حالات السيد صابر -للكاتب السوري الراحل ( شريف الرأس)
قصة من الأدب السياسي الساخر، تتضمن ثمانية عشر مشهدا فنياً ساخراً تعالج في مجملها قضية أساسية في حياة الإنسان وهي قضية الحرية! وأول هذه المشاهد كان بطله السيد صابر فقعتوني، الذي اختاره المؤلف ليكون محور هذا العمل الفني، وهو حلاق بسيط، أفرج عنه بعد سنة من الاعتقال خطأً، مع عدد من الصحفيين! ولم يكد يهنأ بنعمة الحرية حتى رن جرس الهاتف في بيته، وكان على الخط ضابط، طلب من صابر أن يراجع مكتب الأمن في صباح اليوم التالي، من دون أن يذكر اسمه أو عنوانه!
وهكذا تبدأ رحلة السيد صابر بين مراكز الأمن المختلفة، بادئاً رحلته من مكتب الأمن الداخلي، إلى مكتب الأمن الخارجي، مروراً بمكتب الأمن البحري، وانتهاء بمكتب الأمن الغذائي، وهم يؤكدون له في كل مكتب من هذه المكاتب أنهم لا يطلبون أحداً بهذا الأسلوب! وأنهم لو أرادوه لداهموا بيته على الفور. وتخلل هذه المشاعر لقطات ساخرة لأناس آخرين في أماكن أخرى فالمثقفون المهاجرون طلباً للحرية وراء البحار يستبد الشوق بأحدهم إلى بلده، ويبدأ في طريق العودة لخدمة الوطن، ولكن لا يطول به المقام إذ تتبدد أحلامه منذ لحظة وصوله إلى الحدود من خلال الإبتزاز والحواجز. فيقفل راجعاً من حيث أتى. ومشهد أخر لطفلين فقيرين حافيين تستأجرهما إحدى السيدات المشاركات في مؤتمر الطفولة، ليحملا لها لافتة كتب عليها (المؤتمر الحادي والعشرون للطفولة السعيدة)!
بل إن الأمر يبدو أشد صعوبة، والصورة أكثر قتامة، عندما يصل الأمر إلى المتاجرة بدماء الشهداء الذين دافعوا عن أمتهم وكرامتها وحريتها، كما في هذه اللقطة (طفلة صغيرة والدها شهيد)، تسكن المقابر مع جدتها. لماذا؟! يَسألُها صحفي تبدو عليه النباهة: هل تلعبين بين القبور؟ فتجيبه: وهل هناك ملاعب؟! وحين يغضب الزعيم –كما في هذا المشهد- على وزرائه لأنهم يخفون عنه الحقيقة ولم يبينوا له سبب كره الشعب له، يتجرأ أحدهم قائلاً: الشعب يريد الحرية -يا مولاي- فيذعن الزعيم ويسلم للإرادة الشعبية، ويصرح: إنني قررت أن أمنح شعبي الحرية! اكتبوها في كل مكان في الشوارع وعلى الجدران... ويبدأ التنفيذ..حتى إن وزير السجون يزور أستاذه شكري (مدرس الجغرافيا) في المعتقل، ويسلم عليه ويرحب به ثم يعتذر إليه بلطف، ويقول: اطلب يا أستاذ شكري ما تشاء؛ لكن لاتحرجني بطلب الإفراج عنك فأنا كما تعلم وزير السجون ولست وزير الإفراجات! فيقدر الأستاذ شكري للسيد الوزير هذه الشفافية، فيقول وهو يشير بيده إلى خريطة الوطن العربي الكبير خارج الزنزانة: أرأيت هذا الوطن ما أطوله وما أعرضه؟ إنه كما تعلم أكبر من قارة أوربا كلها. كل ما أريده هو أن تعطوني من أرض هذا الوطن الواسع جداً ستين سنتيمتراً فقط؛ لأن هذا عرض كتفي، لعلي أستطيع النوم مستلقياً على ظهري! فيعتذر الوزير فالمكان مزدحم.
ثم يصل الكاتب بالسيد صابر إلى السجن مرة أخرى، لا بتهمة الصحافة هذه المرة، فقد قبض عليه الأمن اللغوي بتهمة الخيانة؛ لأنه كتب على دكانه كلمة (كوافير) بدلا من (حلاق)، وهذه الكلمة أجنبية! (مجلة الإصلاح "دبي" العدد 290 – 2/6/1994م – عبد الكريم حمودي).
عالج الكاتب قضية أساسية من خلال مشاهد تتكرر هنا وهناك بأسلوب ساخر، وخفة ظل، وهذه البراعة التي ظهرت في اسقاطاته على الواقع ،لم يكن المقصود منها السخرية فحسب، ولكنها رسالة ملتزمة بقضايا الأمة والإنسان. ولعل في مذكرات الكثيرين وأعمالهم التي تنشر حيناً بعد حين عن الأنظمة الجبرية والحكومات القهرية، عجائب وغرائب هي من الواقع الذي استمد منه الكاتب وغيره، كما في "رسائل من نفاقستان – ولهان والمتفرسون – خميس في بلاد العجائب" وكل ما فعله الكاتب أنه عندما سيم خطة خسف أو رأى أبناء أمته يسامونها قال: لا (ساخرة)، في حين قال آخرون: لا (غاضبة)! وفي كليهما رفض للظلم والقهر ، ولو كان في حد أضعف الإيمان.
وسوم: العدد 930