البهاء ومدرسة ثقافة الحياة
صدر كتاب "البهاء باق فينا ومعنا" قبل أيّام قليلة عن دار الرّعاة للدّراسات والنّشر في رام الله، بالاشتراك مع دار جسور ثقافيّة للنّشر والتوزيع في عمّان. ويقع الكتاب الذي أعدّه المحامي محمد عليان، وقدّم له الأديب ابراهيم جوهر، وصمّمت غلافه سيرين الأجرب في 275 صفحة من الحجم المتوسّط.
يحتوي هذا الكتاب على عشرات المقالات والقصائد والأقاصيص والومضات التي كتبت عن الشّهيد بهاء عليّان الذي ارتقى سلّم المجد في 13-10-2015، ودفن في مقبرة المجاهدين قرب سور القدس التّاريخي يوم الفاتح من سبتمبر 2016 . وهذه المقالات هي ما استطاع والد البهاء أن يجمعها عندما قرّر اصدار هذا الكتاب.
ومن يقرأ هذا الكتاب سيجد نفسه أمام فلسفة الحياة والموت كما جاءت في وصيّة الشّهيد بهاء، والتي تكرّس ثقافة الحياة التي ينشرها ويعمّمها محمد عليان والد الشّهيد، معتمدا على وصيّة البهاء، ففي الوصيّة رفض البهاء أن ينتسب لأيّ فصيل، لكنّه انتسب للوطن الذي ضحّى بحياته من أجله. ومّما جاء في وصيّته:(لا تجعلوا منّي رقما من الأرقام، "تعدّوه" اليوم و"تنسوه" غدا".) وهذا بحدّ ذاته انتقاد لاذع لمن يتعاملون مع الشّهداء كأرقام تسجّل، ولا يلبث أن يطويها النّسيان.
وهذا ليس غريبا على شابّ مثل البهاء الذي كان ناشطا ثقافيّا، فهو أحد من أبدعوا وأسّسوا ورتّبوا للسّلسلة القارئة حول سور القدس عام 2013، والتي كانت سبقا عالميّا دخل موسوعة "غينيتس".
وهنا لا بدّ من التّذكير بالدّور الذي لعبه ولا يزال يلعبه المحامي محمد عليان من أجل تحرير جثامين الشّهداء المحتجزة، والتي اعتبرها قضيّة رأي عام، وأنّ احتجاز الجثامين فيه انتهاك فاضح لحقوق الانسان واعتداء على حرّيّة المعتقدات الدّينيّة، فرغم أحزانه وآلامه كأب ثاكل والتي كان يكبتها أمام النّاس، إلا أنّه واصل النّضال ولا يزال يواصل من أجل تحرير الجثامين المحتجزة، ولم يتوقّف عن نضاله هذا بعد أن تمّ دفن جثمان فلذة كبده. وموقفه المبدئيّ هذا هو بمثابة رفض للعقوبات الجماعيّة، لأنّ احتجاز جثامين الشّهداء فيه عذاب لذويهم الأحياء.
والمحامي عليّان هذا الانسان الرّقيق صلب في مواقفه الدّاعية إلى ثقافة الحياة، وهو بهذا يعبّر عن إنسانيّته وإنسانيّة أبناء شعبه، وبهذا فهو يدعو إلى الحياة التي تحفظ كرامة كلّ إنسان بغضّ النّظر عن جنسه أو لونه أو معتقداته. ومواظبته الدّؤوبة لاسترجاع جثمان ولده البهاء بشكل خاصّ، وجثامين الآخرين المحتجزة تنبع من إيمانه القويّ بالحفاظ على كرامة الأموات والأحياء. وما اصدار هذا الكتاب إلا تنفيذ لوصيّة البهاء"لا تجعلوا مني رقما من الأرقام، تعدّونه اليوم وتنسونه غدا". لكن الخلود لثقافة الحياة.
وممّا يلفت الانتباه في الكتاب هو ما كتبه والد البهاء تحت عنوان "اللحظات الأخيرة" والتي امتدّت على 42 صفحة"، والتي ظهرت فيها عاطفة الأبوّة بأبهى صورها، مقرونة بعاطفة الشّجاعة التي تجلّت في هذا الموقف، وهي لحظات استلام الجثمان ومشاعر الأبوّة والأمومة والانتظار المرهق لأكثر من 48 ساعة، تلك السّاعات التي عاش فيها والدا البهاء صراعا بين تصديق القرار بتسليم الجثمان، أو امكانيّة التّراجع عنه، وكذلك وصف السّاعات الأخيرة لخمسة عشر شخصا من أسرة الشّهيد وهم ينتظرون أمام محطّة البريد عند مدخل شارع صلاح الدين في القدس، تمهيدا لاستلام جثمان البهاء عند منتصف الليل لدفنه في مقبرة المجاهدين التّاريخيّة، بعد أن رفض المحتلّون دفن جثمان الشّهيد في مقبرة بلدته جبل المكبر.
وكانت هناك سياسة "عضّ الأصابع" لكن والد البهاء رغم جراحه كأب ثاكل قرّر أن ينتصر في هذه المعركة، فقد رفض محاولة منع والدة البهاء من حضور مراسم دفن جثمان ابنها؛ لأنّها لا تحمل بطاقة القدس، وكذلك رفض محاولة مصادرة المقصّ الذي أتوا به لقصّ أكياس النايلون عن الجثمان، ورفض الاذعان بالاسراع في تشخيصه لجثمان فلذة كبده، وهدّد بالانسحاب إذا لم تُنفّذ مطالبه وكان له ذلك.
إنّها لحظات موجعة لمن يقرأها، فما بالكم بمن اكتوى بلهيبها، وعايشها لحظة بلحظة وقلبه ينفظ حزنا؟ لكنّها لحظة الدّفاع عن الكرامة وعن ثقافة الحياة.
وسوم: العدد 794