محكمة الشِّعر (المتَّهم الأوَّل: أبو الطيِّب المتنبِّي)!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 295

قلتُ لصاحبي اللَّدود، وأنا أحاوره في مقاضاة (المتنبِّي) مع بعض النقَّاد والشُّرَّاح، وأجادله حول ما آخذوه عليه من المعاني والاستعمالات، منطلقين من ثكناتهم الدِّينيَّة أو الأخلاقيَّة:

ـــ إن اللغة تتطوَّر من الحقيقة إلى المجاز، مشتقَّةً من الحقيقيِّ المتخيَّلَ، ومن الطبيعيِّ المعنويَّ، ولا سيما في لغةٍ اشتقاقيَّةٍ كالعربيَّة. ولا تؤخذ الكلمات، ولا سيما في الشِّعر، بمعانيها المعجميَّة.(1) 

ـــ قال: نعم، وأمثال ما يورده الشعراء، ممَّا عيبوا عليه، كثيرٌ لدَى غيرهم من عِلْية القوم وعامَّتهم؛ لأن الإشكال في أصله إشكالٌ تربويٌّ اجتماعيٌّ ثقافيٌّ، وما انغرس في ذهن الطفل من الأفكار يصعب نزعه في كِبَره، وإن تعلَّم ما يكذِّبه وتعلَّم. وليس الشعراء ببدعٍ من الناس في ما يقولون ولا في ما يعتقدون.

ـــ أنت، إذن، تتفق معي في التماس الأعذار للشُّعراء، على أساس لغويٍّ أو تعبيريٍّ أو ثقافي؟

ــ لا، أنا على مذهب (عبدالقاهر الجرجاني) في إدراكه حساسيَّة الدِّين لدَى جمهرة المتلقِّين، وأن على الشاعر تقدير الجوانب النفسيَّة التي يتأذَّى منها سامعوه وقارئوه؛ فكما لا يسوغ أن يصدم ذوقهم الجمالي بفجاجة تصويره، فإن عليه أن لا يصدم مشاعرهم الدِّينيَّة بفضاضة تعبيره.

ـــ لك ما تشاء، ولكن لا مندوحة من تحفُّظين اثنين على هذه المحاكمة الشِّعريَّة. الأوَّل، أن الشِّعر له ما ليس لغيره؛ لأنه قائم على المجاز والتخييل. والثاني، وأنت- في المقال السابق- تستشهد على المتنبِّي بحديث «لا تسبُّوا الدهر»، لتعيبه في قوله:

ولَولا أَياديْ الدَّهرِ في الجَمْعِ بَينَنا ... غَـفَـلنا فَلَم نَشعُـــرْ لَهُ بِذُنوبِ

لا تنس أنها ما تزال تحفُّ بمرويَّات الحديث النبويِّ ما تحفُّ بها من إشكاليَّات الصِّحَّة، وأسباب القول وسياقاته، وفهمه من رواته وسامعيه. على أن ليست مرويَّات الحديث في الثبوت كمرويَّات «القرآن» بحال من الأحوال، ولا الاستدلال بها ينبغي أن يكون بمنزلة الاستدلال بالقرآن. ولهذا فكم ذا يقف القارئ على تعارضٍ بين بعض مرويَّات الحديث وسِيَر الصحابة، وهم أَولَى الناس بتمثُّلها، لو صحَّت لديهم، أو لو فهموها حسبما فهمها التابعون من أهل العصور المتأخِّرة. من ذلك أن تجد (الحسين بن علي)- لا المتنبِّي، هذه المرة- يسبُّ الدَّهر، في الأرجوزة المنسوبة إليه:

يا دَهْــرُ أُفٍّ لَكَ مِن خَلــيلِ ... كَم لَكَ في الإِشراقِ والأَصيلِ

مِن صاحِــبٍ وماجِـــدٍ قَتــيلِ ... والـدَّهْــــرُ لا يَــقــنَعُ بِـالبَــديـــلِ

والأَمرُ في ذاكَ إِلى الجَليلِ ... وكُــلُّ حَــيٍّ ســالِـكُ السَّــبــيــلِ

ـــ إلَّا أنه يفرِّق هنا بين الدَّهْر، بمعنى الزمن، ومُدَبِّر الزَّمن: الله.

ـــ وهذا هو الفهم الصحيح، لا فهم الحَرْفيِّين ممَّن لا يُدركون مجازات اللغة ولا مجالات التعبير، فتتنطَّع بهم الأحكام في سماوات الجهل. ولأجل هذا ذهب بهم التأويل في شِعر المتنبِّي كلَّ مذهب، فمِن قائلٍ إنه تنبَّأَ؛ لمَّا قال:

أَنا في أُمَّةٍ تَدارَكَها اللَّـ ... ـهُ غَريبٌ كَصالِحٍ في ثَمودِ

ومِن قائل إنه أعرب عن قُرمطيَّته وباطنيَّته؛ لقوله:

لَأَتـــرُكَــنَّ وُجــــوهَ الخَــيلِ ساهِــــمَـــةً ... والحَربُ أَقوَمُ مِن ساقٍ عَلى قَدَمِ

بِــكُــلِّ مُــنصَلِـــتٍ مــا زالَ مُنـتَــظِــــري ... حَتَّى أَدَلْــتُ لَهُ مِـنْ دَولَــةِ الخَــدَمِ

شَيخٌ يَرَى الصَّلَواتِ الخَمسَ نافِلَةً ... ويَستَحِــلُّ دَمَ الحُجّـَاجِ في الحَــرَمِ

أمَّا مَن أراد أن يُخرِج الشاعر من أقفاص الأحكام السلطانيَّة، أخلاقيَّةً أو دِينيَّةً، فلجأ إلى نسبة شِعره، المتضمِّن أشياء تخدش أسماع أولئك الأحبار من الشُّرَّاح، إلى شِعر الصِّبا؛ وما على الصبيان من حَرَج! من طرائف ذاك أنهم زعموا أن داليَّته، التي منها قوله:

يَتَرَشَّفنَ  مِن  فَـمـي  رَشَـفـــاتٍ ... هُــنَّ فيهِ أَحلَى مِنَ التَّوحيدِ

ما مُــقـامي  بِـأَرضِ نَخــلَـــةَ إِلَّا ... كَمُقــامِ المَسيحِ بَينَ اليَهــودِ

فَاطلُبِ العِزَّ في لَظى وذَرِ الذُّلَّ [م] ولَو كانَ في جِنانِ الخُلودِ

أَنـــا في أُمَّـــةٍ تَــدارَكَــهــــا  اللَّــــ ... ــهُ غَريبٌ كَصالِحٍ في ثَـمــــودِ

هي من شِعر صِباه! وما هي من شِعر صِباه، وما لهم بشِعر صِباه من عِلْم. والقصيدة نفسها ناطقةٌ بنقيض ما ذهبوا إليه من زعم. ففيها يقول، باكيًا صِباه:

دَرَّ دَرُّ الصِّبــا أَأَيَّــامَ تَجـــريــــ ... ـــرِ ذُيولــــي بِـــدارِ أَثــلَةَ عُــودي

شَيْبُ رَأسِي وذِلَّتي ونُحولي ... ودُموعي على هَواكَ شُهودي

فقد قيلت القصيدة في اكتهال الرجل، قطعًا، لا في صِباه. بَيْدَ أنه الاعتذار للشِّعر ممَّن لا يُدركون طبيعة الشِّعر. على أن الأبيات لا شيء فيها كان يستدعي ما خاض فيه الخائضون، وما تكلَّفه المتكلِّفون، حتى بالمقاييس الدِّينيَّة. بل لو شاءت القراءة الشِّعريَّة أن تقلب المعنى لمصلحة الشاعر دِينيًّا وأخلاقيًّا، لكان في وسعها أن تفعل ذلك. كما أن الشاعر لم يقل ما يُفهم منه ادِّعاء النُّبُوَّة أو التشبه بالأنبياء قط، وإنما شَبَّه «مُقامه» و«غُربته» بمُقامٍ وغربةٍ شبيهَين. وما في ذلك من دعوَى على قائل، لا في شِعرٍ ولا في نثر.  ولعلَّ التوقُّف عند تلك الأبيات إنما كان من خصوم الشاعر، ابتداءً.  بل لعلَّ لقب «المتنبِّي» نفسه إنما ظهر نَبْزًا من معاصريه هؤلاء، وتحريضًا عليه في بادئ الأمر، ثمَّ انقلب السِّحر على الساحر، فأضحى للشاعر وِسامًا فنِّيًّا، وتتويجًا لم يحظ بمثله أحدٌ من الشعراء سِواه.

أ.د/ عبدالله بن أحمد الفَيْفي

تابع مواد أخرى للكاتب على حساب "تويتر":

 https://twitter.com/Prof_A_Alfaify

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1)  في مثل هذا السياق يحضر الذاكرةَ كتابٌ كـ«العرب والمرأة»، لـ(خليل عبدالكريم)، (بيروت: مؤسسة الانتشار العربي، 1998)، الذي زعم فيه أنه يتتبَّع نظرة العربيِّ إلى المرأة من خلال اللغة. لافتًا إلى علاقة أوصاف المرأة في العربيَّة بأوصاف الحيوان، من جهة، ومظاهر الاكتناز في جسد المرأة. متَّخِذًا ذلك سُلَّمًا للطعن في الذائقة العربيَّة، البدائيَّة بقوله، ونظرة (بني يعرب بن يشجب)، كما يسميهم، إلى المرأة على أنها حيوان- كالإبل، التي يعرِّفها بأنها «الجِمال»! (ص31)- أو الخيل. والحقُّ أن الرَّجُل لم يكلِّف نفسه العودة إلى مباحث جادَّة في موضوعه، لا في اللغات ولا في الميثولوجيات. أمَّا معرفته باللغة العربيَّة، فمستوى لغته وأسلوبه في ذلك الكتاب خير شاهد عليها. بل هو لا يكاد يرجع إلى مرجعٍ أصيلٍ، حتى ممَّا هو مبذولٌ بين يديه، فإذا نسبَ اقتباسًا إلى (الجاحظ)، أو (الطبري)، أو (ابن خلدون)، مثلًا، أحالنا إلى (محمد كرد علي)! ذلك لأن غايته كانت مبيَّتة سلفًا، وما دعوى البحث لديه إلَّا لمحاولة تأييد تلك الغايات. ولو كان منهجيًّا، لكان عليه أن يُثبت أوَّلًا انفراد العربيَّة بتلك الظواهر اللغويَّة. ثمَّ كان عليه أن يقترح البديل عن تلك الاستعمالات. وهو يُغفِل، أو يجهل، أن العربيَّة لغةٌ اشتقاقيَّة، تتفرَّع المفردة فيها كالشجرة من البذرة اللغويَّة، لتتخلَّق منها عوالم شتَّى. ولا ينشأ ذلك، بالضرورة، عن نظرة العربي إلى المرأة كحيوان. فضلًا عن أن حُبَّ اكتناز جسد المرأة هو شأنٌ مشتركٌ بين شعوب العالم إلى وقتٍ قريب، وكان يتجلَّى قديمًا في تماثيلها المقدَّسة، كعشتار، وعشتروت، وأفروديت، وفينوس، وغيرها. ولذلك ارتباطٌ عتيقٌ- فوق جنسي أو شهواني- بدلالات الأنوثة الرمزيَّة الأُسطوريَّة على الخصوبة المقدَّسة، سواء في الطبيعة أو في الإنسان أو في الحيوان أو النبات. (لي في هذا تفصيلٌ في كتابي: (2014)، مفاتيح القصيدة الجاهليَّـة: نحو رؤية نقديَّـة جديدة عبر المكتشفات الحديثة في الآثار والميثولوجيا، (إربد- الأردن: عالم الكتب الحديث)، 91- 98).  ولذا فإن ما انتهى إليه المؤلِّف من نتائج- كانت جاهزةً قبل البحث- هي بعكس ما يُفترض أن تُفضي به إليه مقدِّماته، لو كان بحثه بحثَ باحثٍ ينشد الحقيقة، لا بحث واعظٍ «ليبرالي». إنه نموذج لذلك الضرب من المؤلَّفات المنذورة في سبيل مآرب إديولوجيَّة، شعوبيَّة أو دِينيَّة، لا تحترم المنهج، ولا الحقيقة العِلْميَّة، ولا حتى التخصُّص في ما تقحم نفسها فيه.

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* [الكاتب: أ.د/ عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «محكمة الشِّعر»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، الجمعة 16 فبراير 2018، ص13].

وسوم: العدد 760