الفكرة وجدان الكلمة

هاشم منقذ الأميري

هاشم منقذ عمر بهاء الدين الأميري ـ الرباط

الفكرة بنت المفكر .. تنام وتفيق على ذراعيه .. يرعاها ويحنو عليها .. يطعمها لوزاً ويسقيها ماء زهر .. يجول معها في حقول البنفسج والأقحوان .. يمسح خدّها برقّة ونعومة .. يصقلها لغة .. ينظر إلى حالها ومآلها بحدب لا يشوبه غش ولا تدليس .. حتى إذا ما شبّت وحان الفراق والرحيل عن الحضن الدافئ الرؤوم .. نثرت دموعها الفضية على الورق حروفاً ومعان وكلمات !

وتبقى نفس الأب متعلقة بها .. يخشى عليها من عيون المتطفلين .. يغار إذا مُسّت .. يفرش لها دروب الحياة بالورد والعطر والياسمين .. كل مُناه أن تحيا وتُنْشَر أفياؤها في قلوب الأناسي .. نضرة برّاقة .. ناعمة هيّنة ليّنة .

هي أخت الكلمة .. وشقيقة المعنى .. منها تنطلق الدلالات وإليها تعود .

يرتاح عندها المهموم والمكلوم .. صورها أدب .. ودروبها طرب .. وغدوّها ورواحها أرب ..

الكلّ يُنشد ودّها .. فهي صديقة الشاعر في شعره وفنّه .. تغني إذا غنى .. وتطرب معه إذا طرب .. تسعد بكلماته وحروفه .. تفتح له أبواباً رحاباً ، وعوالم معطاءة ، وتمسح بيدها معانيه ومشاعره ..

تنام مع القاصّ على فُرُش وثيرة .. ويستيقظان معاً على شقشقات البلابل والشحارير .. يسيران في رحلة ربيعية عذبة وسفر طويل ..

حنينها إلى أبيها دائم .. إنه المحضن الأول الذي بدأت حياتها معه .. إنه جلدها وعمرها .. ترحل عنه طفلة براقة بريئة .. وتعود لتنهل من عقله وفكره .. به تكبر وتنمو .. وبإذنه تسبح في عقول البشر .. لا تترك صغيراً ولا كبيراً إلا وله منها أثر ..

توقظ الأحاسيس والمشاعر والانفعالات الغافية .. الكلمة زادها .. واللغة ماؤها وهواؤها ..

مع الحزين حزينة تبكي همومه .. تئنّ وتتوجع .. حرقتها من حرقته .. تسيل دموعها على شوك الحياة غصصاً وآلاماً .. وتحط ركابها في أحضان السعداء .. تتمطى معهم .. تتقلب على فرش الأزاهير والرياحين .. تأكل صمت العاشقين وتشرب زغاريد الطيور ..

مدعوة دائماً بفخر إلى موائد الناس لا تُتْرَك وشأنها .. مع الطفل طفلة .. والفتى فتاة .. وللرجل أختاً وأخاً .. للمرأة صديقة وجارة .. وزجاجة عطر .. ومنديل حرير ..

الضوء بيتها .. والجمال فراشها .. والعطر نشوتها .. والعبَق دثارها ..

أحباؤها الصدق والإخلاص .. والرمز ستار حياء .. تختبئ وراءه خوفاً من غزل أو عدوان ..

صفاؤها لا حدود له .. عميق عميق .. صخبها ثورة بركان .. محبتها ضمّة عاشق ولهان .. دموعها مجرّات أحزان .. شوقها إلى النور دائم .. لقاؤها مع الأحبّة لا تصفه إلا ريشة رسام وأبيات شاعر ..

بها تنمو الأحاسيس والمشاعر .. وبها يخلُدُ كلّ شاعر .. أنيسة مؤنسة .. موحشة مستوحشة .. تدق أبواب العقل باستحياء .. فإذا ما فتح دخلت بأدب جمّ وفكر غزير .. لتوقد فيه شموعها وقناديلها ..

تهرب إذا ما أحست بظلمة الجهل .. إنه عدوها وقاتلها .. وسجّانها الذي لا يرحم .. فإذا ما أطبق عليها شحبت وذبلت .. تنطفئ عيناها .. وتخبو أنوارها .. وتغفو إغفاءة مودّع للحياة !