الشعر والغناء والإنشاد في حياة العربي
من الحقائق المعروفة في تاريخ العرب، أن غناء الشعر وإنشاده هو رفيق العربي في حياته وسهره وسفره، حيث كان الحادي يرافق قوافل المسافرين بصوته الجميل الأخاذ، للترويح عن المرافقين للقافلة; ولهذا جاء قول عمر بن الخطاب رضي الله عنه (الغناء زادُ الراكب) لأنه يروح عن نفسه ويطرد منها الملل والتعب، ويبث فيها النشاط والحيوية والقدرة على المواصلة والإستمرار، وقد اعتبر العرب الحداة الذين يرافقون قوافل السفر والتجارة من الطاقم الإداري الذي لا يُستغني عنه، حيث كانت القافلة تحوي في داخلها (التجار والحراس والعمال والحداة والمسافرين) ويمكننا أن نطلق عليه وصفا لطيفا، هو وصف الحادي بأنه (حامل القافلة) في السفر، لأنه يحملهم في السير تشبيها له بمن يحمل الشيء على ظهره، وفي الحقيقة هو ما حملهم على ظهره، ولكنه وَلّـدَ فيهم من النشاط ما يدفعهم إلى سهولة حمل أنفسهم على متابعة السفر، والتحامل على متاعب الطريق، فكأنه حملهم، والمعنى فيه تشبيه وتقريب، وقد ورد ذلك في قصة المثل العربي المشهور (وافق شن طبقه); ولهذا لا نستغرب أن تكون الموسيقى حاضرة في جميع أنواع الشعر العربي قديمه وحديثه: (العمودي والتفعيلة والمرسل والرباعية والموشح) وقد وصلنا من الشعر إنتاج ما يقرب من 400 شاعر في العصر الجاهلي، فلا يعقل أن يكون (الحس الموسيقي) قد ظهر مرة واحدة، والدليل على ذلك هذا العدد الضخم من الشعراء، بل هناك مراحل تطور فيها هذا (الحس الموسيقي) فيما سبق، وتم البناء عليها. ويلاحظ أن الشعر العربي مغموس بالموسيقى الفطرية الساحرة، سواء كانت ظاهرة أو خفية. حيث كانت ترسم أحاسيس الشاعر وتجربته، وهذا يؤكد أن الشعر العربي لا يستغني عن الموسيقى والإيقاع والأنغام، ويؤكد أن الحياة محكومة بالنظام والإيقاع والغناء، ولا توجد فيها فوضى الأصوات إلا في حالات الانفلات، وفي ضجيج الصناعة وصخب الأسواق، وإذا حصل انحسار في الإحساس والإيقاع وجفاف في المشاعر على المستوى العالمي في ثقافة العصور وآدابها، فإن شعراء الجاهلية كانوا يجهلون الموسيقى، ولكن صفاء فطرتهم دفعهم إلى تسجيل توتر مشاعرهم تجاه أحداث حياتهم في قصائدهم، فقدموا لنا 16 بحراً ووزنا شعرياً، وفي ذلك إشارة إلى أن عالم الإيقاع والموسيقى في الشعر لا ينضب، مادامت هناك قلوب تنبض متأثرة بالحياة وبما يدور من حولها، وهاهو الشاعر المخضرم الذي عاش في الجاهلية وفي الإسلام، حسان بن ثابت أمير شعراء الدعوة، رضي الله عنه يؤكد ذلك بقوله:
(تغن بالشعر إما كنت قائله إن الغناء لهذا الشعر مضمار)،
ومن خلال ما سبق، يستطيع الباحث المدقق أن يرى أن العرب لم يبرعوا في صناعة الآلات الموسيقية، في جاهليتهم ولا في صدر الإسلام، وإنما ظهرت عبقرية العربي في فن الموسيقى حيث نبتت موسيقاه من داخل قلبه ومشاعره وتوترها، وبان (الحس الموسيقي) عنده من خلال فنه المفضل (فن الشعر) وما يحمل في داخله من ينابيع الموسيقى في أوزانها المتعددة، وتأكد ذلك حين تمكن عالم عبقري هو (الخليل بن أحمد الفراهيدي) من اكتشاف السجل العظيم والكنز الثمين للموسيقى العربية، وحلل رموزها وفك شيفرتها في الوزن والإيقاع من خلال علم العروض، الذي حفظ نبضات قلب العربي وموسيقى ذاته، لأنه كان يملك (أذنا موسيقية) مرهفة تحس بنغمات المحيط والحياة من حولها، وكان علم العروض هو السجل التاريخي الراصد لاستجابة هذا العربي، وذلك من خلال فن الشعر، وهذا هو مربط الفرس: (أذن موسيقية وحس مرهف) يسكب نفسه في وعاء اسمه (الشعر العربي) وتواجد في حياته على شكل مجموعة من فنون الأداء (الإنشاد والغناء والإلقاء).
مقدمات مختزلة من تاريخ الإنشاد والغناء:
* إذا حاولنا العودة إلى (المعجم الوسيط) وجدنا أن الغناء والإنشاد يدلان على شئ واحد، هو (أداء الشعر بالصوت الجميل المطرب) ولكننا وجدنا أن الأمر في العصور المتأخرة قد تغير، حيث استقل الإنشاد عن الغناء وأصبح يدل على الغناء الديني الذي يهتم بالمدائح النبوية والمواعظ والمناسبات الدينية كالحج والعمرة، ثم جاء الغناء الصوفي فخلط نفسه مع الإنشاد الديني وغلب عليه، واخترقه وأفسده بالانحرافات الصوفية. وأحيانا بالكلمات المصفوفة الفارغة من المعنى لإتمام حالة الرقص التي تسيطر على فنهم.
* يقول الباحث التونسي الصادق الرزقي (كانت العرب لا تلقى الشعر إلا إنشاداً، وتدع فيه لأصواتها حركات، وتموجها بخفة وحدة وثقل ورخاوة ولين وتقطيع وترديد...)(1) وقد كان إنشاد الشعر هو أول أنواع الغناء، وكانوا يسمون الترنم بالشعر غناء، وحيث يقوم الغناء على الإيقاع الموزون في الجاهلية.
* أما في صدر الإسلام، فقد كان الإنشاد مقصوراً على (اللحن الحسن) أي الصوت الجميل في أداء الآذان وإنشاد الشعر، ونشأ فن آخر اسمه علم التجويد لخدمة القرآن الكريم بصوت جميل في القراءات القرآنية المختلفة، وأقدم من ضرب (بالدف) عند ظهور الإسلام بالمدينة فتيات من بني النجار، في استقبال الرسول r عند قدومه مهاجراً من مكة المكرمة إلى المدينة المنورة، وهن ينشدن:
نحن صبايا من بني النجار يا حبذا محمداً من جار
وكذلك نشيد الإسلام الخالد:
طلع البدر علينا من ثنيات الوداع
وجب الشكر علينا ما دعا لله داع
وتطور الإنشاد بالمدائح النبوية، وبالألحان الحسنة، في حدود ما تألف الأذن العربية من غناء الشعر وإنشاده ضمن البحور العروضية السهلة كالرجز والمتقارب وغيرها، ثم ظهر (الغناء المتقن) في العصر الأموي على يد (سائب خاثر) مؤسس الغناء العربي الذي استقل به عن الغناء الديني، واستمر تطور هذا الفن في بالعصور التالية، من خلال الأوزان العروضية والزحافات والعلل التي تطرأ عليها، وخاصة بعد اكتشاف تفاصيل علم العروض في العصر العباسي، وامتد تطور هذا الفن على يد اسحق وإبراهيم الموصلي وتلميذه زرياب الذي امتد به إلى الأندلس.
*(عضو رابطة الأدب الإسلامي)
وسوم: العدد 837