في ضوء المعرفة القرآنية: الظاهرة الأدبية (1)
في ضوء نظرية المعرفة القرآنية
مدخل عام في مصطلحات البحث وطموحه
الظاهرة: لفظ يطلقه أهل العلم والفكر في العادة، على كل ما له وجود مدرك من طريق الحواس) (، قال تعالى: {يعلمون ظاهراً من الحياة الدنيا وهم عن الآخرة هم غافلون} [الروم: 7].
وعندما نقول الظاهرة الأدبية، فنحن نتكلم عن إحدى المنجزات البارزة، التي أفرزها العقل البشري أثناء عملية وعيه للحياة على هذه الأرض، وقد ظهرت كإنجاز حسي يتمثل في الآداب الإنسانية، وما أفرزته من الأجناس الأدبية المختلفة (كالشعر والقصة والخطابة والمقالة والمسرحية والأمثال والحكم والتوقيعات... وغيرها) وما لهذه الفنون من أثر عظيم في حياة الأمم والشعوب.
وتشكل الظاهرة الأدبية مع الظواهر الأخرى، كالظاهرة العلمية والفكرية وغيرها، مجموع ما أنجزه العقل البشري في وعي الحياة من حوله.
ويتضح فضل كل ظاهرة من هذه الظواهر، من خلال ما تقدمه من وعي يضيء للإنسان حياته، ويسهل عليه بناء حضارته وخلافته على وجه هذه الأرض، فإذا كانت وظيفة العلم التجريبي أن يكتشف الظواهر المادية ويتابع تفسيرها، ليتعرف على سننها وقوانينها ويسخرها في خدمة الحياة البشرية.
وإذا كانت وظيفة الدين في أن يفسر الحياة وينظمها بشرائعه السماوية ويوضح مقصد وجودنا فيها، فإن وظيفة الفن والأدب في أنه يكشف لنا جدوى هذه الحياة، وقيمة حقائقها لدى نفوسنا، ومدى إشباعها لمشاعرنا وفطرتنا وطموحنا فيها، من خلال (قيمة حقائقها في قلوبنا والموقف القلبي منها) بما يملك من الوسائل الذكية الجميلة المحببة إلى نفوسنا.
وأما حديثنا عن مصطلح المعرفة: فنقصد به العلاقة القائمة أثناء عملية الإدراك بين عقولنا وقواها وأنشطتها من جهة، وبين حقائق الوجود والحياة أو أوامر الوحي من جهة أخرى.
وفيما يخص الظاهرة الأدبية: فنحن نقصد بالذات متابعة عملية الإبداع الأدبية، وكيفية هضم العالم معرفيّاً عند الأديب، من خلال متابعة تنقل عملية المعرفة في قنوات عقله ومحطاته وخياله وتعرفنا على مسارها العام، من بداية تحرش الحياة بعقله حتى لحظة ميلاد النص ومن خلال المعرفة كما يطرحها القرآن الكريم.
وهنا يثور سؤال في النفوس: وما الهدف الذي نسعى إلى تحقيقه من وراء هذا النهج؟
أما الهدف فهو التفسير، وأما الفائدة التي نتوخاها من وراء تفسير الظاهرة الأدبية، فهي أن عملية التفسير تلك، سوف تساعدنا في كشف خبايا التجربة الأدبية، فتكشف لنا مراحلها والعوامل المؤثرة فيها، و خاصة عندما نفسرها من خلال منظور المعرفة كما وردت في القرآن الكريم، لأن هذا التفسير الإسلامي سيضيء لنا جوانب كثيرة، ويجعل لنا وجهة نظر مستقلة في التجربة الأدبية على عمومها، مما يتيح لنا قدراً من الوضوح والمنهجية التي تخدمنا في مشروعنا الإسلامي للنظرية الأدبية التي ندعو إليها.
أضف إلى ذلك أن الكشف عن أسرار الظاهرة الأدبية في نفس المبدع وفي ساحات وجدانه، يشكل مدخلاً مهمّاً في التأسيس لقضايا النقد الأدبي في جميع جوانبه النظرية والتطبيقية، حيث نتعرف على كيفية تكوين الرؤية عند الأديب وكيف يستوعب العالم معرفيّاً، وكيف تتحول المعرفة إلى قيمة وموقف داخل وجدانه، وكيف يتحول هذا الموقف إلى نص أدبي في المراحل التالية لذلك، وبذلك نزداد عمقاً في التعرف على العوامل المؤثرة في ميلاد النص والتحولات التي ترافق ذلك، وتمتد بنا المعرفة حين ندرك أهمية هذه العوامل: كالموهبة والمراس والثقافة لأنها ترفد العمل الفني (النص) بالمرونة والعمق وحسن الإبداع، ويساعدنا في التعرف على مراحل ما بعد ميلاد النص كالعلاقة بين المبدع والمتلقي وأسرار ذيوع الأدب أو اضمحلاله.
ومحاولة تفسير الظاهرة الأدبية ليست قضية جديدة، فقد حاولته العقول في معظم الآداب العالمية، وحاولته العقول في أدبنا العربي قديماً وحديثاً، وكذلك محاولات إخواننا من دعاة الأدب الإسلامي.
لكن الجديد هنا، هو رغبتنا في الخروج من سيطرة التفسيرات الفردية والاحتكام إلى منهج القرآن الكريم في إضاءة هذه الظاهرة من خلال المعرفة القرآنية وكذلك الخروج من براثن التفسيرات التي قدمت إلينا مع بضاعة التبعية والاستعمار الثقافي، وتهدف من وراء ذلك إلى الاجتهاد في السعي لتدريب عقولنا على التمرد على حالة القمع التي يمارسها دعاة العلمانية الأدبية على خيالنا، بدعوى الواقعية، لمنعه من الالتحام والامتداد مع إحياء الفهم الإسلامي للقضية الأدبية وإجهاض مشروعه الأدبي.
ثم إنها متطلب منهجي لاستكمال رحلة التأصيل الإسلامي لهذه الظاهرة وتفسيرها في ضوء النص القرآني الذي نؤمن بضرورة تأسيس النقد الأدبي الإسلامي في جوانبه النظرية تحت مرجعيته، وخضوعاً لهديه وتفسيراً للحياة على نور حكمته.
المعرفة في القرآن الكريم
تناولت آيات القرآن الكريم المعرفة الإنسانية بعمومها وتفاصيلها، حيث أعطتنا صورة لحصول الوعي بعملية المعرفة من خلال المحطات الظاهرة للعقل (الحواس والدماغ والقلب) ثم تناولت تحول المعرفة إلى سلوك مقصود في أفعال الإنسان، وكذلك علاقة العقل البشري بالواقع الخارجي (عالم الشهادة) وما خلفه من حقائق (عالم الغيب)، ثم شدّدت الآيات الكريمة على شروط المعرفة الصالحة ومقصدها وهدفها، ثم تناولت إمكانية المعرفة وحدودها ومصادرها بتفصيل مذهل.
وليست مهمة بحثنا هذا في تقصي هذا الموضوع لأنه يحتاج إلى سِفْر ضخم حتى يغطي جوانبه، ونحن لا نزعم ذلك في بحث محدد الهدف كهذا، ولذلك سنقتصر من نظرية المعرفة في القرآن الكريم على المختصر المفيد، الذي يخدم هدفنا في تفسير الظاهرة الأدبية وتوضيح معالمها.
بعد هذا التمهيد يمكننا الدخول إلى عملية المعرفة في شواهد القرآن الكريم، وخير ما نبدأ به آيات كريمة من سورة آل عمران، تعطينا مشهداً كاملاً مترابطاً ومكثفاً لعملية المعرفة في جميع مراحلها، حيث يقول الحق تبارك وتعالى: {إن في خلق السماوات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب.
الذين يذكرون الله قياماً وقعوداً وعلى جنوبهم، ويتفكرون في خلق السماوات والأرض، ربنا ما خلقت هذا باطلاً، سبحانك فقنا عذاب النار} [آل عمران: 190-191].
والذي يدقق النظر في هذا المشهد، يجد أنه جاء على صورة الإجمال العام للقضية ومسارها المنتظم المتدرج، وبوضوح تام من خلال المراحل الأربع التالية:
1.مرحلة التفكير: وقد ورد بصيغة الفعل {يتفكرون}.
2.مجال التفكير: وقد حددته الآيات الكريمة {في خلق السماوات والأرض}.
3.نتائج التفكير: وقد وردت بصيغة نفي العبثية عن الكون من خلال {ربنا ما خلقت هذا باطلاً}.
4.حكم القلب وقيمة الحقيقة من خلال موقفه الذي يلهج بالدعاء {سبحانك فقنا عذاب النار}.
معالم النظرية