من أدب المناجاة: ديوان: اللهم إني إليك أتضرع للشاعر عارف الشيخ
أدب المناجاة هو أدب الصدق مع النفس ، و العفوية في التعبير . أدب تصفو فيه النفس ، و تنبجس قوافيه من حنايا الصدور ، و تنطلق قصائده و مقطعاته تخطر في ثوب من رقيق الشعور . يعبر فيه الطائع عن أشواقه ، و يزيح به العاصي شيئا من ركام الزيف عن فطرته ، يمتح من معين القلب ، فيتدفق على الألسنة يلهج بذكر الله ، أو يهفو إلى عفو الله ! فهذا أبو نواس مثلا على ما عرف عنه من انحراف في سلوكه ، و تجاوز في شعره يرفع كفيه إلى الله ، و هو يحمل من أوزار الخطايا ما يحمل . تضيق في وجهه زوايا الحياة ، و تظلم أمامه منافذ النجاة ، فلا يجد سوى باب الله بابا ً
يا رب إن عظمت ذنوبي كثرة فلقد علمت بأن عفوك أعظمُ
إن كان لا يرجوك إلا محسن فبمن يلوذ و يستجير المجرم
أدعوك ربِّ كما أمرتَ َ تضرعا ً فإذا رددتَ يدي ، فمن ذا يرحم ُ
مالي إليك وسيلة إلا الرجا و جميل عفوك ، ثم إني مسلم
و ذاك الشافعي – رحمه الله – الفقيه الزاهد العابد – يحس بالتقصير أمام فضل الله و نعمائه ، يوازن ما بين قسوة القلب و عدم القيام بعبادة الله تعالى حق العبادة ، فيتعاظم في نفسه هذا الشعور حتى ليحسه ذنبا من الذنوب ، و لكن مما يخفف هذا الضيق ، و يفتح باب الأمل أنَّ عفو الله تعالى كبير ، و رحمته واسعة
و لما قسا قلبي و ضاقت مذاهبي جعلت رجائي نحو عفوك سلما
تعاظمني ذنبي ، فلما قرنته بعفوك ربي ، كان عفوك أعظما
فما زلت ذا عفو عن الذنب لم تزل تجود و تعفو منة و تكرما
و ذلك أبو العتاهية يخلط عملا صالحا بعمل سيء ، يدعو الناس إلى الزهد ، حتى ليتمنى الناس أن يبلغوا المرتبة التي يدعو إليها ، و يخشى أن يكون شعره حجة عليه ، لأن نفسه لا تستجيب لكل ما يقول ؟! فلا يجد إلا باب الندم و الاعتذار ، و الإقرار بالذنب ، فيرجو الله ألا يعذبه ، فأي نفس تخلو من رعونات ، و أي قلب يطهر من شهوات ؟
إلهي ! لا تعذبني فإني مقِرٌ بالذي قد كان مني
و مالي حيلة إلا رجائي وعفوك إن عفوتَ و حسن ظني
و كم من زلة لي في الخطايا و أنت عليّ ذو فضل و منّ
إذا فكرت في ندمي عليها عضضت أناملي ، و قرعت سني
يظن الناس بي خيرا و إني لشر الناس ، إن لم تعف عني
وفي ادبنا المعاصر تقف بنا مناجاة رقيقة لشاعر الإنسانية المؤمنة عمر بهاء الدين الأميري في تجربة غنية من هذا اللون ، و قد صلى الفجر ، و قرأ كتاب الله ، وألم بآيات الرحمة و الاستبشار ، فانطلقت هذه المناجاة بين دعائه و رجائه :
هاك نفسي ، و كل أهواء نفسي
و جوى غلتي و تبريح بؤسي
هاك ذاتي ، و أنت بارئ ذاتي
وصفاتي ، و أنت مُرهف حسي
في كياني – يا رب – روحيَ تشكو
ملق السعي بين مهدي و رُمسي
أسبغِ الرحمة الرؤوم عليه
و ارع عزمي ، و لا تكلني لنفسي
و يفرد الشاعر عارف الشيخ ديوانا كاملا للمناجاة ، و قد وسمه بعنوان ( اللهم إني إليك أتضرع ) .
و هذا التضرع ليس وقفا على حال معينة كإحساس بذنب ، أو شعور بتقصير ،أو اغتباط بفضل ، أو استجابة لواقعة ، و لكنه ينسحب عل جميع المواقف
والحالات التي يعيشها الشاعر :
إذا سمع الأذان هفا قلبه إلى خالقه مستشعرا عظمته و جلاله
الله أكبر كل يوم خمس مرات يشنف لحنه آذاني
رباه ها أنا قد شهدت بأنه لا رب غير الواحد الديان
و شهدت أن محمدا مبعوثه و رسوله قد جاء بالقرآن
رباه فارزقنا شفاعته فهو الدليل لجنة الرضوان
و مع حلول شهر رمضان ، شهر الاستزادة من الطاعات ، و شهر القيام و ليلة القدر تتشوق النفس إلى المزيد من فضل الله الذي منّ على عباده بمعرفته و طاعته ، فيخاطب نفسه ، و يدعوها إلى الصبر ، لأن الصوم لله ، و الأجر منه ، و يرغبها بالعبادة
الصوم لي و أنا الذي أجزي به فتصبري
و صلي الليالي بالنها ر تعبدا لا تفتري
هذي الحياة رأيتها تمضي كلمحة ناظر
فالويل كل الويل لــــلاهــــي و للمستهتر
و في تضرع آخر حيث تتخفف النفس من أثقالها ، و تتخلص من أوضارها ، و تغدو مقبلة على الطاعة ، منتظرة أن تهب عليها نسائم المغفرة و الرحمة و الرضا و القبول :
إنه شهر صيام و دعاء و قيام
رب كم تحلو منا جاتك ، و الناس نيام
يا إله العالمين لك كنا صائمين
فاعف عنا ، فاعف عنا و ارض عنا أجمعين
و مع التأكيد بأن الصيام كان لله فهو القائل في الحديث القدسي "الصوم لي و أنا أجزي به " تأكيد آخر في طلب العفو ، لأنه مالك العفو كما في " لك يا الله صمنا – رمضان كريم – ليلة القدر ، و في الحج ، و مع مواكب المهللين المكبرين الملبين الضارعين:
لبيك اللهم لبيك – تسمو النفوس بتجردها عن الشهوات و العادات ، و الذنوب ، و يطيب الانطلاق مع تلك الحشود في تضرع و إذعان :
لبيك يا رب الحجيج إليك جئنا ضارعين
جئنا إليك مكبرين مسبحين مهللين
جئنا لوجهك خاشعين و عن الهوى متجردين
جئناك بالذنب العظيم بباب عفوك واقفين
فاغفر خطايانا فأنت تحب توب التائبين
وقد وفد الحجيج بعد أن سبقتهم قلوبهم تستشرف تلك المنازل ، و تهيم في ربوع هاتيك الديار
الكعبة الغراء ملء مشاعري و هوى أبي الزهراء يسكن في دمي
في حجر إسماعيل ناجيت الهوى فوجدت حب الله أكبر بلسم
رباه إن لم تغفرن خطيئتي فبمن ألوذ و ألتجي أو أحتمي
ولئن كان التوجه إلى الحج مرة في العام ، و الصيام شهر في السنة ، إلا أنه يجد في كتاب الله محدثا له كل آن ،و مناجيا ً في كل وقت .... و هو يعجب كيف شقي عباد و ضلوا ، و لم ينتفعوا بآيات الله:
نزلت يا رب الورى تنزيلا و جعلته للعالمين دليلا
أنزلت ما لو رتلت كلماته في غدوة و عشية ترتيلا
لهدى الأنام ،و حل كل عويصة و شفى الذي من قبل كان عليلا
و يسأل الشاعر الله تعالى بأسمائه الحسنى ، ملتزما بما جاء في السنة النبوية ، راجيا أن يرفع الله ما نزل بالأمة من بلاء ، و أن يفتح لها باب الخروج من الضيق ، لتسلك سبل الطاعة !
بأسمائك الحسنى أتيناك نسأل و ما خاب يا ألله عندك سائل
سألناك عفوا ، ثم منّ على الورى بعافية إن البلايا نوازل
عصيناك ، لكنا ندمنا ، و أنت قد فتحت لنا باب الرجا منه ندخل
فالله هو المسؤول لكشف الغمة ، و رد البلاء ، و الله هو المرجو في تكفير الخطايا ، و غفر الذنوب . و من أسمائه الحسنى يستلهم الشاعر معانيه فهو الرحمن الرحيم ، و هو العفو الكريم ، و هو اللطيف الخبير . و مع تكرارها و العيش في ظلال معانيها تلوح بارقة الأمل ، و تضيء في ثنايا الظلمة و الغفلة قناديل الرجاء .
و مع هذه المناجاة التي تتأرجح بين الخوف و الرجاء يذكر الشاعر أن البشير النذير و السراج المنير أرسله الله تعالى رحمة للعالمين ، و دليلا للحائرين ، و مبشرا للمذنبين ، و شفيعا للمؤمنين فما أجمل أن ينطلق اللسان بالصلاة عليه ، و أن يهفو الفؤاد إليه :
نصلي على خير البرية أحمدا نصلي على الهادي الرسول تعبدا
وواحدة منها تعد بعشرة و لو زدت فيها زادك الله سؤددا
فصلوا عليه غدوة و عشية صلاة سلاما دائمين بلا مدى
و هذا الرسول قد أدى الأمانة ، و بلغ الرسالة ، و نصح للأمة و تركها على المحجة البيضاء ، ليلها كنهارها ، لا يزيع عنها إلا هالك
و أكملت دينا ، و غادرتنا و قد كان هدى الإله انتشر
رحلت إلى الله من بعد أن بدا الحق حقا فقام انتصر
رحلت و قلت لنا استمسكوا بعروة وحي ، و هذا الأثر
و للاعتراف بالفضل ، و استذكار النعم ، و الشعور برعاية الله ، و التقلب في نعمه مناجاة هي الحمد و الشكر على التوفيق
لك حمدنا يا ربنا و ثنانا أوليتنا من نعمة ألوانا
ألهمتنا حب الفضائل و الرضا و الصدق و الإيثار و الإحسانا
ألبستنا حلل السعادة كلها فزهت بما أوليتنا دنيانا
و أجل هذه النعم هي نعمة الإسلام ، و نعمة الهداية ، و العيش في رحاب التوحيد و الطاعة والرضا . و هو شعور تعظم به هذه النعم و تكبر ، حين يرى المتخبطين في دياجير الشرك و العصيان ، و قد غشى قلوبهم ما كان يكسبون :
الله أنت رزقتنا هذه النعم و هديتنا للنور في داجي الظلم
فالشرك حول البيت كان مخيما و العرب من غلوائهم عبدوا الصنم
أوليتنا الإسلام دينا خالدا
و بعثت أحمد هاديا بين الأمم
الله أكبر ، لن يضل من اهتدى
بهداه ، فالقرآن ينبوع القيم
و تتعدد ألوان المناجاة ، و تختلف حالاتها ، فحينا ترق كأنها النسيم لتنسكب في المدامع ، و يسكن الفؤاد مع تذكر فضل الله و سعة رحمته . و حين تضج و تضطرب كأنها هزيم رعد ، و قد خيم اليأس على النفس أو كاد ، و هي تذكر جزاء من عمل السيئات .
و في الحالتين تلح في طلب المغفرة ، فهي لا تجد إلا هذا الباب .
تطرقه . و فمن لزم هذا الباب فقمنٌ أن يفتح له .
إن هذا الديوان ( اللهم إني إليك أتضرع ) في مضمونه المحبوب يضاف إلى دواوين الشعر الإسلامي المعاصرة التي سلكت هذا السبيل ، كما في ( مع الله ) للشاعر عمر بهاء الدين الأميري و (يا إلهي ) لمحمد التهامي ، و ( نفحات رمضان ) لمحمد ضياء الدين الصابوني ) لترقق قسوة القلوب ، و تندي جفاف الروح . و تطلق النفس من إسار مادية الحياة ، و تعيرها جناح بشرى ، و جناح أمل !
وسوم: العدد 829