سيّدنا عمرو بن العاص في نظر الأستاذ عباس محمود العقاد
الكتاب: عباس محمود العقاد: "عمرو بن العاص"، صدر الكتاب أوّل مرّة سنة 1944، مؤسسة هنداوي، طبعة 2014، من 161 صفحة.
مقدمة القارىء المتتبّع:
كلّ المحبّة، والتّقدير، والاحترام لصديقنا محمد عبد العزيز ، الذي وضع النسخة بين يدي.
أقول: يرى الأستاذ عباس محمود العقاد، في صدر الفصل الثّاني، أنّه يجب قراءة النشأة، والصفات، والطبع أوّلا ثمّ السّعي لفهم السّلوك والأعمال. ومن قدّم وأخّر، فقد أساء فهم الشخصية، وصعب عليه فهمها. وطبّق العقاد قاعدته باقتدار، وبراعة فائقة.
أقول: لكي يفهم المرء شخصية سيّدنا عمرو بن العاص، لابد أن يكون عملي، حتّى لايبدو -لغير العملي-، أنّها شخصية متناقضة.
أقول: من مفاتيح فهم شخصية سيّدنا عمرو بن العاص، أنّه تاجر. لأنّه لم يتاجر عن فقر، ولا نزهة، ولا عبث. وأثّرت التّجارة في حياته تأثيرا بالغا، وظهرت نتائجها في حكمه، وسياسته، ومفاوضاته، ودهائه، والخلافة، والصراعات التي خاضها، والأحلاف التي مال إليها. فهو إذن تاجر قبل أن يكون السّياسي، والسّياسي الذي استفاد من التاجر ووظّف التجارة في دهائه. وبتعبير العقاد، فإنّ أسفاره التجارية، كانت من عوامل نجاحه البارزة في سياسته، ودهائه.
أقول: يتّضح من خاتمة الكتاب، أنّ العقاد يرد من خلال كتابه، على الغربيين وبعض الخونة من المصريين، الذين يتأسفون على زوال الدولة الرومانية، وزوال الكنيسة المسيحية في مصر. ويخاطبهم: من قال أنّ مصر دخلها الأجانب من العرب، فوجب القول: أنّ مصر دخلها الأجانب من المسيحيين.
العظيم في جاهليته عظيم في إسلامه:
امتازت تراجم العظام التي ترجم لها الأستاذ عباس محمود العقاد، ومنها هذا الكتاب الذي بين يديك، بكونه يربط بين فترة الجاهلية للشخصية المعنية، وفترة الإسلام من حيث عدّة نقاط. ويصل إلى نتيجة مفادها، أنّ خياركم في الجاهلية خياركم في الإسلام، والعظيم في الجاهلية عظيم في الإسلام. وسواء كانت ميزة سلبية أو إيجابية.
أقول: لاأعرف أحدا -فيما قرأت، ولغاية هذه الأسطر-، نافس العقاد في هذه النقطة، وقد تفوّق عليهم. وأعترف، أنّي قرأت - وأظلّ أقرأ للعقاد-، لهذه المقارنة الصّادقة الممتعة بين جاهلية الشخصية المعنية وفترة الإسلام، حيث أبدع العقاد في المقارنة، والاستنباط.
امتاز سيّدنا عمرو بن العاص، رحمة الله ورضوان الله عليه، بجملة من الميزات العظيمة وذكرها. ومنها الحكمة، والصلح بين النّاس، والدهاء، وسداد الرأي. وهذه المزايا العظيمة، امتاز بها سيّدنا عمرو بن العاص في الجاهلية، وظلّ يمتاز بها بعد إسلامه.
قال العقاد: كان سعيه للرئاسة والمال، باديا له في الجاهلية والإسلام. ومن شدّة افتخاره بنفسه، قال: "ولاية مصر تعدل الخلافة".
استعان به أسيادنا الخلفاء الراشدين، في حلّ بعض المشاكل الكبيرة لدهائه، وحسن الرأي الذي امتاز به، والمرونة الخارقة التي ميّزته، والمفاوض البارع المتفوّق. وهذه الميزات، امتاز بها في الجاهلية.
أجزم العقاد أنّ سيّدنا عمرو بن العاص، أسلم عن يقين وخالص نية، وأضاف: لكنّه أسلم بطبيعته التي فطر عليها، والتي ظلّت معه وهي الفخر، والاعتزاز بالنفس، والريادة، والسّيادة، وثقافة التاجر، والدهاء، والفطنة، والصّراحة، والحيطة، والحذر، والشجاعة، والبطولة، والتكامل بين السّرّ والعلن. وهذه الصفات ظلّت معه وهو يخوض المعارك، ويدخل الصراعات، ويفصل بين الخصوم، ويقيم التحالفات. وأعترف أنّ العقاد كان عظيما في هذه النقطة. لأنّه أظهر عظمة سيّدنا عمرو بن العاص في الجاهلية، والإسلام.
قريش تختار العظيم لأمر عظيم:
المزايات العظيمة لسيّدنا عمرو بن العاص، هي التي دفعت قريش لأن تجعله مبعوثها الخاص لدى النجاشي، لاستقدام المسلمين المهاجرين إلى الحبشة. حتّى أنّ العقاد قال: ليس من عادات العرب، أن يطالبوا بطرد الضيف. مايدلّ أنّ المهمة التي قام بها سيّدنا عمرو بن العاص، كبيرة في نظر قريش.
أقول: كتبت منذ مدّة حين تطرّقت لهذه النقطة، ولم أكن حينها قرأت للعقاد فيما يتعلّق بهذه النقطة، أنّ قريش تختار العظيم لأمر عظيم. وسيّدنا عمرو بن العاص كان عظيما، حين كلّفته قريش بجلب المسلمين المهاجرين، لأنّ هذه المهمّة العظيمة -في نظر قريش-، لايقدر عليها غير عظيم كسيّدنا عمرو بن العاص لدهائه، وحلاوة لسانه، وحكمته، وبعد نظره.
بشارة سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم لسيّدنا عمرو بن العاص بالفتح:
كلّف سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، سيّدنا عمرو بن العاص بمهام عظيمة، للميزات العظيمة التي امتاز بها في الجاهلية.
يرى العقاد أنّ تبادل الرسائل بين سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والمقوقس أو عظيم القبط كما سمي في تلك الرسائل، ساهم بشكل واضح في فتح سيّدنا عمرو بن العاص لمصر. وقد كرّر هذه المعلومة عدّة مرّات.
تحدّث العقاد عن أنّ أسيادنا الصحابة الذين فتحوا مصر، فتحوها وهم يحملون في صدورهم وذاكرتهم، الآيات القرآنية الكريمة التي تتحدّث عن مصر وفرعون، والأحاديث النبوية الشريفة التي توصي بأهل مصر، ومصر. وهذا هو الذي دفعهم للتعامل مع المصريين الأقباط برفق، ولطف، ودون إكراه. وفي الوقت نفسه تعاملوا مع الرومان المحتلين المغتصبين على أنّهم فرعون يجب التعامل معهم بالقوّة، والشّدّة اللاّزمتين في مثل هذه الظروف.
خصال سيّدنا عمرو بن العاص:
كانت تظهر على سيّدنا عمرو بن العاص، رحمة الله ورضوان الله عليه، علامات النباهة والسّيادة. وبدأ الفتوحات وهو في الخامسة والأربعين من عمره.
قال العقاد: كان سيّدنا عمرو بن العاص طموحا، ويأخذ بالأحوط والأنفع، ومالكا لزمام شعوره. أقول: وبالتّعبير المعاصر كان سيّدنا عمرو بن العاص واقعي، وعملي، وعقلاني، وغير عاطفي. مايعني أنّ سيّدنا عمرو بن العاص طبّق هذه الخصال في العقيدة حين أسلم، وفي الخلافة.
قال العقاد: كان سيّدنا عمرو بن العاص في خدمة طموحه، ويفضّل أن يكون غير شجاع حين لايؤدي ذلك إلى تحقيق طموحاته. مايعني -حسب قراءتي-، إذا وقفت على موقف لسيّدنا عمرو بن العاص، وبدا لك أنّه غير شجاع، فاعلم أنّه تنازل عن الشجاعة طواعية في تلك الحالة دون غيرها، لأنّها لاتؤدي إلى طموحاته. وقد ذكر العقاد أمثلة على ذلك.
أقول: من المواقف الجليلة التي وقفت عندها، وميّزت عظمة سيّدنا عمرو بن العاص ، أنّه هو الذي ظلّ يطلب خوض المعارك، وفتح البلدان، ومجابهة المهالك، ومحاربة أهل الردة، وتأديب الخارجين عن الدولة، بغضّ النظر عن قوّة العدو، وبعد المسافة، ومشاق الطريق، وصعوبة الظروف. مايعني، أنّ سيّدنا عمرو بن العاص، كان مقداما مهابا، ولم يدخل أبدا ومطلقا، معركة عن خوف ولا حياء، وتلك من عظمته وقدرته ومنزله.
قال العقاد: بقدر ماكان سيّدنا عمرو بن العاص، داهية يكبح هواه، كان في الوقت نفسه مجازفا نحو المهالك، كاقتحامه لحصون الأعداء والمبارزة، لكن ليس بحماس المتحمسين. فجمع بذلك بين النقيضين. مايعني -حسب العقاد-، أنّ الجمع بين النقيضين ليس من عيوب الشخصية.
أقول: ممّا فهمته من قراءتي، ولم يعلنه العقاد صراحة، أنّ المعارك والغزوات التي خاضها سيّدنا عمرو بن العاص، وكانت كلّها ناجحة بفضل دهائه الخارق، ومفاوضاته الناجحة، وحسن التغلغل، وبراعة الخروج من المأزق دون خسائر.
أقول: كان سيف سيّدنا عمرو بن العاص تبع لدهائه الخارق، وكانت معاركه تفصل بالدهاء قبل السيف. عكس سيّدنا خالد بن الوليد، الذي كان سيفه يسبقه، ولسيفه القول الفصل في معاركه.
سيّدنا عمرو بن العاص، وأسيادنا الصّدّيق وعمر بن الخطاب:
أقول: لم يكن سيّدنا عمرو بن العاص، ضمن السّتّة الذين اختارهم سيّدنا عمر بن الخطاب، رحمة الله ورضوان الله عليه، لاختيار الخليفة الذي يخلفه. والسؤال الذي لم يطرحه العقاد، وفهمت منه أنّه كان يودّ طرحه، وأطرحه نيابة عنه، وهو: لماذا لم يتم اختياره وهو الحكيم، وداهية العرب، والمفاوض الناجح، والقائد العسكري المهاب، والفاتح المغامر، والسياسي الماهر؟.
أقول: أسلم أسيادنا خالد بن الوليد، وعمرو بن العاص، رحمة الله عليهما ورضوان الله عليهما، في نفس اللّحظة من نفس اليوم. ومنح سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم الراية، والقيادة، ولقب سيف الله المسلول، لسيّدنا خالد بن الوليد، ولم يمنحها لسيّدنا عمرو بن العاص وهو القائد العسكري، ومنحه وظائف أخرى ، تتعلّق بالفطرة التي فطر عليها سيّدنا عمرو بن العاص، والخصائص التي تميّزه كالدهاء، وحلاوة اللّسان، وحسن تسيير المفاوضات، والقدرة على مواجهة النزاعات، والكفاءة في إيجاد الحلول للصراعات، وبراعة الإقناع. ونجح في كلّ المهام التي أوكلت إليه. ونال رضا سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، وجعله على رأس جند غزوة ذات السلاسل، وكان تحت إمرته حينها أسيادنا الصّدّيق، وعمر بن الخطاب، وأمين الأمّة. ونال رضا أسيادنا الصّدّيق، وعمر بن الخطاب.
أقول: تطرّق العقاد لنقطة، لطالما ذكرناها وكرّرناها، وهي: لم يزح سيّدنا الصّدّيق أحدا من منصب عيّنه فيه سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، والتحق بالرّفيق الأعلى وهو راض عنه. مايعني، أنّ سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم، التحق بالرفيق الأعلى وهو راض عن سيّدنا عمرو بن العاص، ولذلك أبقاه سيّدنا الصّدّيق في منصبه، وولاه مناصب أخرى تليق بعظمته، ولقي ربّه وهو راض عنه. وولاّه سيّدنا عمر بن الخطاب مناصب تليق بمقامه الرّفيع، ولقي ربّه وهو راض عنه. وهذه المكانة العالية السّامية، تحسب لسيّدنا عمرو بن العاص.
للأمانة، لم يتطرّق العقاد للمقارنة بين أسيادنا عمروبن العاص وخالد بن الوليد، إنّما هي من وضعنا، راجين السّداد والتّوفيق.
عرض سيّدنا عمرو بن العاص، على الخليفة سيّدنا عمر بن الخطاب فتح مصر، ووافقه على ذلك، وأعجب بانتصاراته، وأثنى على شجاعته، وحسن تدبيره، ومعاملته، وحكمته.
أقول: عزل سيّدنا عمر بن الخطاب، سيّدنا خالد بن الوليد ولم يعزل سيّدنا عمرو بن العاص، باعتبارهما أسلما في نفس اليوم.
سبق لسيّدنا عمر بن الخطاب، أن اقترح على سيّدنا الصّدّيق حين كان خليفة، أن يقيل سيّدنا خالد بن الوليد، ورفض سيّدنا الصّدّيق طلب سيّدنا عمر بن الخطاب، وأبقى سيّدنا خالد بن الوليد قائدا على جيش المسلمين، كما كان قائدا على جيش المسلمين في عهد سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم. وأوّل قرار اتّخذه سيّدنا عمر بن الخطاب، حين تولى الخلافة، هو عزل سيّدنا خالد بن الوليد.
عظمة سيّدنا عمرو بن العاص من خلال فتح مصر، وتعامله مع المسيحيين:
أقول: نقل العقاد، أنّ : سيّدنا رسول الله صلى الله عليه وسلّم بشّر بفتح مصر، وأوصى بأهلها خيرا. أضيف: هذه البشارة تنطبق لامحالة على القائد العظيم الذي فتحها وهو سيّدنا عمرو بن العاص، والخليفة سيّدنا عمر بن الخطاب.
أقول: أبدع العقاد حين اختصر فتح مصر في قاعدته الذهبية الخالدة، بقوله: يكمن الصراع بين المسلمين والروم، في أمّة ضيّعت كلّ ثقة في النصر من جهة، وأمّة ضيّعت كلّ شكّ في النصر من جهة أخرى
قال العقاد: فتح مصر نتاج: خليفة قوي يتمثّل في سيّدنا عمر بن الخطاب، وقائد وفاتح قوي يتمثّل في سيّدنا عمرو بن العاص، وصبر أمّة قويّة تتمثّل في أسيادنا الصّحابة، رحمة الله ورضوان الله عليهم جميعا.
قال العقاد: انتصر سيّدنا عمرو بن العاص على الروم، وهم أكثر منه عدّة، وعددا بثلاث مرّات، لفتح مصر بـ: عنصر المفاجأة الذي تميّز به، وأتقنه، وتفوّق به على الروم، وكان في كلّ مرّة يباغت الروم وينتصر عليهم، وخفّة الحركة، وقلّة الزاد، وسرعة الحصان العربي، والثقة، واطمئنان جيش المسلمين لسكان مصر من الأقباط، باعتبارهم كانوا من الرّافضين لحكم الروم.
أقول: فتح سيّدنا عمرو بن العاص مصر، بعد أن فتح فلسطين. فكان له شرف الفتح المزدوج -إذا صحّ تعبيري-، بالإضافة إلى نجاحه في غزوات، ومعارك، ومهام عظيمة أخرى.
أقول: يرى العقاد، أنّ عظمة سيّدنا عمرو بن العاص في فتح مصر، تكمن في كونه عرف مصرا فاتحا، ثمّ عرفها حاكما. أضيف: كانت عمارة مصر من طرف سيّدنا عمرو بن العاص عن محبّة، وإخلاص، وخوف عليها، ودفاعا عنها من عودة احتلالها من الأعداء، ولذلك نجح في عمارتها، واستصلاح النيل، وشقّ الطرقات المائية، ووضع مقاييس لمراقبة مستوى النيل، وتوزيع الثّروة بالعدل على أفراد المجتمع، بعدما نجح في فتحها وصدّ العدوان عنها.
قال: عامل سيّدنا عمرو بن العاص سكان مصر بالرفق والمودّة، وكان رحيما بالأقباط واليهود.
قال العقاد: حين فتح سيّدنا عمرو بن العاص مصر، رفض أن يصلي داخل الكنيسة وصلى خارجها، حتّى لايعتقد المسلم أنّها ملك المسلمين. وأعطى العهد والأمان لكلّ من يفضّل البقاء في مصر من أقباط مصر، وأعطى العهد والأمان للروم إن فضّلوا مغادرة مصر. واقتدى في ذلك بالخليفة سيّدنا عمر بن الخطاب. وأضيف: وهذا الموقف الخالد من مظاهر قوّة، وعظمة ووفاء، وصدق القائد الفاتح سيّدنا عمرو بن العاص وهو الحاكم، والفاتح، والمتغلّب، والمنتصر.
جاء في صفحة 116، أنّ المسيحيين في غزة، وبعدما اطمأنّوا لجيش المسلمين الذي يقوده سيّدنا عمرو بن العاص، تخلوا عن الروم لظلمهم وجبروتهم وانضموا للمسلمين. وطلبوا من سيّدنا عمرو بن العاص أن يقسّم الكنائس فيما بين المسيحيين بالمساواة، فقسّمها حسب عدد كلّ طائفة من المسلمين.
أقول: يتّضح من هذا الموقف الخالد، أنّ سيّدنا عمرو بن العاص عادل.
نقل العقاد عن بعض المؤرخين غير المسلمين، اندهاشهم من أنّ المسلمين لم يرغموا المسيحيين من أقباط مصر على اعتناق الإسلام، وتركوهم وشأنهم دون أن يتدخلوا في عقيدتهم ولا شؤونهم الداخلية، وهم يومئذ الأقوياء الفاتحين.
أقول: هذا الموقف الخالد، يدلّ على عظمة الإسلام في احترام غير المسلم، وعظمة القائد الفاتح سيّدنا عمرو بن العاص
تطرّق العقاد إلى عظمة سيّدنا عمرو بن العاص من حيث: كونه لم يفرض على المسيحيين الأقباط سوى دينارين في السنة، وأعفاهم من كلّ الضرائب، وأبقى الضرائب على الروم الذين فضّلوا البقاء في مصر، لكنّهم بقوا على عداوتهم للمسلمين، ومحاربتهم لهم.
ينفي العقاد جملة وتفصيلا، ادّعاءات بعض المؤرخين، من كون الأقباط المسيحيين أسلموا هربا من الجزية، واعتبر ذلك من الكذب وشهادة الزور، لأنّ سيّدنا عمرو بن العاص أبقى لهم حرية التصرف في مواردهم المالية المتعدّدة ولم يقربها، ولم يفرض عليها الضريبة. مايعني، كان لهم وافر من المال يغنيهم عن الدخول في الإسلام.
أقول بلسان العقاد: دخول الأقباط المسيحيين للإسلام كان عن إيمان ويقين، وليس هروبا من الجزية التي لاتساوي سوى دينارين في السنة ويعفى منها الطفل، والمرأة، والعاجز، والعجوز.
مصر قبل الفتح، كانت تعيش أحلك أيّامها تحت الاحتلال الروماني:
قال العقاد: لم يكن سكان مصر قبل الفتح الإسلامي لمصر، يرضون بحكم الإمبراطورية الرومانية، ولم تكن روما ترغب في حكم مصر لهزائمها المتكرّرة على يد الإمبراطورية الفارسية، وهجومات العشائرية الأوروبية الهمجية.
أقول: ممّا فهمته من العقاد، أنّ مصر قبل فتح سيّدنا عمرو بن العاص، كانت تعيش أحلك أيّامها، وفي جميع ميادين الحياة. ولذلك يعتبر العقاد ماقام به سيّدنا عمرو بن العاص، فتحا مبينا على مصر، وأهل مصر .
تحدّث العقاد وبالتّفصيل عن خيانة اليهود لمصر، وتقلّبهم بين المتغلّب من الحكام، والتملّق للحاكم المنتصر ضدّ الحاكم المنهزم. فخسروا الحاكم السّابق من الفرس الذي خانوه، وخسروا الحاكم الحالي من الروم الذي يعلم مكرهم وخيانتهم وخديعتهم. وأضيف: وهذه طبيعتهم قبل الفتح، وبعد الفتح، واليوم، وغدا.
قال العقاد: كانت مصر محتلّة من طرف الإمبراطورية الرومانية، ومحاطة بها عبر ليبيا، وشمال إفريقيا التي كانت محتلّة من طرف الإمبراطورية الرومانية.
نقل العقاد عن الناقد العسكري "فولر"، قوله: أنّ نظام الضرائب الذي فرضه سيّدنا عمرو بن العاص، كان ذا فائدة عظمى على المصريين، لأنّ الرومان أرهقوا المصريين بالضرائب الثقيلة، ومنعوا المسيحيين الأقباط من ممارسة دينهم، فجاء الفتح الإسلامي فألغى عنهم الضرائب الباطلة، وترك لهم حرية المعتقد، وممارسة شعائرهم الدينية، ولم يفرض عليهم الإسلام.
أقول: تكمن عظمة سيّدنا عمرو بن العاص، في: الحرية المالية، والحرية الدينية، التي منحها للأقباط المسيحيين في مصر.
رسائل بين أسيادنا عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص:
تطرّق العقاد للرسائل المتبادلة بين أسيادنا عمر بن الخطاب، وعمرو بن أبي العاص، وعرض نماذج منها. ويظهر من خلالها -وحسب قراءتي-: حرص كلاهما على توزيع المال بالعدل على مستحقيه، والحرص الشديد على حفظ المال من العبث. وبهذا يكون سيّدنا عمرو بن العاص أمينا على المال، وعادلا في توزيعه.
أقول: يظهر -لي- من خلال الرسائل، تلك اللّهجة القوية المتبادلة بين أسيادنا عمر بن الخطاب وعمرو بن العاص، حول كيفية تسيير مال المسلمين. وتظهر ثقة سيّدنا عمرو بن العاص في نفسه، وأمانته، وصدقه، ووفائه، وعزّته بنفسه، وأنّه الأمين، ومثله لايطمع في دينار، ويكفيه مايكفي أقلّ جندي من المال. وقد كان الغني صاحب التجارة والأموال في الجاهلية، وقبل الإسلام.
ممّا وقفت عنده -ولم يذكره العقاد-، أنّ سيّدنا عمرو بن العاص لم يتعامل مع سيّدنا عمر بن الخطاب فيما يخص كسب المال، وتوزيعه بالدهاء وهو داهية العرب، إنّما تعامل معه بالندية، والشفافية التّامة -بالتّعبير المعاصر-، وأنّك أمير وأنا أمير، وأنّك العادل وأنا العادل، وأنّك القائد القوي وأنا القائد القوي، وكما لاأرضى أن تتّهم في أمانتك وتسييرك للمال، فكذلك لاأرضى أن تتّهمني في أمانتي وتسييري للمال. وكلّ هذا في ثوب كلّه أدب الكبار، وأخلاق العظام.
أقول: تكمن عظمة سيّدنا عمر بن الخطاب، في محاسبته لسيّدنا عمرو بن العاص وهو: الفاتح، والقائد، والجنرال، والحاكم، وداهية العرب، والقوي، والغني، وصاحب النفوذ، والآمر والناهي، وقاهر الروم وهي أعظم دولة في العالم يومها، وفاتح مصر وفلسطين.
قال العقاد: كان سيّدنا عمرو بن العاص، من الولاة القلائل الذين طالت ولايتهم في عهد الخليفة سيّدنا عمر بن الخطاب.
أقول: هذه شهادة شرف، وتقدير لسيّدنا عمرو بن العاص، وبأنّه القائد الفاتح العظيم، الذي ظلّ سيّدنا القائد الفاتح الخليفة العظيم عمر بن الخطاب راضيا عنه. ويكتب في سيرته الذاتية -بالتّعبير العصري-: رضي سيّدنا عمر بن الخطاب، على سيّدنا عمرو بن العاص.
سيّدنا عثمان بن عفان، وسيّدنا عمرو بن العاص:
قال العقاد: ظلّ سيّدنا عمرو بن العاص، خمس سنوات حاكما لمصر، في عهد سيّدنا عمر بن الخطاب. وبمجرّد ماتولى سيّدنا عثمان بن عفان الخلافة، عزل سيّدنا عمرو بن العاص من حكم مصر، وأبقى أخاه عبد الله بن سعيد، حاكما على مصر. "وما كان سيّدنا عثمان بن عفان ليعزل أقرباءه من الحكم".
نصح سيّدنا عمرو بن العاص، سيّدنا عثمان بن عفان، أن يكون مثل سيّدنا عمر بن الخطاب، شديدا حيث الشدّة وليّنا حيث اللّين، لما رأى منه إفراطا في اللّين، حتّى طمعت فيه الرعية.
سيّدنا عمرو بن العاص.. لم ينصر سيّدنا علي بن أبي طالب، ولم ينصر أحدا عليه:
حين بويع سيّدنا علي بن أبي طالب بالخلافة، لم ينصره سيّدنا عمرو بن العاص، ولم ينصر أحدا عليه.
لم يقف سيّدنا عمرو بن العاص، مع سيّدنا علي بن أبي طالب، ولا سيّدنا معاوية بن أبي سفيان، وظلّ يراقب السّاحة من فلسطين، حيث اعتزل الحكم. ثمّ أرسل إليه سيّدنا معاوية بن أبي سفيان، ليكون له سندا وعونا. وبعد أن استشار سيّدنا عمرو بن العاص ابنيه، قرّر في الأخير الالتحاق بسيّدنا معاوية بن أبي سفيان.
لم تكن بين أسيادنا عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان صداقة، بل كان بينهما تنافس وطموح شديدين من قبل. وكلاهما كانا في عهد سيّدنا علي بن أبي طالب، يحرص على أن لايعادي الآخر إذا كانت المصلحة قائمة، وأن لايبعده إذا كان بعده ضرر، وأن يقرّبه إذا كان في ذلك منفعة.
كان سيّدنا عمرو بن العاص، شديد الثّناء على سيّدنا علي بن أبي طالب، حين يكون مع سيّدنا معاوية بن أبي سفيان، ويذكّره بأنّه أفضل منه.
الاتّفاق الذي انعقد بين أسيادنا عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان، كان على مساومة ومعاونة على الملك الذي كان يريده سيّدنا معاوية بن أبي سفيان له ولأبنائه، والولاية التي كان يريدها سيّدنا عمرو بن العاص له ولأبنائه.
أقول: كان سيّدنا عمرو بن العاص يعلم أنّ سيّدنا علي بن أبي طالب هو الأحق، لكنّه اختار سيّدنا معاوية بن أبي سفيان، لأنّه يمنحه الدنيا التي يرفض سيّدنا علي بن أبي طالب، أن يمنحها إيّاه، لأنّه رجل آخرة وليس رجل دنيا.
لم يتعاون أسيادنا عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان على ثقة، إنّما تعاونا على مصلحة اليوم، ولا خيار لهما إلاّ بالتعاون. وكانت هزيمة سيّدنا علي بن أبي طالب تجمعهما.
كانت جهود سيّدنا عمرو بن العاص في صفين، جهود المحرّض لا المقاتل. ولم يشارك بسيفه في معركة صفين.
اختار سيّدنا معاوية بن أبي سفيان، سيّدنا عمرو بن العاص للتحكيم، ولم يكن مرتاحا له، وكان مرتاحا لسيّدنا أبي موسى الأشعري، الذي كان وكيلا لعدوه سيّدنا علي بن أبي طالب.
لم يكن سيّدنا عمرو بن العاص، يرى أنّ سيّدنا معاوية بن أبي سفيان، أحقّ بالخلافة منه، لكن دهاؤه يمنعه من أن يطلب الخلافة، واكتفى بإمارة مصر.
قال العقاد: حاول ثلاثة من الخوارج قتل أسيادنا علي بن أبي طالب، وعمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان في وقت واحد. فقتل سيّدنا علي بن أبي طالب، وكانت النجاة للباقين.
أقولها لأوّل مرّة في حياتي: تحالف سيّدنا عمرو بن العاص، مع سيّدنا معاوية بن أبي سفيان، هو تحالف داهية العرب مع داهية العرب. ومن الطبيعي أن ينهزم كلّ من يواجه داهية فكيف بداهيتين، ولو كان على حقّ. فالدهاء يفرض حقّ، وينزع حقّ، وبما يراه حقّ، ولو لم يكن حقّ.
أقول: فهمت من العقاد، أنّ سيّدنا عمرو بن العاص، نظر للخلاف بين أسيادنا علي بن أبي طالب، ومعاوية بن أبي سفيان رحمة الله ورضوان الله عليهم جميعا، نظرة المصلحة والواقعية والعقلانية، فمال ميلة واحدة إلى سيّدنا معاوية بن أبي سفيان.
قال العقاد وهو يقارن بين الشخصيتين: امتاز كلا من أسيادنا عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان بالدهاء. لكن كان سيّدنا عمرو مندفع، وسيّدنا معاوية هادئ متريّث. وتفكير عمرو تفكير بديهة في كلّ الحالات، وتفكير معاوية تفكير روية.
أقول: ممّا فهمته من العقاد: حين يكون أسيادنا عمرو بن العاص، ومعاوية بن أبي سفيان في مجلس لوحدهما، يذكران عظمة سيّدنا علي بن أبي طالب،وفضائله، وخصاله العديدة، لأنّه -حسب العقاد- كانت هناك صراحة مطلقة بينهما، ولا اختلاف بينهما في السّرّ والعلن.
توقير سيّدنا عمرو بن العاص لسيّدتنا فاطمة الزهراء:
قال العقاد: "واستأذن على فاطمة — رضي الله عنها — فأذنت له، فسأل: ثَمّ عليٌّ؟ قالوا: لا. فرجع، ثم استأذن عليها مرة أخرى، فسأل كذلك: ثمّ علي؟ قالوا: نعم فدخل، فقال له علي: مامنعك أن تدخل حين لم تجدني ههنا؟ قال: إن رسول الله نهانا أن ندخل على المغيبات".
وسوم: العدد 1005