السيرة النبوية – الصحوة – النهضة ) 8 الشمولية العقيدية ج2
ولكن دعاة هذا القرن، ظنوا أنهم قادرون على النزول بالإسلام إلى واقع التطبيق، من خلال علوم التفسير مباشرة، مما أوجد حالة من الفوضى والتخبط، سببه النزول إلى الواقع من خلال مقاصد الآيات المتناثرة والمبثوثة هنا وهناك، لم يقم الدعاة بنقلها إلى مرحلة الضبط، وكانوا بحاجة إلى علم جديد، يضبط العلاقة بين علم التفسير وبين التطبيق في الواقع، وهذا العلم هو "علم الفهم " وهو علم ليس اقل قيمة من علم التفسير، بل هو العلم الذي ينظم جهود علماء التفسير في القرآن والسنة بأسلوب متخصص، ويقوم على تقسيم مقاصد الخطاب القرآني والنبوي، في علم التفسير وفي فقه السنة إلى قضايا متخصصة، فيجمع شواهد كل قضية جمعاً كاملاً، لا ينسى منها شاردة ولا واردة، ويستخرج منها فهماً علمياً متناسقاً يمكن أن يسمى "نظرية أو نظام الإسلام" في القضية كذا، وتكون وظيفة هذه النظرية، تفصيل خريطة هذه القضية، ووضع جميع شواهدها على " الخريطة الشاملة " لنضمن أفضل الطرق العلمية في فهم القرآن والسنة، هداية للعمل، وتعويضاً لأنفسنا عن تصويب السماء، الذي كان يتابع تجربة الإسلام الأولى.
فالأصل أن تُجمع نصوص القضية الواحدة، من القرآن الكريم، والسنة الشريفة، والتطبيقات الإسلامية لها، ويستخرج منها نظرية شاملة، تحدد العام وتفصل الخاص، وتبين فروق التطبيق بين واقع وآخر، ووجوه الاستثناء.
وهذا هو المخرج العلمي الوحيد، لأنَّ علم التفسير علم عام يناقش تفاسير العلماء، للآيات في مواقعها من القرآن الكريم، فقد تتواجد آيات كثيرة لموضوع واحد، في عدة سور، والأمثلة على ذلك كثيرة وواضحة، آيات الاقتصاد الإسلامي، آيات النفس، آيات التاريخ وسنن الاجتماع البشري، آيات التربية، آيات السياسة الشرعية...
ولذلك كان الخلل كبيراً؛ عندما أخذ كثير من الدعاة ينزل إلى الواقع، وهو يعتمد الآية أو الآيتين أو اكثر مع بعض الأحاديث في التربية مثلاً، ويظن في نفسه، أنه أقام منهجاً للتربية الإسلامية، وقد نسي عشرات الآيات " في نفس الموضوع، التي لو فطن لها لأدرك المنهج أو النظرية إدراكاً شاملاً، ولكنه بأسلوبه هذا، جعل فهمه لا يغطي خارطة المقاصد فأصبح فهمه مشوهاً وقاصراً يقوم على الانطباع السريع. وهذا الحال، أوقع الدعاة على اختلاف تياراتهم في الفقه المتضارب، والإفتاء المتعسف، الذي يعيش على الذاكرة والمزاج، والذي تكون فتواه على شاهد أو شاهدين أو اكثر، مما أوجد حالة مرضية في التطبيق يمكن أن يطلق عليها اسم " الشمولية الفوضوية ".
إنها شمولية تنزل بالإسلام، إلى الواقع من خلال مقاصد متناثر، وغير مترابطة، ودون جمع كامل لشواهد القضية الواحدة، وتحكم المزاج والانطباعية في فهم الإسلام، دون تمييز بين العام والخاص والشمولية والجزئية والجانب الشرعي والجانب التخصصي للقضية الواحدة، لأنها مرحلة سيطرة " المفكر العام " وغياب " الفقيه النظري المتخصص " ولذلك وقعت الصحوة الإسلامية في حالة من الفوضى، في الفهم والتطبيق، واختلاط في المراحل العلمية: النظرية، والتنفيذية، وحالة الجماعات الإسلامية واختلافها في الفهم، وتضاربها في التطبيق، هو أكبر دليل على ما نقول؛ لأنهم لا يملكون تصوراً نظرياً واضحاً شاملاً عن إسلامهم، قبل النزول به إلى واقع التطبيق، وكان حصاد هذه الفوضوية واضحاً في الصحوة الإسلامية في الظواهر التالية:
1- عمل كثير، وثمار قليلة، وضعف متراكم، عند جميع التيارات العاملة في حقل الصحوة دون استثناء.
2- إنجازات مبعثرة، لا تخدم مرحلة معينة، وتتفرق في جميع المراحل، مما يضعف قيمتها، ويقلل فرص الاستفادة منها.
3- اختلاط الأولويات والغايات والأهداف، وضبابية الرؤيا، وكثرة المخاطر والفجوات، والتخبط الذي يوصل إلى الإحباط.
4- فقدان القدرة على التفسير والتعليل العلمي، والوقوع في السطحية والضياع بين العام والأعم منه، كمن يسبح من نهر إلى بحر، ومن بحر إلى محيط.
5- الوقوع في حالة الانفتاح الفوضوي الضعيف، وضياع الثوابت والمبادئ، أثناء التعامل مع الآخرين، والخضوع لمثاقفة الأقوى، من خلال خلط النظريات العلمية الغربية مع الإسلام، تحت اسم الانفتاح والبحث عن ضالة المؤمن " الحكمة ".
6- غياب الأساليب العلمية الإسلامية (المستخرجة من القرآن والسنة) في العمل، والاحتماء بالأساليب الفطرية الفوضوية مثل (الفزعة، العونة، المساعدة، النخوة، الارتجال، الاستجداء...) بينما كانت الفزعة والعونة... في البناء الإسلامي الصحيح والسليم، مكملات تفيد العمل، أَصبحت هنا هي الأساسيات، واصبح العمل القائم على العلم أمراً ثانوياً يعود إلى رغبة الأفراد.
7- العيش تحت وهم الإنجازات والانتصارات، وتضخيم الذات، والهروب من النقد، ودفن الرأس في الرمال خوفاً من " جلد الذات " كما يزعم الزاعمون، مع علمنا أن الاعتراف بالحق أولى من التمادي في الباطل، والتوبة إلى الله من الأخطاء أفضل من مدارة الهوى وإتباع النفس.
وسوم: العدد 867