رواية (فيتا).. وطاقة التسامح هي العلاج
ميسون أسدي
كم كانت الكاتبة ميسون أسدي ذكيّة حين اختارت الوقت المناسب لفتح بوابة كبيرة تحتوي على أبواب عديدة من المواضيع، التي إن فُتحت ليس من السهل اغلاقها. ولكنها الكاتبة عرفت كيف تبدأ وكيف تنتهي . اصطحبت القارىء في جولة من المعلومات والأفكار والتحليل عبر الأبواب التسعة المختلفة، وخرجت منها بأمان، كما حرصت على إغلاقها بهدوء، فقد كانت رحلة مقنعة، استمدتها من الواقع الاجتماعي والنفسي والسياسي دون تنظير، وبنت عليها بمهنية الكاتب المحترف، فظهرت سلسة، مقنعة، ومشوقة .
اعتمدت الكاتبة أسلوب العودة بالذاكرة ( الفلاش باك)، حيث مهدت لنا أن "فيتا" عاشت حياة بؤس وشقاء من خلال الباب الأول للبوابة - التي تحدثت فيها عن روسيا في منتصف القرن الثامن عشر- .. حيث أسمته (باب المستشفى)، حين كانت ترسم لوحة للعجوزالمريضة في غرفتها ، وإذا بهما تسمعان جلبة خارج الغرفة، فشاهدتا فتاة ممددة على عربة المستشفى، الأنابيب موصولة إليها، كما لاحظتا ساعديها ملفوفين باللفائف البيضاء، فعرفت فيتا أنها محاولة انتحار لأن حبيبها تركها، فقالت: " يا لها من بلهاء.. ثم أكملت بصمت: يا لك من بائسة، تعالي أيتها الفتاة لأعطيك ألف سبب حقيقي ومؤلم للإنتحار."
حيث أن البطلة ولدت لأسرة فقيرة تتكون منها ومن والديها، وسفيتا أختها التي تكبرها بسبع سنوات. عاشت الأسرة في جزء من بيت كبير في الحيّ القديم في جنوب أوكرانيا. لم تشعر فيتا يوما بالأمان، بل عاشت حياة بائسة مليئة بالخوف والقلق، كان الأب سكيرا يضرب من يواجهه في طريقه، ويعود دوما دامي الوجه. أمّا الأمّ فكانت مسكينة لا حول لها ولا قوة. الأم مسيحية، أما الأب فهو يهودي ولكنه مشكوك النسب. وبالتالي لم يكن للدين مكانا ولا اعتبارا في حياة الأسرة. أمّا أختها سفيتا فكانت تنفر منها، ورفضتها بسبب الغيرة الكبيرة منها، فلم تتوقع أن تأتيها أخت تشاركها محبة والديها، بل أخذت أكثر من ذلك، إذ أخذت منها كل الحب لأنها كانت مطيعة، بينما سفيتا كانت شقية، مما زاد الطين بلة، وزاد حياة فيتا بؤسا، فترك ذلك أثرا كبيرا في حياتها، عاشت وحيدة، ولم تستطع حتى أن تكوّن صداقات في مدرستها.
فيتا لم تعش طفولتها، ولم تعش مراهقتها كأقرانها. فقدت ثقتها بنفسها على الرغم من أنها امتلكت شخصية قوية صادة، وإرادة حديدية. كانت ترفض أن تظهر بأي مظهر من مظاهر الضعف، وترفض سلوكيات أبيها السكير، على الرغم من أنها كانت مطيعة جدا له قبل أن يأخذه الخمر من نفسه، حين استعان به ليهرب من واقعه المرير وقلة ما باليد، وبالتالي يزيد من حياة أسرته كآبة وعذابا.
استطاعت الكاتبة أن ترسم شخصية فيتا رسما دقيقا، مراعية تسلسل الأحداث ومدى تاثيرها على تطور شخصيتها. وأكدت على مدى تأثر الطفولة على حياة الإنسان، حيث تصاحبه عقده النفسية مدى الحياة ويصعب عليه التخلص منها.
لجأت إلى الرسم، فتعلمته وأتقنته ولكنها لم تثق بقدراتها وبكفاءتها أيضا.. على الرغم من أن تقديرها في المعهد كان ممتازا.
قررت أن تهرب إلى أي مكان يبعدها عن بيت الأسرة الذي كان ينغص عليها حياتها، فاستجابت للوكالة اليهودية، التي كانت تدفع باليهود إلى فلسطين أرض الميعاد، ضمن سياسة ممنهجة مدروسة، مستغلة الظروف الصعبة والحالة النفسية التي يعيشها الشباب ، تقنعهم بأن ما يسمى بِ (إسرائيل) هي أرض السمن والعسل، ممّا أدى إلى أن بعض الشباب ادعوا أنهم يهود من أجل السفر إلى أرض الميعاد؛ ليتفاجأوا بأنها كذبة هدفها سياسي، أساسه صراع ديمغرافي للسيطرة على أرض فلسطين. ولم تعرف فيتا سبب هذا الصراع والكراهية بين العرب واليهود.
واجهت فيتا العديد من المشاكل والعقبات في حيفا، وفكرت بالانتحار بطريقة غير مكلفة، فلم يكن معها نقود لشراء دواء لتشربه وتنهي حياتها، ولا نقود لشراء مسدس. فكرت في أن تقفز من مكان عال، إلا أنها خشيت من أن لا تموت وتعيش معاقة. ولكن عندما علمت بأن من ينتحر يصنف بأنه انسان ضعيف، رفضت الفكرة، لأنها أصرت أن تبقى قوية، وأن لا تقبل الضعف. هذا المونولوج جعلنا نغوص أكثر داخل أعماق شخصيتها.
تزوجت فيتا عربيا مسلما، كان خير زوج، واستقرت حياتها، ولكن شبح الماضي رفض أن يتركها بحالها. وعندما رزقهما الله بطفلة حاولت ان تكون أمّا جيدة، ولكن خوفها من أن لا تتقن دور الأمّ الصالحة دمّر حياتها. فلجأت لطبيب نفسي ليخلصها من هذه الأزمة، فطمأنها الطبيب، إلا أن خوفها استمر يطاردها.
وفي الختام استطاعت أن تعالج نفسها عندما بدأت المقارنة بين طفولتها وطفولة ابنتها. كانت طفلتها قوية، تعرف تماما متى تقول (لا) لأيّ أمر كان. كانت ذكية لها شخصية مستقلة، تعلمت من ابنتها.
كما أن موت العجوز التي كانت ترسمها أيضا تسبب بنقلة نوعية في عواطفها ومشاعرها.
كان الرسم علاجا آخر لها، عبّرت عن كل ما بداخلها بكتابة رسائل لأفراد عائلتها وصديقتها دون حروف، كتبت لوالديها الراحلين، وكتبت لأختها، وكتبت لصديقتها بخطوط وألوان، قررت من خلالها أن تتصالح مع نفسها، وسامحت كل من حولها.. وقررت أن لا تكون عدوّة نفسها بعد اليوم .." لن أكون "أنا عدوّة أنا ".
أبدعت الكاتبة في إبراز مدى قوة طاقة التسامح في نفس الإنسان. فبعد أن تشافت أغلقت الأبواب التي فتحتها، ووقفت بباب لم يفتح بعد، فقد بدأت حياة جديدة في بيت الطفولة، حيث عادت إلى بيت والديها ، واشترت باقي أجزاء البيت الكبير من الجيران، وفتحته مطعما، وجاليري من لوحات العجوز التي تبرعت بلوحاتها لها بعد موتها. وعاشت حياة هنيئة من أسرتها الصغيرة.
ولا شك أن الكاتبة كما ذكرت في المقدمة متأثرة بالأدب الروسي بشكل كبير، حتى أن من يقرأ روايتها يدرك ذلك لوحده.
رواية جميلة، لها مدلولات نفسية واجتماعية عميقة جدا تصلح لأن تكون مسلسلا تلفزيونيا.
وسوم: العدد 763