مذبحة حماة في القصة المعاصرة !؟
دراسات
قالوا : الشعر ديوان العرب ، فقد سجل مآثرهم ، و صور حياتهم ، و تجلت فيه قيمهم ، فعنوا به عناية شديدة و العرب أحفل الناس بالشعر ؛ فهم لا يتركونه حتى تترك الإبل الحداء – فإلى أي مدى صورالشعر ما نحن بصدده ، و هو الحديث عن مذبحة حماة في شباط 1982م التي اقترفها نظام الجبت و الطاغوت ؟ و الجواب بإيجاز : حق للشعر العربي المعاصر أن يفخر أنه يملك مجموعا ضخما في تصوير آلام الأمة و آمالها ، و أن مجزرة حماة كان لها فيه فصل كبير ، يطلب في مظانه .
و قال بعضهم : إن هذا العصر هو عصر الرواية، و في رأيهم أنها حلت محل الشعر ، و أخذت حيزا كبيرا على مسرح الحياة و الأدب ، حتى إن الدكتور سمر روحي فيصل في كتابه القيم ( معجم القاصين العرب) ذكر أسماء (2038 ) قاصا في مقابل ما ذكره معجم البابطين للشعراء العرب المعاصرين الذي أوصل عددهم إلى حوالي(1650 ) شاعراً
و أيا كان الأمر ، فإن كلا ً من الشعر و القصة يُعَد وثيقة أدبية هامة و سنقف عند عدد من الروايات و القصص متحدثة عن هذه المذبحة ، موثقة تلك الجريمة للأجيال ، مصدقة قول قائد فرنسي من أن الدماء التي تراق في ساح المعركة يجهل مع الزمن أسماء أصحابها ، و لكن الذي يخلد هو الأدب التي يتحدث عنها !!
و نتيجة لازدياد الثقة بالوثيقة الأدبية و جدارتها فقد اتجهت مجموعات من الباحثين في أوضاع المجتمعات الحديثة و المعاصرة إلى الاعتماد على الظاهرة الأدبية في الكشف عن مختلف الأوضاع في هذه المجتمعات لاستكمال المعلومات عن حقيقة الموقف الشعبي و التيارات الباطنة في المجتمعات، و التي تحرص مصادر التاريخ الرسمية على طمسها و إهالة الضباب عليها ..
و بين أيدينا في هذا البحث أعمال أدبية صورت أحداث هذه المجزرة ، و وثـّــقتها لا بالصوت و الصورة ، و لكن بنبض الأحاسيس و قسوة الوقائع و مأساوية المذبحة .
يقول الأديب محمد الحسناوي – رحمه الله – في دراسة له عن رواية ( طاحون الشياطين ) لشريف الراس : (( الواقع في الفن القصصي هو ما يمكن تصور وقوعه عقليا ، و ليس الذي وقع بالفعل ، لأن بعض ما ينطوي عليه الواقع أحيانا ، يحمل من الغرابة ما لا يمكن تصور وقوعه بشكل عام ! ))
و أما رواية طاحون الشياطين ، فتكاد تنقض هذه المقولة و تقلبها رأساً على عقب ، تقول الرواية ((لو أننا جمعنا كل وحوش الغابات ، و أطلقناها على سكان مدينة محاصرين بسور من نار ، فهل تستطيع أن تأكل أربعين ألف إنسان أعزل بريء خلال تلك الفترة الزمنية القاسية ؟! ثم خبـّـرني؛ لماذا حين كانت تتاح فرصة المفاضلة بين الموت و الحياة كان أعوان هذا الوحش يختارون من بين الحشد ، الأطباء و المهندسين و المعلمين ، و كل من يحمل شهادة عالية ؟!! ))
فالرواية ليست خيالية و ليست تتحدث عن بلاد (الواق واق) بل تحكي مأساة العصر في مدينة سورية ، و بالذات 1982 ، و لا علاقة مباشرة بينها و بين رواية ( العالم 1984 ) لجورج أورل ، على الرغم من أنهما تصنفان في الأدب السياسي ، و تمجدان الحرية ، و تنضحان بالسخرية .
و أما رواية ( عذراء حماة ) لعبد الله الدهامشة فتعود بنا إلى ما قبل المذبحة بسنوات طويلة ، يوم أن تمكن الحزب المتسلل في عام 1963 من القفز على السلطة ، و هو لا يملك أهلية لا بفكره و ممارساته ، و لا أكثرية في عدد منتسبيه ؟!
ليجهض الوحدة التي كان من أكبر العاملين على هدمها من خلال ممارساته ، و من خلال المقدمات التي برزت في سلوكيات النظام ، بدءا ً من عام 1963 بعد أن قضى على معظم الضباط الشرفاء ، ثم توجه إلى التعليم تسريحا ً للأكفياء و تخريبا في المناهج ، و تدميرا ً لأخلاق الجيل بدأت خيوط المأساة ( كانت صفاء إحدى الطالبات في حماة ، و قد آلمها أن ينقل مدرس التربية الإسلامية إلى محافظة بعيدة ، بسبب ظهور أثره في سلوك الطالبات ، ثم تنتقل الرواية إلى الحديث عن الشهيد مروان حديد و تربيته للشباب من خلال خطيبها محمود ، و إلى الاستفزازات التي بدأها النظام ، و مقابلة الشعب ذلك بالإضراب و الاعتصامات و توتر الأجواء و استمرار المدينة العزلاء في مواجهة الطاغوت الذي جر ألوية من الجيش و قد جردها من ضباطها الأصلاء بالأقزام و الممسوخين ، و استمرار الاعتصام في مسجد السلطان ، و محاصرة المصلين و قصف المسجد و انفجار الموقف ، و استثمار الحاقدين ذلك في محاكمات عسكرية لتقضي على وثبة الشباب الغاضب ، و سقوط محمود شهيدا ً ، و امتناع صفاء عن مغادرة المنزل بعد محاصرته و قد حصلت على بندقية محمود لتقاتل بها حتى الرمق الأخير ؟!!!
لقد استطاع الكاتب الدهامشة أن ينتقل بنا من بين الركام و الدماء و فحيح أزلام السلطة و نباح مَوْتُورِيها إلى موقف إنساني رفيف ، و نحن نمضي مع صفاء عذراء حماة من مقعد الدراسة إلى ساح المعركة .. إلى مواكب الشهداء ....
و من خلال هاتين الروايتين اللتين تحدثتا عن حماة، و من خلال الفارق الزمني بينهما 1964-1982، ندرك أن مؤامرة ما حكيت في دهاليز النظام ، أعد لها أبالسته للقضاء على هذه المدينة العربية المسلمة ، فبدأت بهدم مسجد السلطان 1964 و انتهت بهدم المدينة 1982 م و في المجموعة القصصية (المطر المر ) لمحمد حمدان السيد تسجيل شبه كامل للأحداث و مقدماتها ففي (رقم على الجدار ) يبين أن التضييق كان سبب الانفجار ، و يصور معاناة المدينة من خلال حصارها تصويرا ً واقعيا ً مرعبا ً ، فيمسك الكاتب بقلمه و يغمسه بمداد أحزانها و نكبتها !!
و في (المطر المر ) تبدو قوة الارتباط بين الواقع و الإنسان فتشترك الجمادات في الحزن ، بعد أن يسبغ عليها الإحساس الإنساني ، فيشعر القارئ بنبض قلبها و حرارة أنفاسها مذكرة بقصيدة الرندي الراعفة .
حتى المحاريب تبكي وهي جامدة
حتى المنابر ترثي وهي عيدان
فالمحنة تشمل الجميع ، و الحقد يعم الجميع ، و تبرز مكانة الطبيعة في رسم خطوط المأساة و قد وظف الكاتب هذا الشهر ( شباط ) بأمطاره و قصف رعوده ، و ظلمة أيامه ، و طول لياليه ... فكانت هذه الأقصوصة بحق توثيقا ًأدبيا ًللجريمة زمانا ًو مكانا ً.
و ينتقل في (لكل حادث حديث ) فيصور الطرف الآخر ، و فيه كثيرون سيقوا إلى ذبح المدينة ،و ليس لهم ثأر معها ، كما في حالة ذلك الجندي الذي يجر إلى معركة ليس مقتنعا بها ثم سقوطه جريحا بين يدي أهل المدينة الذين أحسنوا إليه فأسعفوه و أنقذوه من موت محقق، فكان لذلك التعامل الإنساني أثر في تصحيح الصورة إلى حد إلغائهامن أذهان أولئك البسطاء ، بعد عودة الوعي و صحوة الضمير و العودة إلى الجذور !!
و في ( بوابة في جدار الجنة ) نشهد أيضا الشخصية التي تعدل مسارها ، كما في شخصية أحمد ، بعد اتخاذ القرار ، و إنهاء لحظات التردد و التأرجح بالانضمام إلى صفوف المظلومين .
و على الرغم من الهدف التوثيقي لهذه المجموعة فقد حافظ الكاتب على مستواها الفني ، و ساعده في ذلك دقة الوصف بلغة تقرب أحيانا من لغة الشعر...
و أما مجموعة ( بين القصر و القلعة ) لمحمد الحسناوي فقد أسقط الكاتب واقع أقاصيصها على بلده المنكوب ( سورية ) فجعلها في مراحل ثلاث : النـُـذر كما في أقصوص ( ليلة – اليتيم ) الانفجار كما في ( أم طويجة – بين القصر و القلعة – أطلق النار يا عريف – أم جعفر – رسالة صوتية ) الكمون كما في ( حالة حصار – زيارة ) و كان الثبت التاريخي لهذه الأقاصيص ما بين عامي 1979-1985 م .
و الأقاصيص في مجموعها ، تتقارب موضوعاتها في الحديث عن الإحساس بالقهر و مدافعته ، و في تصوير المعاناة التي يعيشها المكتوون بالظلم ، حـَـجـْـرا على الفكر ، و تضييقا على الحريات ، و تهجيرا من الوطن .
ففي ( أم طويجة ) يصور الكاتب بعض الضباط و قد حوّلهم النظام من الدفاع عن الوطن إلى الدفاع عن ممارساته و وجوده ليوجد شرخا في العلاقات بين أبناء الوطن الواحد ، و سواء أكان الدم للمواطن أم لأحد أفراد الجيش فإن النظام لا يخسر شيئا بحسب خططه و تصوراته ؟!!
و في ( بين القصر و القلعة ) تتحدث الأقصوصة عن موكب من مواكب الشهداء و هم يساقون إلى ساحات الإعدام تنفيذا لرغبة الطاغية القابع في القصر لإرهاب الشعب و إسكات أصوات احتجاجه.
و كانت ( أطلق النار يا عريف ) قريبة من أقصوصة محمد السيد ( لكل حادث حديث ) في صحوة ضمير بعض الجنود و قد نقلوا من الجبهة و المواجهة مع العدو إلى مواجهة أهلهم و شعبهم في حماة فكان موقفهم رفضا للظلم لا رفضا للأوامر كما يفهمها الجندي ؟!!
و في ( أم جعفر ) ينقل الكاتب صورة لعدد من النساء في حماة إبان القصف و التدمير و هن ينتقلن من حي إلى حي بحثا عن الأمان لأطفالهن ، و وقوف المرأة العجوز أم جعفر كاللبوة في دفاعها عنهن و قد غُيـّـب الرجال أو قتلوا .
أما ( رسالة صوتية ) فتنقل لناصورة لأسرة من آلاف الأسر من أهالي حماة المهجرين بعد المذبحة، و هم يستمعون إلى شريط مسجل لأحد أبنائهم الذين أصروا على البقاء في المدينة و هو يخوض معركة المواجهة مع الطاغية و جلاوزته ..
و في مجموعة (البرتقال يزهر على ضفاف العاصي) ليحيى حاج يحيى تصوير لانعكاسات الأحداث ، لا على المدينة الذبيحة وحدها ، بل على الريف المجاور لها ، بل على سورية بأسرها ..
ففي (هدية محمود) الذي أصبح مسؤولا ً في الحزب ، و الذي يحس بالحرج عندما يرى أستاذه يهيم في الأرياف و قد حكم عليه بالقانون 49 الذي أهدر دمه و دم غيره ، و لم يعد يؤويه بيت و لا عمل ، فيشعر بالندم و يعتذر أن يكون أداة من أدوات السلطة الغاشمة ... و في ( المعلمة الأولى) تلحق به أمه مع زوجته و ابنته الوليدة و هو رابض في أحد الجبال ، فيعجب من موقف أمه التي تشد من أزر زوجته ، بأنها فخورة به لأنه يدافع عن أهله و بلده !!
و في (امرأة من الريف ) تأخذ كثير من النساء دور الرجال كأم سعد التي اعتقل زوجها و ولداها ، و تصر على أن ابنها ( علي ) و قد بلغ الرابعة عشرة، يستطيع أن يقوم بالمهمة التي كان يقوم بها أبوه و أخواه في نصرة المقاومين و في (لكم دفاتركم و لي دفتري) تصر عائشة ابنة الخامسة على ثقب عيون الطاغية في غلاف دفترها لأنه قتل ابنة خالتها التي كانت تلعب معها قرب منزلهما على نهر العاصي .
و في ( جيش آخر ) انعكست الممارسات الوحشية على نفسية الأطفال في حماة ، فأصبحوا ينفرون من اللباس الذي يميز الجنود ، و صار في نظرهم رمزا ً للرعب و القسوة ؟!
و أما قصة ( البرتقال يزهر على ضفاف العاصي) فتتحدث عن الخروج من الوطن و عبور نهر العاصي باتجاه الشرق لتلميذ أصبح مدرسا ً ، و قد حدثه أستاذه الفلسطيني قبل سنوات طويلة عن هجرته من فلسطين عابرا ً نهر الأردن باتجاه الشرق ؟! و هي تربط بين مأساة فلسطين و مأساة حماة ، لأن ما حدث في كل منهما لا يفعله إلا اليهود و أذناب اليهود ؟!!
المراجع :
1 – الأدب الصهيوني بين حربين حزيران 67 – تشرين 73 د. إبراهيم البحرواي – المؤسسة العربية للدراسات و النشر بيروت – ط 1977
2- في الأدب و الأدب الإسلامي – محمد الحسناوي – دار عمار – عمان ط – 1986
3- طاحون الشياطين – شريف الراس – مطبعة الرشيد- بغداد ط 1- 1984 م
4 – عذراء حماة – د. عبد الله الدهامشة – دار النواعير – بيروت ط 1 – 2009
5 – المطر المر – محمد حمدان السيد – دار عمار – عمان - ط 1 – 1988
6 – بين القصر و القلعة – محمد الحسناوي – دار الوفاء – المنصورة – ط 1 – 1988
7- البرتقال يزهر على ضفاف العاصي – يحيى حاج يحيى – دار الضياء – عمان – ط 1 - 2010
وسوم: العدد 758