تجربتي مع الرواية
بدأت أنا وقريب لي لقاء كبار السن في أواسط الثمانينيات، لجمع تاريخ قرية آبائي وأجدادي بيت نبالا قضاء الرّملة، والمهجّرة في نكبة العام 1948، وانجاز كتاب عنه، رغبة منا وانسجاما مع ما كان يقوم به مركز الأبحاث في جامعة بيرزيت، فوجدت نفسي أجمع المأثورات الشعبية الغنائية التي مظظظظظشا زلت أحتفظ بها، ولم نصدر الكتاب، وحين أنشأنا جمعية بيت نبالا في العام 1998، أقمنا عدة مهرجانات وأنشطة في المجالات كافة، واستطعنا أن نجمع تسجيلات نحن وغيرنا وصلت الى المائة.
كتبت بحثا في إحدى المهرجانات حول "أسباب هجرة أهالي بيت نبالا"، ونشرته في أكثر من مكان، وتخيلت في يوم ما أن أكتب عن رحلة التهجير لأهلي من بيت نبالا إلى بيت اللو التي ما زالت محيرة لي، وتخيلت السنوات الأولى للسكن في بيت اللو، كيف استقروا؟ من أين حصلوا على لقمة عيشهم؟ كيف ناموا؟ هل عادوا؟ ماذا وجدوا؟ كيف استقبلهم المضيفون؟ كيف تصاهروا؟ كيف اندمجوا؟ وما زالت الأسئلة مفتوحة، فكلما أجبت سؤالا، تولدت أسئلة أخرى أكثر دقة، فبت أقف عند تفاصيل التفاصيل، وأجد في كل تفصيلة فكرة مهمة، من حكايات وخلفيات ومآلات. ربما لهذا السبب أغرق في التفاصيل أحياناً. أحببت ذلك، واستفدت من هذه التقنية، ربما من حنا مينا، وعبد الرحمن منيف.
عشت في بيت اللو اثنتي عشر سنة، أدعي أني جبت القرية طولا وعرضا، بين سقائف اللاجئين، وحاراتها، والمقبرة، والسهول والجبال، وينابيع الماء التي تصل حوالي المائة، فحرثنا وزرعنا وقلعنا وبعنا واشترينا، واكترينا كروم التين والزيتون، ورعيت الأغنام، ورأيت الجن وعاشرتهم كما عاشرت البشر، واقتنيا الدجاج والحمير والبقر والأغنام والحمام، وعاشت القطط والكلاب والأفاعي وكل الكائنات حولنا.
لم أكن طفلاً مشاكسا أبدا، وهي ثغرة في طفولتي، فأمي هادئة جدا تنتمي لعائلة متدينة، لكنها حازمة، وأحبت فيروز، ودعتني أن أحبها لأنها تغني للطيور والجبال والسهول والشجر والأعشاب، فأحببتها، وجعلت مني طفلا ناضجا قبل أن أنضج، فمنعت نفسي من اللهو في أحيان كثيرة. أمّا أبي "الحاج إسماعيل"، فكان يُشهد له ببطولاته الجسدية وإقدامه، وشخصيته التي يهابها الجميع، وكنت أهابها أيضا، وما زالت آثار ضرباته على أجساد رجال ماتوا أو ما زالوا أحياء، وجسدي أيضا، وكتبت عنه رواية الحاج إسماعيل الذي رفض أن تقطع رجله بعد أن نخرها السوس، فهو صاحب مقولة "إما أن أموت بكامل جسدي، أو أحيا به"، وحين حاول أولاده أن يقطعوها ليعيش، اكتشف ذلك ومات.
في بيت اللو التي كانت مسرح الأحداث لأكثر من رواية نشرتها، كان هناك عدة شخصيات بسيطة، بسيطة للغاية، وطيبة، وبعضها مشاكس، وبعضها عدواني، حتى أننا كنا نهرب منها ونحن أطفال، لكن البسطاء، يعيشون بين الناس، في السوق، وعلى البيادر، وفي المقاثي. كانوا جزءا مهما، وممنوع على أي واحد أن يؤذيهم. واحد منهم، كان يجمع قصاصات الجرائد والمجلات، ويقرأها بالتفصيل، قابلته قبل سنوات، كان ينام في كسارة الحجارة في عمّان، وكانت فرشته ومخدته من الجرائد، وكان محاورا ممتازا. آخر كان يطوف القرية في النهار، ويعرف العيب والحرام، ويحب الناس جميعا، وآخر، يجالس كبار السن في المقاهي (السقائف)، ويلعب قليلا مع الشباب ويرعى الأطفال والحيوانات، وآخر يركض مع الأطفال ويمرح، وآخر وآخر، وفي عمان صادقني شخص، كل الأردن تعرفه وهو يجوب شوارع عمان، وصادقت آخر. كانوا طيبين، يكفينا أن نتمشى ونتجالس ونتداخن، ونتصامت. كلهم طيبون. أحببتهم، عاشرتهم وباتوا جزءا مني..
وجدتها، رواية تتناول هذه الشخصية، موضوعها التيه والصحوة، تاه قبل الهجرة، وربما صحا بعد النكسة، أو اعتقد ذلك. فكان اسم الرواية، فبدأت بكتابتها دون أن أشير إلى الشخصيات التي أعرفها بالضبط، فكانت الحشوة من ذاكرتي الشخصية، وممّا أوردته الحكايا، لكن القصص الحقيقية التي قد تثير بعض الإشكالات والإشارات حذفتها. لكن كيف أبدأ؟ وكيف أنتهي؟ فكانت المغارة التي أحببتها وتظهر صورتها على الغلاف هي مسرح الأحداث وسكن أم تايه وابنها، هي مغارة رومانية تمتد إلى عمق التاريخ، حفرت في الصخر بطريقة معمارية جميلة، كان الناس يستخدمونها لقضاء حاجتهم، وتشرف على الخلة، وقرى مختلفة. وجدتها مرة أخرى.
أعرف هذه الشخصيات التي ذكرت، لكن لا أعرف كيف وصلوا لهذه الحالة، فكان لا بد من ربطها بسياق تاريخي شعبي، وكان فيلم "عرس الزين" عن رواية الطيب صالح نقطة البداية، فحين بال على أحد الأماكن المقدسة حسب معتقدات الناس ومعتقداته، أصيب بالمرض، بالجنون حسب اعتقاد الناس، سخن وتعرق، وعرض على المشايخ، فكان بين التيه والوعي، فكان هذا اكتشاف آخر. أما في النهاية، حين أطلق الجنود النار عليه، فلا بد من إشارة ما لسبب، أو ملامح سبب، فكانت عصاه التي شكل بها علامة الصليب، التي تذكر المحتل بقتلة الأنبياء المقدسين الطاهرين، لقطتها.
وماذا بعد، بقيت التفاصيل، التي استندت فيها لخيالي مرات، وللتاريخ الشفوي مرات، وللتاريخ المكتوب مرات أخرى، وهنا عشت مع الشخصية حتى امتلكتها، وخفت أن أتوه مثله، وتهت، فعرضتها على أصدقاء من كتاب وقراء، اقترحوا علي أن أزيل التاريخ العميق، فأزلت معظمه، وبقي القليل القليل الذي لاحظتموه، الذي لم تطاوعني نفسي لحذفه، لكني ألبسته لشخص أنهى دراسته الجامعية قبل النكبة.
سألني أحدهم عن عقدة الرواية، قلت في نفسي: يبدو أنه غاص في خدعة التفاصيل، ولم يصعد فوقها، لم يرَ دور التفاصيل في القراءة الجامعة للرواية، ولم يستند إلى علم النفس في التيه والغثيان والصحو، والفعل ومراقبة الفعل حتى تصبح جزءا منه. أو ربما أنني لم أنجح في توضيح ذلك. دع الأمور بما خططت، ودع الآخرين يقرأون ما يفهمون.
هل أنا راض عنها؟ إلى حد كبير، لكن كان أن أضيف أحداثا تمهد لصحوته بشكل أكثر ظهورا، وقد تم تناول موضوع مثل هذا في مسلسل سوري نسيت اسمه.
هل الرواية عن تايه، أم والدته أم صلاح أم مجدي؟ هي تايه، والباقي لخدمة إظهار هذه الشخصية، رغم أهمية كل منها.
ماذا سأكتب بعدها؟
روايتي الأولى "حين قطعت الجسر"، لم أنشرها، ولا أظن انه يمكن تحسينها، بل سأكتب شيئا بمعان أخرى.
"كتاب النمل"، هو تصوري لما أنزل الله على النمل، لم أنشره، وربما يواجهني المجتمع، وأواجهه.
ولأن بعض الأصدقاء انتقدوني للكتابة عن بيت اللو و بيت نبالا، عن القرى، وكتبت قبلها عن المخيم الذي عشت فيه فترة، سأعود لأكتب عن الأجواء الخيالية على مشارف رام الله، بعد النسكة، اكتشاف بيئة جديدة، وأصدقاء جدد، وطبيعة ساحرة ، رسمية أحيانا وشعبية أحيانا أخرى، مدنية في المدينة، وقروية بدوية فيها أيضا، طبيعة عذراء في شارع الإذاعة، نرى الذين في الداخل وراء الأسلاك الشائكة نهارا، وهم يراقبوننا ليل نهار. لهم قصة. وسأرجع لأجواء صفية، مؤنث اسمي، وعن لهونا، واكتشاف جنسنا، ومغامراتنا، بما فيها الوطنية. سألني صديق جديد: وهل تحتاجون لشراء بطاريات للمذياع وأنتم قرب الإذاعة؟ وما زلنا قربها، ونشتري البطاريات، ونستمع إلى إذاعة القدس ورام الله، وبرامج: سلاما وتحية/ الإسرائيلي، ورسائل شوق/ الأردني، على إيقاع أغان: فوق التل، تحت التل، إسأل عنا الريح تندل. وكنا "نندل"، فنجد بقايا قصاصات كتب عليها الفدائيون بأنهم مروا من هنا". طالعلك يا عدوي طالع من كل بيت وحارة وشارع. وكنا نحن الذين نطلع في الإضرابات والمسيرات. وعبد الناصر يخطب قائل: إيها الأخوة، ما أخذ بالقوة لا يتسرد إلا بالقوة. وكان يمدنا بالقوة.
وسأكتب عن الجندي العربي الإسرائيلي الذي جاءنا خلسة بين الوديان والجبال، يسألنا عن أخته التي ضاعت منه قبل النكبة، وتزوجها رجل من أبناء بلدتنا، لم نجدها نحن، ولم يجدها حسب علمي، وأصبحت بلدتنا مزارا لنا كلما سنحت الفرصة، أحاول أن أتصيدها بكامرتي، وبتفاصيل الحكاية التي لم تنته.
وسوم: العدد 843