دراسة نقدية دلالية في قصيدة " جموح الجواد " للشاعرة سامية شاهين
صدر للشاعرة الفلسطينية سامية محمد شاهين، قصيدة بعنوان" جموح الجواد"، في مجلة " مبدعون" وهي مجلة عراقية شهرية يصدرها المركز العراقي للأدباء والفنانين الشباب 2018م.
الشاعرة من مواليد عام 1973م، فلسطينية من قرية عرابة البطوف في الجليل الأسفل قضاء عكا، وحاصلة على الماجستير، وتعمل مدرّسة لغة عربية في مدرسة بقريتها، وهي عضو في منتدى الكلمة، وفي اتحاد الكتّاب العرب، وصدر لها عدد من الأعمال الأدبية كقصص الأطفال، وديوان شعر بعنوان: (حوراء كحّلها الحنين) وديوان آخر بعنوان: ( أهازيج البراعم)، وغير ذلك من الأعمال المنشورة.
القصيدة كتبت على نمط شعر التفعيلة، وتشتمل على اثنين وخمسين سطراً، وهذا اللون شائع بكثرة بين شعراء هذا العصر، بل هذا زمانه الذهبي. والصحيح أنّ القصيدة حين نتأمل عنوانها "جموح الجواد"، نجدُها مفعمةً بالحركة، والإيقاع الذي يبدأ رتيباً ثم يعلو وينخفض كاشفاً عن ثورةٍ لمشاعر من الحزن والألم والسخط الذي أصاب الواقع العربي. إيقاع يتصاعد، علماً أن الشاعرة لم تُلزم نفسها تفعيلة محددة، تنساب عبرها موجات الانفعالات بتوازن موسيقي، حال الكثير من شعراء اليوم، وإن كانت أقرب لتفعيلة البحر الكامل بعامة. لذا فالضوء الدلالي المنبعث من العنوان يشير إلى حزنٍ دفين ممزوج بالغضب وعدم الرضا عن الواقع، فالجواد لم يعد في حالته الطبيعية المعروفة؛ التي يستجيب فيها للأوامر، فغدا ثائراً متمرداً، فلفظ جموحٌ من الفعل جَمَحَ، وفرسٌ جموح إذا أسرع ولم يردّه شيء، وجموح صيغة مبالغة على وزن(فعول) ويستوي فيه المذكر والمؤنث، نقول: حصانٌ جموحٌ وفرسٌ جموح وهو الذي إذا أسرَعَ لم يردّه اللجام. وفيه دلالة التمرد والغضب الشديد.
القصيدة وفق قراءتي تتألف من ثلاثة دوائر دلالية، تتقاطع معاً لترسم لوحة غنية بالإحساس، معبّرة عن مشاعر جياشة بالحزن والحبّ وأصالة الانتماء لفلسطين وللعروبة جمعاء.
الدائرة الأولى، تستهلك عشرة أسطر، تصف بها الشاعرة حال الجواد العربيّ! وهي في حديثها عن الجواد، تذكّرني بقصيدة الشاعر المرحوم أمل دنقل الرائعة" الخيول" التي يقول في مطلعها: الفتوحاتُ في الأرض- مكتوبة بدماء الخيول... وحدودُ الممالك رسمتها السنابك.." لكنّ الشاعر في القصيدة يرثي الخيل العربية الأصيلة التي حققت الانتصارات والفتوحات، ويبكيها بحسرة، بعدما تحولت اليوم إلى حيوانات في الحدائق يشاهدها السائحون، أو تجرهاّ العربات في المدن والقرى، وغدت حيناً زينةُ وألعاباً للأطفال في الأعياد والأعراس!! أما شاعرتنا فرسمت للحصان صورة أخرى، فهو ما يزال في عنفوانه وقوته وشموخه، لكنه أمام الحالة العربية المتردية آثر الانسحاب من الصحراء التي صنع بها الانتصارات، تقول الشاعرة:
جمحَ الجوادُ عن الصهيل
شدّ الرحالَ صوب الأصيل
في حافريه يصكّ الصخور قدحاً
يفتش عن الشمس صبحاً
جمح الجواد عن الصحرا
ولهيبها اللاسع والأفاعي الرقطاء...
إنّ الشاعرة تستعين بالتاريخ العربي الإسلامي، وتستلهم منه صوراً فنية جميلة، فصورة الصحراء في ذهن العربي ترمز إلى أصول العرب وقبائلهم، وهي تستدعي في أذهانهم حين تُذكر معاني الشجاعة والكرم والصبر والحلم والترحال، ويرتبط بذكر الصحراء دائماً حيوانها وبخاصة الإبل والخيل، الوسيلتان اللتان استخدمهما العربيّ في إقامته وظعنه، وفي سلّمهِ وحربِهِ وفي تجارته، فهي مهد ذكرياته وانطلاقاته نحو الأمم الأخرى. ودلالة على أهمية الخيل ذكرت في القرآن الكريم في مواطن كثيرة، أهمها سورة العاديات التي منه قوله تعالى: " والعاديات ضبحاً، فالموريات قدحاً، فالمغيراتُ صبحا، فأثرنَ به نقعاً، فوسطنَ به جمعاً.." وقد تأثرت الشاعرة بهذه المعاني كما نجد في المقطع السابق.
وفي الدائرة الثانية، نجد المبررات التي جعلت هذا الجواد جامحاً؛ فالصحراء التي وُلِدَ فيها وترعرع ، وصالَ وجال، وفتح البلاد، تغيرتْ، ولم تعد موطناً للفتوحات، أو الانتصارات أو الذود عن العزّة والكرامة، ومن ثمّ فحاجة الناس إلى الجواد وللخيل بعامة صارت قليلة أو نادرة، وفي هذا مبرر لجموح الجواد، وحقٌّ له أن يجمح ويرحل عن الصحراء نحو الجبال والأودية والشعاب، بعيداً عن العربيّ الذي تغير!! الصحراء انقلبت بدلالاتها الواقعية؛ فهي اليوم موطن للمأساة، وموئلٌ للغربان، يهيم بها المشرّدون اللاجئون المتعبون الهاربون من هزيمة الواقع العربي، وسطوة الذئاب الغربية، ومن حكم المتآمرين على قضايا الشعوب، الذين سمحوا أن يكون واقع العربيّ اليوم مُذلاً لا عزة فيه ولا كرامة، وأن تُقسّم البلاد، ويتفرق أصحاب الأرض ويهيمون على وجوههم في الصحراء أو البراري أو البحار...!! ولم يبقً فيها مسيطرٌ سوى الغول، وهو رمز لسطوة الأجنبي واستحكامه في بلادنا.
تقول الشاعرة عن تبدل الصحراء:
فرمالها غطّاه اصفرار// يتلحفُ أخدود الجرحى
قشعريرةٌ وغطاءُ الغربان// والصّبار صار طعام الثكالى
لم يبق شيءٌ سوى أرجل الغول...
الدائرة الرابعة، وفيها تفتح الشاعرة أبواب الأمل بنظرة متفائلة للغدّ؛ فنرى أنّ جموح هذا الجواد أمرٌ فيه بوارق أمل نحو غدٍ مشرق، فهو جموح إلى الخلف وليس إلى الأمام! الخلف الذي يعود فيه إلى الطبيعة الغنّاء التي يتنسم فيها عذب الحرية، وعروبة الأرض، تقول الشاعرة:
جمح الجوادُ بعيداً عن قهقهة البنادق// ونقيق الضفادع
تاق اللجوء إلى العصافير// وهي تغرّد لبزوغ النور// وانبلاج النهار
الجموحُ صار عنوان النفس الناضجة// تبوح بأسرار جذلى
وينطلق الجواد على أجنحة البراق// يحمل أمنيات القداسة// من أعناق السماء صرحاً
عساها تزهر القوافي// تحمل بلسم الأرواح
تُضمّد جراح الحناجر// فيرفّ الحمامُ زاجلاً // ويطلق على القيد رمحا ...
فالشاعرة، في المقطع الأخير، تجعل من الجواد ذا بصيرة نافذة، فهو يدرك الواقع، ويشعر بآلام البؤساء، وآمال المحرومين المظلومين، لذا يبتعد عن الواقع الموبوء بالهزيمة والانكسار، نحو الغدّ المشرق، عاقداً العزم على تجديد الماضي العزيز الأشمّ، آتياً على أجنحة البراق، حاملاً البلسم للجراح، كاسراً القيود. وهي صورة جميلة تعبّر عن قراءة واعية ومؤمنة بحتمية التغيير، فبقاء الحال من المحال كما يقولون، ولعلّ هذا ما يحتاجه المتعبون اليائسون في هذا الزمان العربي العحيب.
وبالنظر في لغة النص، نجد أن الشاعرة قد اتكأت على معجم الألفاظ التراثية نحو[ جمح الجواد] و[ شدّ الرحال] و [ الصهيل – الأصيل] و [ صبحاً- قدحاً ] و[ أجنحة البراق] و [ أمنيات القداسة] و [ أعناق السماء- بلسم الأرواح]، فجميع استعمالات هذه الألفاظ وغيرها تشيع في الأدب القديم، وهذا يدلّ على أن الشاعرة قرأت التراث، وهي تستحضره في أشعارها، وتعيد نسجه بثوب جديد، وتضيف إليه خيوط الواقع المؤلم التي نلمحها في ألفاظ نحو[ طعام الثكالى- قيود الزنزانة – عرش الكرامة- سهام الحرية..] ، والشاعرة تتكئ في لغتها الشعرية هذه على اللغة المجازية التي تجعل بعض الدلالات مفتوحة على مصراعيها، أمام التأويل؛ بدءاً من الجواد الذي جعلته موضوع النصّ، فالدلالة الظاهرة والسياقية توحي بأنه الجواد العربي، وقد يرمز إلى القوة العربية الغائبة ، وقد يكون عزم الشاعرة نفسه، كأن تجعله جواداً في حالة من حالاتها النفسية، وإن كنت لا أميل لهذا التفسير. اللغة المجازية تكاد تغطي أرجاء النصّ، وتحوّله إلى فضاءات واسعة، تكشف عن درجة الإحساس العالية بالموقف الشاعري، الذي يعلو حيناً وينخفض حيناً آخر؛ كما نجد في العبارات الآتية: [وفي عينيه نهرٌ يتدفق بين أروقة الجبال] صورة فضائية عميقة، أن تتخيل عيني الحصان نهرين يجريان في شعاب الجبال توافقاً مع حركته يمنةً ويسرة!! وكأن الضوء المنبعث أمامهما حالَ إلى ماء نهر جارٍ، وأظنّ أن هذه الصورة جديدة مبتكرة، تكشف سعة خيال الشاعرة وطريقة تأملها الرائع، وإحساسها بالأشياء.
ومن اللغة المجازية قولها:[ والصبّار صار طعام الثكالى] كناية عما لحق هؤلاء من الفقر والظلم والاضطهاد، وهي صورة إنسانية تبعث الألم في النفس، وتدعو للشفقة، وقولها كذلك : [ وأضرم النار بضحكة الأطفال] فهي عبارة تحمل دلالات قوية، منها صورة عذابات الأطفال الذين يمثلون زينة الدنيا، وبهجتها، وتحيل القارئ إلى تأمل كيف يمكن أن يلحق هؤلاء الأبرياء لون من التعذيب ، وأيّ تعذيب هذا ؟ إنهّ إنهاء فرحتهم وضحكاتهم، وكيف؟ بالحرق، بأبشع وسائل التعذيب والقهر والقسوة!!
لقد اعتمدت الشاعرة على الجمل الفعلية اعتماداً ملفتاً، أسهم في تدوير اللوحات التي اشتملت عليها الدوائر الدلالية، بحركات مؤثرة تبعث التأمل في النفس، وجاءت الأفعال الماضية موازية للأفعال المضارعة، وفي هذا دلالة على أن الشاعرة على طول إحساسها بالماضي فهي تغرف من الواقع الحاضر، ولا تستطيع الابتعاد عنه، ولا الفكاك منه، وفي هذا دليل على قوة سلطانه، وسيطرته على البقاء، بآلامه وأحلامه، وهي في نظرتها هذه، تحاول توجيه الحاضر نحو الأفضل بعد تشخيصه، علماً أنها جعلت شارات التفاؤل مفتوحة بالتمني والأمل، دون أن توضح قرب أو بعد لحظة الانفراج أو وصف ذلك بالأسلوب الذي استخدمته حين كانت تصف الماضي وآلام الحاضر.
إنّ لغة الشاعرة في عمومها رومانسية، فيّاضة بالعاطفة، لكن ليست العاطفة الهوجاء التي لا تخضع لنظام؛ بل نلمس أثر الخيال في بنائها وهذا ما تحدث عنه الناقد الإنجليزي(كولردج) حين تحدث عن دور الخيال في تنظيم العاطفة وتوحيدها مع الصور العقلية في بناء واحد، ليظهر بعد ذلك بناء نصّ فنيّ جميل، وهذا لا يتأتى إلا بقوة إدراك ووعي للحدث أو المؤثر الذي يعالجه الشاعر. لقد حرصت الشاعرة على استخدام أقصى طاقتها في التوليف اللفظي، فجاءت لغتها الاستعارية تشير إلى قدرتها على إدراك مواطن التشابه والتباين وذلك منبع الاستعارات، وهذا بدوره كما يرى الناقد- محمد حسن عبد الله – " يشبع الحنين الإنساني إلى النظام والكمال؛ لأنه يقيم صلة روحية بين الأشياء التي تتوحد في مخيلة الإنسان، لتعبر عن رغبة عميقة للعقل الإنساني في اكتشاف نظام العالم الخارجي"، وهذا كله مرتبط بقدرة العقل والخيال والعاطفة معاً في الاندماج والانصهار ثم البدء بعملية الإبداع.
وأخيراً، تمنياتي للشاعرة بالتوفيق، وسأكون سعيداً وأن أقرأ لها إبداعات أدبية جديدة قادمة.
وسوم: العدد 788