واحة الراهب تكشف في رواية الجنون طليقا..
الاستبداد والفساد والجريمة
الكاتبة: واحة الراهب
قراءة: أحمد العربي
الناشر: نوفل. هاشيت أنطوان/ ط١، ورقية، ٢٠١٩م
الجنون طليقا، رواية تجري أحداثها في سوريا بعد مضي سنوات على ثورة شعبها ضد النظام الاستبدادي المنطلقة في ٢٠١١م، وما فعله النظام بحق الشعب السوري من مئات آلاف القتلى والمعتقلين والمصابين والمعاقين وملايين المشردين، وتدميره أغلب سوريا على رؤوس شعبها.
تبدأ الرواية عندما يتوجه فريق تصوير سينمائي من دمشق إلى إحدى ضواحيها، حيث تتواجد مشفى الأمراض العقلية لتمثيل فيلم تدور أحداثه في المشفى إياه. يعايش فريق الفيلم ما يحصل في الخارج، طائرات الهليكوبتر التي ترمي البراميل المتفجرة على البلدات الثائرة، أصوات القذائف الملقاة من كل اتجاه، حركة الدبابات والأرتال العسكرية المتوجهة لقمع البلدات الثائرة ومحاصرتها.
كل ذلك يعيشه فريق الفيلم لكنه يتعامل معه وكأنه غير موجود ولا علاقة لهم بما يحصل، فالشعب السوري انقسم إلى فريق ثائر يحارب ويُقتل ويُشرد، وفريق موالٍ للنظام يعيش حياته وكأن شيئا لم يكن، ضمن كذبة: لا شيء يحصل في سوريا.
فريق الفيلم يتألف من المخرج ناجي، ومساعده جلال، والمؤلف نزار، وبطلة الفيلم دينا، وبطل الفيلم مجد، هذا إضافة لكادر الفيلم. يصل فريق الفيلم إلى مشفى الأمراض العقلية لنجد أننا أمام إقطاعية خاصة بمديرها فؤاد الذي يرأسها منذ خمس وعشرين عاما، يهيمن عليها عبر فريق من الممرضين والممرضات والموظفين الذين يمثلون كادر المدير في مملكته الخاصة، وهو حاكم مطلق.
للرواية مسارات متداخلة؛ فريق الفيلم وطاقم مدير المشفى، ومريضات المشفى، والأجواء العامة للثورة وفعل النظام الوحشي ضد الشعب كخلفية للأحداث.
فريق الفيلم برئاسة المخرج منهمك بخلق شروط تجعل إخراج الفيلم ناجحا، يعمل دون كلل على ذلك، من خلال التنسيق مع مساعده والبطلة دينا والبطل مجد والمؤلف نزار. البطلة دينا معتزة بنفسها وشهرتها، عاشت طفولة قاسية بعد موت والدتها وتسلط والدها عليها، تعمل بجد ونشاط لتثبت شخصيتها وتفوقها دوما، غير متجاوبة مع محاولات التحرش بها وخاصة من مجد.
مجد بطل الفيلم معتز بنفسه وشهرته جدا، يتصرف بعنجهية، يصطاد الفتيات يعيش علاقات مفتوحة، مغتر بنفسه، لكن دينا صدّته، وهذا ما خلق بينهما حالة توتر وصراع مستمر. في المشفى سنعرف أن المدير يستثمر المشفى لمصلحته الخاصة كحاكم مطلق عليها، قوته تكمن من زوجته وقريبها المسؤول الأمني في النظام، استغل المشفى ونهبها بالتعاون مع نائبه، له سطوة على نزيلات المشفى، يستغلهم جنسيا، خفايا المشفى توصلنا إلى رئيسة الممرضات التي تمثل أداة استغلاله الجنسي للنزيلات، وبطرق أقرب للوحشية، التعامل مع النزيلات أقرب لكونه معتقل منه ليكون مشفى أمراض عقلية، حقن، مسكنات، تخدير، وتنويم، صعق كهربائي وتعذيب إن لزم الأمر.
في كل ليلة تؤخذ فتاة إلى المدير ليغتصبها وهي مخدرة ومطمّشة، البعض منهن تحمل ويتم إجهاضهن، بعضهن يمتن في عمليات الإجهاض، ولا من يسأل أو يحاسب، المشفى نفسها تغص في الكثيرات ممن دخلن إليها دون أن يكنّ مريضات عقليا أو نفسيا، البعض لأسباب سياسية، هذه أخوها وزير فأدخلها المشفى ليسرق حقها الإرثي، وتلك أدخلت لكونها أحبت معارضا وأهلها من أنصار النظام… الخ.
سعد المدير بمجيء فريق الفيلم وخاصة بوجود الممثلة دينا، فهو يحبها ويشتهيها في أعماقه. بعد مزاولة فريق السينما التصوير بأيام تفاجأ الجميع بمقتل مساعدة دينا. يضطرب جو الفريق وجو المشفى أيضا، يستدعي المدير الشرطة للتحقيق، وندخل في العالم الخفي للكل، دينا تتهم مجد بقتل الفتاة، لأنه كان ـ أصلا ـ قد اغتصبها وحملت منه، وكانت تطارده دوما لحل مشكلة الحمل والزواج وستر الفضيحة، مجد ينكر القتل، يعترف بالعلاقة الجنسية وأبوة الجنين، وبعد أيام تحصل جريمة أخرى، فتقتل إحدى نزيلات المشفى، وتتشابك الظروف والاحتمالات أكثر، ثم قتل مساعد مدير المشفى وساعده الأيمن، وهذا يجعل المشفى وفريق الفيلم في حالة حذر وخوف وتوتر دائم. يتعاون مجد ودينا بعد وقت من التنافر تحت ضغط استهدافهم من القاتل على البحث عنه، مجد يصبح متهما أساسيا مما يجعله يفكر بالهرب من المستشفى خوفا من الاعتقال في ظروف قد يخسر فيها حياته.
يهرب بسيارته ويضيع في الطرقات الفرعية هاربا من حواجز النظام المحاصر للبلدات الثائرة. يلتقي به مسلح مصاب، يتبين أنه من “داعش”، وأنه بالأصل من الرقة وأن أغلب أهله قتلوا من داعش ومن قصف قوات التحالف الدولي، اضطر أن يلتحق بداعش لأنه لا مخرج له في حياته إلا هم، يأكل ويشرب ويحمل السلاح، يقتل بوحشية ليحمي نفسه، أصيب والتقى بمجد، وتذكره كممثل كبير، بعد وقت أقنعه مجد بضرورة ذهابه للعلاج في المشفى، ويعود مجد والمسلح إلى المشفى، حيث يعالج المسلح الذي يخطف المدير المشابه لمجد مع سيارته ليلتحق بجماعته.
يعود مجد إلى مسرح الجرائم ليجد القاتل ينتظره ليقتله، لكنه يستطيع بالتعاون مع دينا أن ينجو من القتل ويؤدي للقبض على القاتل، الذي يبرر جرائمه بأنه ضحية طفولة قتل فيها أهله في حماة بسبب جرائم النظام في ثمانينات القرن الماضي، وأنه ينتقم مما حصل معه.
من القاتل؟.
تنتهي الرواية بالقبض على القاتل، واختطاف المدير من قبل المسلح الداعشي، وانتقام المريضات نزيلات المشفى من رئيسة الممرضات الظالمة، وهروبهم من المشفى. واستمرار واقع الحال في سوريا خارج المشفى، شعب ضحية ونظام قاتل.
في تحليل الرواية نقول: نحن أمام رواية متميزة تشد قارئيها عبر تسارع أحداثها وترابطها وتكاملها، هي أقرب لعمل سينمائي مكتوب، الجو الروائي أقرب للرواية البوليسية، رغم أنها ليست بوليسية بالمعنى الحرفي، فهي محملة بالمعطيات الذاتية لأبطالها، والخلفية المجتمعية لسوريا كونه شعبا ثائرا ونظاماً وحشياً قاتلاً، وأشخاص الرواية ينعكس عليهم واقعهم المجتمعي الخاص والعام، بشكل مباشر وغير مباشر.
في الرواية تذكير دائم بأن ما يعيشه الناس أفرادا ومجتمعا في سوريا، هي منعكسات لما عانوه من ظلم وقهر واستبداد وتسلط عائلي أو سياسي أفرز هذه الحالات المريضة التي أصبحت مجرمة، وأفرز حكاما ظلمة كل في موقعه وعلى مستوى سوريا كلها، يعملون لتدمير سوريا إن لم يستمروا بالهيمنة عليها واستثمارها واستعبادها شعبا وأرضا.
الرواية بعملها تظهر مشفى الأمراض النفسية صورة مصغرة عن المجتمع الكبير، والاستبداد والفساد والجريمة المنظمة لصالح الحاكم، الاغتصاب بصورته الرمزية، اغتصاب لمجتمع كامل، المدير وكونه إله في ملكه، رئيسة الممرضات كنموذج عن أدوات الحاكم المتشبهين به بكل عيوبه وأمراضه. نهاية الرواية المفتوحة على كل الاحتمالات، تجعلها واقعية ككل ما نعيشه.
الرواية؛ انتصار بشكل غير مباشر لثورة الشعب السوري من أجل الحرية والكرامة والعدالة والتشاركية السياسية والحياة الأفضل، وإدانة لكل ظلم وقع على الشعب السوري. إدانة لكل الظالمين.
وسوم: العدد 830