أشواك البراري والقيمة التربوية
هل (أشواك البراري-طفولتي) الصادر مؤخرا عن مكتبة كل شيء الحيفاوية هي سيرة ذاتيّة للكاتب جميل السلحوت، أم أنّها سيرة جماعيّة وحكاية شعب في فترة مظلمة من تاريخه، كان عنوانها الجهل والهزيمة؟ وهل تخطّى هذا الشّعب تلك الحقبة ليصل إلى مرحلة جديدة من الوعي والعلم والانتصار، أم انتقل من مرحلة مظلمة إلى مرحلة حالكة الظّلمة؟
يحكي الأديب جميل السلحوت حكاية طفل خرج من رحم المعاناة ليكون رمزا للنجاح، ومن الضعف ليكون عَلَمَا من أعلام الثقافة في القدس، ومن براثن الجهل إلى نور الإبداع، حتّى أصبح مثالا يحتذى به. هذا الطفل هو السلحوت نفسه، الذي عانى كغيره من كلّ السلبيات التي خلّفتها عصور من الجهل والهزيمة، ليفقد عينه نتيجة هذا الجهل، وليعامل كطفل معاق، يفيض عليه الآخرون عطفا مصطنعا أو حقيقيّا، هذا العطف كان سيحرمه من نعمة التعليم التي توفّرت لأبناء جيله، لكنّه بإصراره ومثابرته، رغم الظروف القاسية التي كانت تحيط به، يستطيع أن يستمرّ في درب العلم ويصل إلى مرحلة الإبداع رغم جميع المعيقات التي قد تضع أي إنسان في ذاك العصر في زاوية مظلمة من بيته. هذا الإصرار العجيب، والمثابرة الدؤوبة، تعطي لهذه السّيرة قيمة تربويّة كبيرة، حبّذا لو اطلعت عليها الأجيال، لتقتبس منها شعلا تضيء لها دروب النّجاح.
كتب جميل السلحوت ذلك بلغة بسيطة سلسة مفهومة للقارئ دون الخروج عن سمة التّواضع الشّديد التي يتّصف بها، فكان للسلبيّات في سيرته حصّة الأسد، ولم يعطِ نفسه حقّها من الوصف والتقدير، بل القارئ الحاذق هو الذي يرى قصّة النجاح كاملة، ويعجب بشخصية كاتبها؛ فكان هذا درسا آخر ومؤشّرا آخر إلى طريق الإبداع والنجاح. واستخدم الكاتب أسلوب الاستطراد، والمزج بين الخاص والعام، وأفرد صفحات كثيرة للحديث عن المرأة والعادات والتقاليد والألعاب والأغاني الشعبية، بعيدا عن حياته الشخصيّة وإنما من مشاهداته كطفل، فكان الكتاب جامعا شاملا.
يركّز الكاتب في سيرته على ثوب الجهل المطبق الذي كان يرفل به الناس في ريف وبادية القدس بعد النكبة الفلسطينية عام 1948، ويذكر كثيرا من الممارسات التي كان النّاس يقومون بها، والتي قد يظنّها القارئ الشّاب ضربا من الخيال، لكنّها كانت واقعا معاشا، وكانت سمة ملازمة لحقبة زمنية طويلة، في طول البلاد وعرضها، وبعضها ما زال يمارس حتّى هذه الأيام. ونرى خلال هذا الكتاب كيف بدأ النّاس يضعون عن أعناقهم هذا العبء الثقيل من التّقاليد، وذلك بفضل تنافسهم في تعليم أبنائهم، فكان العلم هو النّبراس الذي أضاء الطريق نحو الانعتاق من كثير من الممارسات والعادات البالية.
هذا الجهل الذي وصفه الكاتب بدقة ودون مواربة أو تستّر، قد يكون هو الذي قادنا إلى هزيمة تتلوها هزيمة، لكن، هل خرجنا من هذا الجهل فعلا أم انتقلنا من جهل إلى آخر، ومن ظلمة إلى ظلمات؟ وهل تغيّر واقع الهزيمة إلى النّصر، أم ما زلنا نركض مسرعين باتجاه هاوية الهزيمة والانحطاط؟!
تدعونا مطالعة الكتاب إلى عقد مقارنة سريعة بين ما كان والحاضر. لم يكن الناس نظيفين في ذاك الوقت، كما يقول الكاتب؛ وذلك لانعدام وسائل النظافة وندرة الماء، لكن هل نحن الآن نظيفون مع توفّر المياه ووسائل النظافة، نظرة سريعة إلى شوارعنا المكدّسة بالنفايات كفيلة بالإجابة. كان الناس جهلة لندرة المدارس، وهل نحن الآن مثقّفون ومتعلّمون مع كثرة المدارس والجامعات وكثرة مرتاديها؟ وهل أدى الإقبال على التعليم، إلى تطوّر فعليّ في مجتمعنا؟ كان النّاس منخدعين بالإعلام الموجّه، ويقعون تحت سطوة الحكومات التي تحرس مصالح المستعمر، وهل تحرّر الناس اليوم من استعباد وسائل الإعلام، وهل أصبح الوضع السّياسيّ أفضل؟ أم ما زال النّاس يقدّسون المتسلّط على رقابهم؟
يصف الكاتب جميل السلحوت طفولته بِ (الطفولة الذبيحة)، ويسهب في وصف الحياة الصعبة التي كان يحياها الأطفال، والتي لا نتخيّلها ولا نرضاها لأطفالنا. ولكن هل كانت هذه الطفولة فعلا طفولة ذبيحة؟ إن أعدت قراءة الكتاب مرة أخرى وركّزت على حياة الأطفال في الطبيعة، يتنقّلون في البراري، ويعيشون مع نباتاتها وحيواناتها بانسجام تامّ، ترى أنّ أشواك البراري، وإن كان وخزها مؤلما، إلا أنّها تهب حياة تغمرها البراءة والسّعادة. وهل يعيش أطفالنا اليوم طفولة أفضل، عندما سلبت الطبيعة منهم لتُوهب للمستوطنين الذين جاءوا من أقاصي الدنيا؟ وسلبت سعة الدنيا ورحابتها وهواءها وماءها منهم، ليعيشوا محدّقين في شاشة صغيرة تداعبها أطراف أناملهم! وتوهمهم بحريّتهم المسلوبة! هل كانت طفولة السلحوت طفولة ذبيحة أم طفولة أبنائنا هي الذبيحة؟
كتاب جميل رائع يستحقّ القراءة مرّة ومرتين، يعطي صورة واضحة عن حقبة تاريخيّة، ويزخر بالمعلومات القيّمة، التي يستقيها المتلقّي دون تلقين وفي غمرة متعته وخياله الجامح في أخبار قد تعدّ من الأساطير، لكنّها كانت حقيقة عاشها آباؤنا ونقلوا إلينا حكاياتها وكأنّها قادمة من أعماق ألف ليلة وليلة.
وسوم: العدد 780