّبحِ ولا بالمكشوفِ عنهُ أيُّ غطاءٍ
وأنتَ وحيدٌ وجيوبُكَ مملوءةٌ بالوساوسِ والآثامِ والحداثيّينَ، وقد ألقيْتَ خلفَ ظهرِكَ عينيكَ
وإذا .. إذا ما رأيتَ قافلةَ الأصدقاءِ يمرّونَ بكَ بعيونٍ كمثْلِ ثقوبِ الجحيمِ، فلا تلتفتْ إلى أحدٍ
ولا تحزَن
وامضِ..... فأنتَ منذُ هؤلاءِ وحيد.
… وربّما لامناصَ الآنَ مِنْ أنْ تعّلِقَ حولَ عنقِكَ الفانوسَ التّعبانَ إيّاهُ، وتستلَّ مِنْ حزامِكَ عصا الكلامِ الغليظةَ
وتنثُرَ خلفَكَ الزّرنيخَ والرّيحَ
وتَعتِقَ ظِلّكَ، وأنتَ تمشي خلفَكَ
لا مناصَ مِنْ أنْ تدُّسَ في عِبّكَ الشتاءَ، وتتأهّبَ لصيفٍ هائلٍ وطويلٍ- غليظِ العُودِ والقلبِ
لامناصَ مِنْ أن تَراكَ وأنت تهرولُ خلفَكَ، وترشقُ ظِلَّكَ بالحجارةِ والأيّامِ،
وأصابعُكُ بينَ يديكَ تصيحُ:
ويْلكَ،
توقّفْ .
لا مناصَ
لا مناصَ،إذاً، مِنْ وحيدٍ كَمِثْلِ هذا
بظلٍّ طويلٍ..............................
وكتابةٍ وحيدة .
… وهكذا
ومنذُ أوّلِ هذي الطريقِ في: 1957 كان يُلقي خلفَهُ الحَبَّ
لكنّ الحمامةَ (التي ذبحَها فيما بَعْدُ) كانتْ تَلْقُطُ الحَبَّ وتضحكُ في سرّها
منذُ تذوّق لثْمَ البَراطمِ
ورأى كيفَ يسقطُ على القطّةِ البيضاءَ(إيّاها) الهررةُ
منذُ طَعْمِ أوّلِ تَبْغٍ وشاربيْنِ أعلنا عن فحولتِهِ
ومنذُ أحلكِ قدحِ نبيذٍ: تزوّجتْهُ الوَحشةُ ولم تُطلِّقْهُ بَعْدُ....
منذُ:.. والآن حبيبي كيفَ كانتْ تسجدُ شفتاكَ على أصابعي الملّطخةِ بالكتابةِ وتبوسُ فيها الوَحْشةَ وتبكي
كيفَ كمِثْلِ العبدِ ظِلُّكَ كانَ مُقيَّداً إلى ظلّي
وقلتَ وقتَها: ادخلْ، ولا تخرج. وصرتَ على ظِلّي تدوسُ
ولا تلتفِتْ إليَّ وأنتَ أمامي تمشي........ وتضحكُ....
منذُ ذاكَ كلِّهِ وحتّى سقوطِ الكتابةِ مَغشياً عليها
وأنا راكعاً أبوسُ لها قدميْها ويديها. منذُ صارتِ الأيامُ قِلادةً تسّاقطُ خِرزاتُها مِن عنقي
والأيامُ حصىً في جيوبِ الموتى، وكلَّ غروبٍ يحصونَها حصاةً.. حصاةً ولا تنقُصُ
فليتَ أنّي ما قطعتُ للشّمسِ عهداً
بأنْ لا أنامَ مع النّجمةِ
في سرير البراري،
وتحتَ دثارِ الظّلامِ
ليتني ما تَدلّيتُ بأغصانِ ضَوئِها،
ولا دفنتُ بين نَهديْها الشّرقَ كلَّهُ
ليتَني
ليتني أُقنِعُها الآنَ
بأن تتلثّمَ عنّي بصديقي الغَمامِ
ليتني يا آلكلامُ الكاهنُ ما جئتُ عن فُتنةِ الكتابةِ أسألُ
وليتكَ، ليتكَ لم تُضِئني
فانظرْ كيف أعطافُ الكلامِ بينَ أصابعي، لا تذبلُ
ليتكَ ما ابتليتني بالمثولِ بينَ يديكَ، سيداً، يا آلكاهنُ وقتَ أشاءْ.
ليتكَ ما دحرجتَ مِثلَ قِداحِ العِرافةِ رؤوسَ الأبجديّةِ بينَ يديَّ،
وحبستَ عنّيَ النّومَ
وفي حلقي كلُّ هذا البكاءْ .
… فاكتُبْ
ولاتخرُج
ولاتدخل
ولا تضحك
ولا تَبكِ
………………….أكتُبْ…………………….
عندما وسوسَ لهُ البهتانُ .. ورأى
اغوتْهُ أصابعُهُ أن يفتحَ كتابَ وساوسهِ
ويجلسَ إلى أربابِ السِّحرِ
ويرى كم كانَ المَسحورونَ سعيديْنَ
وكيفَ كانَ الحَرْملُ السّيدَ
وكيفَ كان الهواءُ رسولَ النّكهةِ
وكيف كانَ الدخانُ كَمِثْلِ أشباحٍ، يُلقِّنُ أفواجَ الدّاخلينَ ويُلقي البُهتانَ في قلوبِ الخارجين.
يرى ديكةً لم يُرَ مِثلُها تُنحَرُ
يرى نساءً كالعاجِ يدخُلنَ مُضرّجاتٍ بالتّسابيحِ والتّعاويذِ
يرى حظوظاً ذهبيةً في مُتناوَلِ الحَفْنِ، ولكنْ عَصيّةٌ على أيّ حَفْنٍ
يرى إليهِ وَهْوَ يحفنُ لؤلؤاً مَطحوناً ينثُرُهُ في وجهِ شمسٍ ليستْ كالشّمسِ
يرى بحراً مِنَ النّملِ يدبُّ على سيقانٍ وأفخاذٍ وأثداءٍ كأنّها الزّبدةُ لنسوةٍ، هدّهُنَّ الليلُ والدَّعكُ والتّعبُ
يرى عبيداً كمثْلِ النّخلِ ينهالونَ على ظَهْرِ الصّحراءِ بالسّياطِ (وكانتِ الينابيعُ مِنْ جَنباتِها تَطقُّ وَهْيَ تُحَمحِمُ
ويكادُ يغلبُها البكاءُ) يرى نبيذاً ليسَ كمثلِهِ شرابٌ يلقي عليهِ القبضَ الزنجبيلُ
يرى كفّاً لِصّةً تقطعُها حافّةُ رغيفِ خبزٍ يابسٍ
يرى امرأةً ليسَ كمثلِها نساءُ العالَمينَ وقد تبطّنَتْ كفّها اليسرى، فيما كانتِ اليُمنى تَنُمُّ عليها
يرى كتاباً قد شّقَّهُ دجلةُ نصفَيْنِ(وكان كمِثْلِ ليْلٍ يراقِصُ أمواجاً مِنَ النّارِ) وكانتْ تتقافزُ منهُ الكلماتُ كأنَّها عفاريتُ مِنَ لؤلؤٍ وجَمْرٍ، يضرِبُها الضّوءُ، فإذا بِعَمَىً أبيضَ يغشى العيونَ
يرى رعد فاضل، وقَدْ فلقَ هامتَهُ التأليفُ(كما تفلقُ الزُّبدةَ السّكينُ) وكلُّ هامةٍ تجري خلفَ أُختِها داعيةً لها بالّلعنةِ والويْلِ
وبَيْنا كانَ كذلكَ بَدا الليلُ غُراباً هائلاً يحطُّ على كَتِفِ الشّمسِ
فانكَبَّ على آثامِهِ يوشوِشُها
فإذا بها أُنثى لم يُرَ مِثْلُها، تلطمُ خدّيها (وكانَ الأحمرُ سيّدَ الخدّينِ، ومن حولهما البياضُ حاشيةٌ وعبيدٌ) وكانتِ الأنثى كأنّها تَشُقُّ زيقاً يتفايضُ منهُ عطرٌ وعَسَلُ
فإذا بلؤلؤتيْنِ رَجراجتَيْنِ(منَ الزّيقِ تَندَلقانِ) وهما تَنُزّانِ نبيذاً وسحرا.
يرى...ويرى كيفَ تنهضُ مِنْ مخادعِها الشّمسُ وَهْيَ تنفضُ عن أذيالها غبارَ اللّيلِ، وتَنكَبُّ على حوضٍ من نورٍ لتأخذَ وضُوَءَها، ثمّ تستلُّ غيمةً تغطّي بها رأسَها اللاّهبَ
وكانَ ظِلُّ السماءِ لها (على الأرضِ سَجادةً) والأفقُ إماما .
لا نومَ، إذاً، هنا
ولا يَقَظة.
هنا يمكِنُ أن تكتبَ:
كادَ يغلبُ الأشياءَ النُّعاسُ
هنا إذا أنكبَبْتَ على قبرٍ توشوِشُهُ
فلا بدَّ أنْ تأخذَهُ إلى البيتِ،أو تقطنَهُ
هنا
كلَّ شيءٍ يطيرُ وراءَ بعضِهِ
فيُمْكِنُ أن ترى امرأةً
تطيرُ خلف أيّامِها، ووحشيْنِ طفليْنِ يَمُصّانِ ثدييها
ترى شيخاً
يركبُ ظَهْرَ الرّيحِ
وبينَ يديهِ مِكنسةٌ
يُقشِّشُ بها الغيومَ،
ويُكوِّمُها في عَربةِ الشّتاءِ
أو ترى رؤوساً
تركضُ خلفَ رقابِها،
وأصابعَ تسّاقطُ مثلَ الغبارِ مِنْ أكُفِّها
أو ترى
غزالاً يتَبطّنُ لبوةً
وَهْيَ تفورُ مِنَ الودِّ وتغلي .
يِمكِنُ هنا أنْ " تفصلَ الماءَ عنِ اللّبنِ "
والسُّمَّ عنِ البدَنِ،
ولا يُمْكِنُ أنْ تفصلَ العاشقَ عن سُكْرِهِ،
يُمْكِنُ أنْ ترى الحكمةَ كلَّها
في زَيّ جاريةٍ(مَنْ ينظرُ في عينيها
لابدَّ يَسقط مغشيّاً عليهِ..).
أو ترى ليلاً في جلبابِ شيخٍ
يحفرُ قبراً للقمرِ
وصباحاً يحملُ نعشاً
تُشيّعُهُ عصافيرُ بلا أجنحةٍ،
وبازاتٌ بلا مخالبَ (وكانتِ الشّمسُ، كأنَّ
عليها قُفطاناً من قيظٍ وغبارٍ ودماءٍ،
وهي تلطمُ،
وتهيلُ على رأسِها الغيومَ والترابَ)
ويُمكنُ..يُمكِنُ أنْ ترى المُؤلِّفينَ يُقلَّبونَ في النّارِ وهم يضحكونَ،
وناراً تُقلَّبُ في الماءِ وَهْيَ تضحكُ
وآخرينَ يطيرونَ خلفَ السلاسلِ والزّنازين
والسّياطِ وأعوادِ المشانقِ
وَهيَ تفرُّ كما تفرُّ مِنْ صيّادها الطّرائدُ
يمكِنُ..يمكنُ أنْ ترى التأليفَ في عنقِهِ حديدٌ وعليهِ ثوبٌ مِنْ جُنفاصٍ
وفي معصَمَيْهِ أصفادٌ مِنَ الجَمْرِ
وحولَهُ ذئابٌ كمثْلِ البِغالِ تكادُ تَنوشُهُ
وكانت أصابعُهُ
يسيلُ منها الذّهبُ ،
وعيناهُ كمثْلِ شمسيْنِ
تذرفانِ لؤلؤاً وحِبْراً
وكانَ الصّياحُ مِنْ حولِهِ :
اقطعوا لهُ لسانَهُ
والماءَ عنهُ..،
صَلِّبوهُ ثمَّ حرِّقوهُ
وذرّوهُ في وجهِ الرّيحِ
وكانوا
كلّما أعادوهُ تراباً
التفَّ ببعضِهِ
مثلَ عنقاءَ .. وطارْ .
*رعد فاضل
سيرة ذاتية
له في الشعر:
* الموجة الجديدة
مجموعة شعرية مشتركة
دار الشؤون الثقافية- بغداد
1982 .
* أناشيد المحارب
مجموعة شعرية مشتركة
دار الشؤون الثقافية- بغداد
1984.
* فليتقدّم الدّهاء إلى المكيدة
مطوّلة شعرية
الإتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين- بغداد 1993
* شانقبا إمورو
مجموعة شعرية
دار الشهد للطباعة- نينوى
2000
* عندما اشتبك الضوء بالياقوت
مجموعة شعرية
دار الشؤون الثقافية- بغداد
2003
* مخطوطة المحنة
مجموعة شعرية.
له في المسرح :
* لا غبار..لا أحد
مونودراما شعرية – قدّمت في يوم الفن العربي – بغداد
1989
* أناشيد الأخطاء
مسرحية شعرية – قدّمت في يوم المسرح العالمي– بغداد
1992
* مَنْ .. مِمّن .. ولماذا
مونودراما
قدّمتها كليّة الفنون الجميلة- جامعة الموصل
2007
والمسرحيات الثلاث، من إخراج الفنان د.جلال جميل.
له في الجهد النظري :
* كتاب الإجتثاث والمغادرة
مشترك– سلسلة مجلة نون– 1992
* وقيعة وثلاث عواصف
مشترك: حوارات- سلسلة مجلة نون– 1994
* الآخر من الكلام (آراء في الشعر والشعرية والثقافة).
له في الشعر:
* الموجة الجديدة
مجموعة شعرية مشتركة
دار الشؤون الثقافية- بغداد
1982 .
* أناشيد المحارب
مجموعة شعرية مشتركة
دار الشؤون الثقافية- بغداد
1984.
* فليتقدّم الدّهاء إلى المكيدة
مطوّلة شعرية
الإتحاد العام للأدباء والكتاب العراقيين- بغداد 1993
* شانقبا إمورو
مجموعة شعرية
دار الشهد للطباعة- نينوى
2000
* عندما اشتبك الضوء بالياقوت
مجموعة شعرية
دار الشؤون الثقافية- بغداد
2003
* مخطوطة المحنة
مجموعة شعرية.
له في المسرح :
* لا غبار..لا أحد
مونودراما شعرية – قدّمت في يوم الفن العربي – بغداد
1989
* أناشيد الأخطاء
مسرحية شعرية – قدّمت في يوم المسرح العالمي– بغداد
1992
* مَنْ .. مِمّن .. ولماذا
مونودراما
قدّمتها كليّة الفنون الجميلة- جامعة الموصل
2007
والمسرحيات الثلاث، من إخراج الفنان د.جلال جميل.
له في الجهد النظري :
* كتاب الإجتثاث والمغادرة
مشترك– سلسلة مجلة نون– 1992
* وقيعة وثلاث عواصف
مشترك: حوارات- سلسلة مجلة نون– 1994
* الآخر من الكلام (آراء في الشعر والشعرية والثقافة).