قراءة في كتاب "مِن بين الصّخورـــ مرحلة عشتها"
وهو سيرة ذاتيّة للكاتب الروائيّ جميل السلحوت، الصّادر عام 2019 في طبعته الأولى عن مكتبة كلّ شيء حيفا.
العنوان (من بين الصّخور) جاء شبه جملة، مِن حرف ابتداء، دخلت على الظرف (بين) المضاف إلى الصخور، وللابتداء والبينيّة هناك متعلّق محذوف قد يكون الفعل خرجت من بين الصخور، أو الخروج من بين الصخور، والإيحاءات كثيرة، فيوحي بأنّ هناك حياة بين الصّخور، وهناك صخورا تعترض هذه الحياة، خرج من بينها صاحب السّيرة إلى مرحلة أو حياة مختلفة، ويوحي العنوان بأنّ الكاتب صاحب السّيرة قد تحدّى وكافح في سبيل هذا الخروج، وأنّه لم يستسلم للظّروف الصّعبة التي اعترضته، ومهما تكن الدّلالة فإنّ العنوان يجذبك للقراءة، ويثير أسئلة كثيرة: كيف خرج من بين الصخور؟ إلى أين خرج؟ وماذا كان بعد الخروج؟ وغيرها، وعلى أيّة حال وكما في أشواك البراري، يهدي الكاتب قارئه تجربة حياة، ودروسا مؤثّرة.
وتمثّل هذه السّيرة المرحلة الثّانية من حياة الكاتب، التي تمتدّ من سنّ الثّامنة عشرة، وقت انتهائه من مرحلة الدّراسة الثّانويّة في أثناء هزيمة عام 1967 وسقوط القدس بيد يهود، إلى عام 2018 تقريبا، أمّا المرحلة الأولى من حياته والتي تمتدّ من الميلاد عام 1949 حتى عام 1967 فقد جاءت في كتاب سيرته الموسوم بأشواك البراري، وقد وُفّق الكاتب في تقسيم هذه السّيرة إلى مرحلتين، ليس من جهة التّسهيل على القارئ وجذبه وحسب، بل من جهة التّقسيم المنطقيّ، فهناك انتقال شخصيّ ملحوظ من مرحلة الطّفولة إلى مرحلة الرّجولة، ففي المرحلة الأولى كانت الأحداث تصنعه، وهذا بخلاف المرحلة الثّانية مرحلة الرّجولة التي يصنع فيها نفسه، وكذلك من جهة الحدّ السّياسيّ بين المرحلتين الذي رسمته هزيمة حزيران وسقوط القدس وباقي فلسطين في أيدي المحتلّين، ومن جهة الاختلاف النّوعيّ بين الحياتين في جانبيهما الإيجابيّ والسّلبيّ على حدّ سواء.
والذي لا يعرف الكاتب شخصيّا، وقرأ سيرته أشواك البراري، لا بدّ أنّه توقّع أن تُخرّج تلك الحياة القاسية الموسومة بأقسى وصف (أشواك البراري)، رجلا صاحب سيرة تستحقّ التّوثيق، ففيها تجارب حياتيّة ثرّة، جديرة بأن تنقل لأجيال قادمة، وفيها تصوير لحياة شعبه من جوانب كثيرة. ومن النّاحية الموضوعيّة يجد القارئ أنّ كاتبها نقل لنا أحداثا عاشها وتجارب وظروفا مرّ بها تعكس شخصيته، فتجده شاهدا شهادة حيّة مباشرة على القدس في أثناء الحرب، وفي الأيام الأولى لوقوعها تحت الاحتلال، يسجّل الأحداث التي لم يسجّل تفاصيلها المؤرّخون، ويرصد نتائج الهزيمة، ويقف على مفاصل في الأحداث عاشها بشخصه وعاينها عن كثب، ينقلها بموضوعيّة، يصحبها انتماء يتجسّد في مشاعر من الأسى والحزن والرّفض للواقع الجديد، ووعي على ما يدور بعيدا عن الانفعال وثورة المشاعر والشّعارات، ويتجلّى ذلك أكثر ما يتجلّى في مشاهداته وانطباعاته لمّا زار الجزء المحتلّ من القدس عام 1948. وراح يوازن بين شطري القدس، واللذين سُمّيا القدس الشّرقيّة والقدس الغربيّة. ثمّ ينتقل بنا الكاتب إلى جزء مهمّ من سيرته هو الاعتقال، واللافت للانتباه أنّه جهد في تصوير حياة السّجون الإسرائيليّة آنذاك بتفاصيل دقيقة من خلال تجربته الشّخصية، دون أي إدلال أو تمسّح بهذا التّاريخ وهذه الأحداث؛ ليظهر نفسه مناضلا سياسيّا، فلم يذكر التّهمة التي وجّهت له، ولم يذكر أسباب الاعتقال، ولم يشر إلى عمل نضاليّ مارسه بعد الاحتلال. مع أنّ جذوره العائليّة والبيئة التي عاش فيها، سواء في جبل المكبر أو جبل المنطار في بريّة القدس حيث اعتقل من هناك، تقول ذلك، فقد كان فيها حراك نضاليّ مشهود، أضف إلى تأثره الشّديد بسقوط القدس الذي بلغ حدّ الأسى، فليس ببعيد أن يكون له باع نضاليّ لا يرى ضرورة لذكره.
ويتحدّث الكاتب عن مرضه الذي كان سببه الاعتقال وظروف السّجن. ثمّ يأخذ الكاتب في الحديث عن عمله في أرضه، فيأتي على ذكرها مرّتين الأولى بعد الحرب مباشرة، والثّانية بعد الخروج من السّجن، بل يعدّ زراعتها بالزّيتون عام 1986 تاريخا في سيرة حياته جديرا بالذّكر، ويعكس هذا انتماء صادقا، وموضع فخر لديه.
وينتقل الكاتب إلى رحلته في طلب العلم، التي استغرق الحديث فيها ما يقارب الأربعين صفحة، والتي انتهت بحصوله على درجة الليسانس في اللّغة العربيّة، واللافت في هذه أيضا أنّه غلب عليه فيها حديث الرّحّالة، فوصف الجسور، والأردن، والمناطق التي مرّ بها في سوريا، والتي نزل بها في لبنان، وكذلك مصر وبخاصّة الإسكندريّة، وصف الأمكنة بدقّة ووصف وقعها الجميل في نفسه كما في حديثه عن الرّوشة في لبنان، وصف النّاس من أهل البلاد أو من غير أهلها، ووصف الطّعام كما في حديثه عن وجبة الضفادع، وذكر العادات والتّقاليد للنّاس كحادثة استضافة الشّرطيّ المصريّ له ولزميله، وتناول بعض القضايا السّياسيّة في ومضات مركّزة وواعية كحديثه عن تدمير القطاع العامّ في عهد السّادات. ولم يكن له حديث عن العلم في تلك البلاد ومستواه وأنماطه، ولم يتحدّث عن أساتذته هناك وغير ذلك، وقد يعزى بعض ذلك لكونه منتسبا للجامعة وليس منتظما في الدّراسة فيها.
ثمّ تجد الكاتب يتحدّث عن عمله في الصّحافة، وفي التّدريس والعمل في البناء، ثمّ يأتي الحديث الطويل عن أدبه تحت عنوان (أنا والكتابة) لتجد نفسك أمام شخصية أدبية فذّة، كتب فأبدع في فنون أدبيّة شتّى، منها المقالة والقصّة والرّواية وأدب الأطفال وأدب الرّحلة، وفنّ السّيرة، وتوثيق التّراث، وتجد له أنشطة أدبيّة كبيرة أهمّها أنّه من مؤسّسي ندوة اليوم السّابع والتي بلغت من العمر العام الثّامن والعشرين، وما زالت قائمة وتعقد مرّة في الأسبوع، وهي معلم ثقافيّ من معالم القدس. ومن خلال سيرته الأدبيّة الفنّيّة نجده يؤرّخ للحركة النّقابيّة الأدبيّة في الأرض المحتلة، من مثل رابطة الكتّاب الفلسطينيين، والتي كان مركزها مدينة القدس، وكان من مؤسّسيها، وكان فيها فاعلا، وبهذا يعدّ علما من أعلام الأدب العربيّ والفلسطينيّ، وقامة من القامات الأدبيّة في مدينة القدس. ومن خلال حديثه عن عمله في الصّحف المقدسيّة تجده مؤرّخا لتاريخ الصّحافة ورجالها في القدس في ظلّ الاحتلال.
ثمّ يأتي الكاتب على الحديث عن بلاد زارها، ومنها الاتّحاد السّوفييتيّ حيث ذهب للعلاج، فجاء على أحداث وأمور وقضايا بتفاصيل دقيقة، يفهم منها أنّها أثّرت في نفسه فانطبعت في ذاكرته.
يتحدّث عن جهوده الأدبيّة خارج فلسطين، ومنها زيارتاه الثقافيتان للسّعوديّة والجزائر. لا تراه يتحدّث فيها عن حضوره بالقدر الذي تحدّث فيه عن مضيفيه والمكان والشّعوب والعادات، والتّطوّر العمرانيّ والمدنيّ، والحياة الفنّيّة الثّقافية في تلك البلاد. ويأتي على ذكر مَن التقاهم، ويتحدّث طويلا عن زملائه ممّن صحبوه في تلك الرّحلات، يمتدحهم ويمتدح عطاءهم. وقد خصّ مدينة قسنطينة الجزائريّة بحديث ماتع طويل في التّاريخ والجغرافيا والتّراث والأهمّية.
أمّا أميركا التي زارها أكثر من خمس وعشرين مرّة لزيارة ابنه قيس وإخوته وبعض أبناء عمومته، فبدا أنّه معجب بالحياة أو النّمط المعيشيّ فيها، مأخوذ بأمور تعكس نظرته لبعض الجوانب الحياتيّة، ويحاول أن ينقلها لقارئه، تدرك ذلك من المشاهدات التي اختارها، ابتدأ الحديث بعنوان فرعيّ (من غرائب أميركا) تحدّث فيه عن جماعة دينيّة اسمها (أميش)، عن معتقدهم وثقافتهم وأفكارهم ونمط حياتهم وارتباطهم بالزّراعة وغير ذلك، وكأنّه يريد أن يقول أنّ هناك أشياء كثيرة لا نعرفها عن المجتمع الأمريكيّ، ثمّ ينقل لنا أنموذجا عن المسرح هو مسرح شكسبير في شيكاغو، فيتناول شكل المسرح، وموضوع المسرحيّة، والحضور، وتشجيع المسرح إذ تخفّض أسعار التّذاكر لمن هم دون سن الخامسة والثّلاثين تشجيعا لهم. ثمّ يتحدّث بإعجاب عن الحدائق والمتنزّهات نظافتها ونظامها ومكتباتها، ويقودنا في حديثه عن المكتبات العامّة في المتنزّهات إلى المطالعة التي هي جزء من المناهج المدرسيّة هناك، وصناعة كتب الأطفال وقصصهم، ويعرّج بنا على حضانة الأطفال، والتّسوّق في الأعياد، ويطعّم حديثه هذا بمعلومات تاريخية عن أصل عيد الشّكر، أو بعض الطّرائف التّراثيّة لدى الأمريكان كحديثه عن فريق الدّيسم.
ويفرد عنوانا مستقلّا لحياته الزّوجيّة التي لم تخل من الأسى في زواجه الأوّل، ويتحدث بإيجاز عن أبنائه وتحصيلهم العلميّ. وبعيد ذلك يتحدّث عن توجهه الفكريّ، ويوثّق فيه تاريخ التّعلّيم في بلدته، وتعرّفه على بعض الحركات، وتأثّره بالفكر اليساريّ، ولا يشير لأيّ انتماء حركيّ أو حزبيّ. ويفرد عنوانا لشخصيات أدبيّة التقاها من مثل الشّاعرة فدوى طوقان، الأديب محمود شقير،الرّوائي إميل حبيبي، الروائيّة ديمة السّمّان، الشّاعر سميح القاسم، الشّاعر توفيق زيّاد، ويذكر كيف تعرّف إليهم، ويسرد تفاصيل بعض لقاءاته بهم. ويختم الكاتب سيرته بذكريات طريفة في تاريخه الصّحفيّ والأدبيّ أو التعليميّ أو رحلاته.
ومن خلال هذه القراءة المتأنّية لسيرة الكاتب وقفنا على ملامح أسلوبه في كتابة السّيرة، فهي فنّ آخر من الفنون النّثريّة التي طرقها، من مثل فنّ المقالة السّياسيّة والاجتماعيّة، والرّاوية، وأدب الأطفال، وأدب الرّحلة، والأدب التّأليفيّ من مثل كتاباته في التّراث، والقضاء العشائريّ، وغيرها. ووجدنا في سيرته هذه أوّل ما وجدنا اللّغة السّلسة البعيدة عن التكلّف، والتي تناسب جميع المستويات، فلا يستصعبها القارئ العاديّ ولا يستصغرها أو يملّها المثقّف، فهي تنفي الألفاظ الغريبة وتستبعد التّصوير المتكلّف، فلا تجده يُعنى بالأساليب أو العبارات أو الألفاظ التي يلجأ إليها بعض كتاب السّيرة؛ ليظهروا التأنّق الفنّيّ، فمع كاتبنا تسافر في سيرته دون أن تتعثّر بلغته أو تتنكّب الطّريق بأساليب أو تراكيب لغويّة ملتوية. بدا كاتبنا في سيرته رحّالةً؛ ذلك لاهتمامه الشّديد بنقل مشاهداته وبخاصّة في رحلاته خارج البلاد التّعلّميّة أو الثّقافيّة أو العائليّة. فقد نقل الكثير من التّفاصيل للبيئات التي مرّ بها الطّبيعيّة منها والبشريّة ممزوجة بومضات تاريخيّة وجغرافيّة وتراثيّة، ونقل مشاهدات لافتة ماتعة نافعة.
وقد بدا لميوله الثّقافيّة والأدبيّة أثر في اختياره لتلك اللّحظات من سيرته، فعلى سبيل المثال تراه تحدّث طويلا وباهتمام وإعجاب شديدين عن المكتبات والمطالعة والحضانة في أميركا، فكان لافتا له أنّ الأطفال هناك لا يمزّقون الكتب. وتحدّث عن المسرح ووصفه بدّقة. ويتبيّن أنّه يقصد نقل تجربته في الحياة ومشاهداته للقارئ، وهذه من فوائد ومقاصد السّير ابتداء، ولكنّه في هذه السّيرة ليس مقصدا ضمنيّا، بقدر ما هو مقصد ظاهر، وقد رأيت لسان حال سيرته يقول: هناك بين الصّخور منافذ للانطلاق والتّحليق واكتشاف النّفس واختيار الطّريق. امتازت سيرة الكاتب بأن تضمّنت الكثير من اللّحظات الطّريفة الشّائقة، وكأنّها محطّات استراحة للقارئ، وختمت السّيرة بباقة من هذه الطّرائف، ويبدو أنّ في سيرته أيضا لا يريد أن يفوّت لحظات من الأدب السّاخر الذي يجيده، وله منه كتابان (حمار الشيخ) و(أنا وحماري). ومن الإبداعات الشكليّة للكتاب كثرة العناوين الفرعيّة؛ فإنّ لها أثرا كبيرا في القراءة المريحة، ونفي الملل عن القارئ، وفي نهاية المطاف وجدت الكاتب مسكونا بقضيّة الأدب، الأدب الملتزم بقضية الوطن وأهله في جوانبه المختلفة، وما تعلّق بالأدب من مطالعة وثقافة، ومسكون بجمال المكان، ومعرفة أنماط خفيّة من حياة الشّعوب وثقافاتهم، يهديها للقارئ تثقيفا وتنويرا. وفي لحظات كثيرة لا تجد أثرا لشخصيّته أو (الأنا) في حديثه إلا بتمعّن وتدقيق وفي إطار عامّ هو أنّه ينقلها هو نفسه ومن تجربته ومشاهداته.
وسوم: العدد 851