رواية "ومضة أمل" في ندوة اليوم السابع
ناقشت ندوة اليوم السابع الثقافية المقدسية رواية "ومضة أمل" للمرحوم حنا جميل رشماوي، صدرت الرواية عام 2022 عن جسور الثّقافيّة للنّشر والتّوزيع في عمّان، وتنفيذ مكتبة بغداد الثّقافيّة في بيت لحم والدّيوان التّلحمي للنّشر، تقع الرّواية التي صمّم غلافها رامي قبّج في 230 صفحة من الحجم المتوسّط، وكتب تقديما للرّواية "المحقق المشرف"، د. جورج أنطون أبو الدنين،ميخائيل رشماوي، ود. حنا رشماوي.
افتتحت الأمسية مديرة الندوة ديمة جمعة السّمّان فقالت:
حوّل مراد الزّير الرواية إلى مادة مطبوعة، ودققها ميخائيل رشماوي الذي قدّم لها هو و د. جورج أنطون أبو الدنين ود. حنا رشماوي.
أمّا رسالة دور النشر التي نفّذت العمل فقد كانت جميلة ومشجعة، تحث على حفظ التراث الفلسطيني وتدوينه وتحويله إلى منتجات فكرية وثقافيّة تقدّمها إلى الأجيال المختلفة، يرتبطون فيها بإرث أجدادهم، ويدركون البنية الفكرية التي أنجبت فيما بعد مجموعة من المبدعين والمفكرين والفاعلين في المجتمع الفلسطيني. كما دعوا جميع من لديهم مخطوطات في منازلهم أو أعمال موسومة لأجداد مضوا، أن يتواصلوا مع المكتبة أو الشركاء من أجل المساهمة في إنتاج ما هو جديد، تخليدا لذكرى أحبائكم، وإثراء للمكتبة الوطنية الفلسطينية.
وكما ذكر د. جورج أبو الدنين، فإنّه من خلال مثل هذه الروايات التي كتبت قبل سبعة عقود نتعرّف على ملامح كافية ترتبط بالثقافة والفكر ومنابع الثقافة المنتجة، في عقول جيل الخمسينات والستّينات ونفوسهم وقلوبهم، وإنّ الاطلاع على مثل هذه الأعمال، يعني أن نضيف لمحة إلى الصورة العامة لمعارف الوقت وأصحابه، في ظلّ اندثار جهود كثيرة جرّاء العدوان الإسرائيلي على الشعب الفلسطيني، وتهجيره فيما نسمّيهما: النّكبة والنّكسة.
لقد أثار الكاتب من خلال روايته عدة قضايا اجتماعية وسياسية ووطنية في تلك الفترة ما بين النكبة والنكسة، وكتب بواقعية مؤلمة دون تزيين.
تحدث عن نظرة الاحتقار والازدراء التي يعاني منها اللاجئون الفلسطينيون من قبل بعض العائلات الثرية، وتحدث عن العملاء والجواسيس الذين باعوا ضمائرهم، فضحوا بوطنهم، وخانوا أبناء جلدتهم من أجل الحصول على المال، وما دروا أنهم بذلك ينزلقون إلى الهاوية فيخسرون أنفسهم.
كما ركز على ضرورة أن يبني الزوج علاقة احترام ومحبة وألفة مع زوجته وأبنائه، إذ أن علاقة الخوف والرهبة تجعله يخسرهم ويخسر نفسه، ويعيش وحيدا في أحلك الظروف. وقد لمسنا ذلك في شخصية أبي سمير الذي فشل في بناء علاقة محبة مع أفراد أسرته.
أمّا عن اللغة فقد كانت تتراوح بين القوية في بعض المواقع، والضعيفة المليئة بالأخطاء الاملائية واللغوية، على الرغم من وجود مدقق لغوي.
وعلى الرغم من أن الكاتب رحمه الله لم يفكر يوما في نشر روايته، فقد كتب الرواية لنفسه. إذ كان يعتبر الكتابة أحد أساليب التفريغ النفسي، إلا أنه بعد أن رحل، أصرت أسرته أن تكرّمه وتجمع ما كتب بين غلافين، بعد قناعتهم بأن ما كتب يوثق مرحلة في بداية الستينات، ومن واجبهم نشرها، كما أن نشر المخطوطة تعكس حبّا واحتراما كان بين المرحوم وابنه الذي أصر على تخليد أبيه بنشر مخطوطته.
رحم الله الكاتب، فقد كان مثقفا وقارئا جيدا، على الرغم من أنه لم ينه المرحلة الإعدادية، إلا أنه استطاع أن يصل برسائله إلى القارىء من خلال روايته.
وكتب محمود شقير:
1
حين تعرفت إليه قبل رحيله بفترة وجيزة لم أكن أعرف أنه كتب رواية ظلت حبيسة الدفاتر سنوات طويلة، فقد انشدّ اهتمامي إلى الشبه الكبير بينه وبين شقيقه المرحوم المناضل الشيوعي عطا الله رشماوي، الذي جرب السجون العربية قبل الاحتلال الإسرائيلي عام 1967، وجرب السجون الإسرائيلية من جراء انتمائه الوطني التقدمي ودفاعه عن حق العمال والكادحين في حياة حرة كريمة، وحق الشعب الفلسطيني في الحرية والعودة وتقرير والمصير والاستقلال.
الآن، وبعد تكتّم امتدّ لسنوات طوال ظهرت إلى حيز العلن رواية "ومضة أمل"، بعد أن حقّق سردَها وأعدّها للنشر د. جورج أبو الدنين، ولا أدري مقدار تدخل الدكتور جورج في ضبط السرد. لا أدري كذلك إن كان عنوان الرواية من صنع مؤلفها الذي أنهاها على النحو الذي اشتُقَّ منه العنوان، أم إن كان العنوان من صنع المحرر الذي قام بجهد مشكور.
2
ما أثار فضولي حول هذه الرواية أنّ شابّا عمره تسعة عشر عامًا أو أقل من ذلك أنجز في العام 1965 رواية في 225 صفحة. ذلك أن تلك الفترة من ستينيات القرن العشرين شهدت ظهور مجلة الأفق الجديد المقدسية، وكنت أحد كتابها، وقد حاولت آنذاك أن أكتب رواية متأثرًا بأدب جان بول سارتر، وخصوصا روايته الثلاثية "دروب الحرية"، أطلقت عليها اسم "أيّام الشباب"، ولم أنجز منها سوى خمس عشرة صفحة، ثم أقلعت عن المحاولة.
كانت كتابة الرواية في تلك الفترة بالنسبة لي ولأبناء جيلي غير متيسّرة لأسباب عديدة، منها الافتقار إلى مخزون ثقافي وإلى تجربة حياتية كافية، ومنها أن المجتمع الفلسطيني الباقي في الضفة الغربية كان يلملم جراحه من جراء نكبة العام 1948، ولم يكن قد استقر بعد على نحو أكيد، ما جعل الكتاب من جيل الأفق الجديد ينحازون إلى كتابة القصة والقصيدة والمقالة النقدية، ولم يكتب بعض أبناء هذا الجيل الرواية إلا بعد سنوات من ذلك التاريخ.
أمّا أن يكتب حنا جميل رشماوي رواية، وأن يتمكن من متابعة خيط السرد بلغة أدبية جميلة على امتداد الصفحات، بغض النظر عن الانقطاعات التي أشار إليها محرر الرواية، وبغض النظر عن سذاجة السرد في بعض المواقع، فإن ذلك يعد أمرًا لافتًا للانتباه، ويحتّم إجراء بحث معمق حول ثقافة الكاتب ومصادر إلهامه والمؤثرات التي حفزته على كتابة الرواية.
أثناء قراءتي للرواية حاولت جاهدا التّعرّف من داخلها على ما يحيل إلى شخص كاتبها وإلى ثقافته، فلم أعثر إلا على قليل من المؤشرات، فالكتب التي كان يقرأها سمير، بطل الرواية، لم يكن السارد يفصح عن عناوينها أو عن مضمونها، ما عدا كتابًا واحدًا عن القضية الفلسطينية وجده في أحد الجوارير في غرفة والده، وقد باح بالعنوان التالي في الكتاب: "اليهود شعب مظلوم ومضطهد" ص165، في محاولة لتهيئة الأذهان إلى حقيقة هذا الأب الذي تكشّفَ عن جاسوس لدولة الاحتلال الصهيوني.
3
تلتهم نزعة الكتابة الرومانسية الجزء الأكبر من الرواية حين كان سمير متقلب المزاج بين ارتباطه بابنة خالته سلوى، وبين حبه للفتاة اللاجئة سعاد التي تعيش في بيت الخالة، ثم تميل الرواية في الصفحات الأخيرة إلى الكتابة الواقعية التي تعنى بالدفاع عن الفقراء، وعن "الطبقة الكادحة المعدمة أمثال سعاد" ص177، ويشير الكاتب في ملاحظة من خارج السياق الروائي، في معرض تبنيه لهذا المنهج في الكتابة إلى "الواقعية الجديدة" ص202، وهي اسم آخر للواقعية الاشتراكية، "هذه الموجة التي تكتسح العالم، وهتافات التشجيع تصدر من كل مكان في العالم في طلب المزيد من هذا الفن الصادق الجميل المعبر"ص202.
وهنا يصح التساؤل: هل تأثر حنّا بأفكار شقيقه عطاالله، الذي قضى ثماني سنوات من عمره في سجن الجفر الصحراوي، من 1957-1965؟ هل كان يذهب لزيارته مع الأهل وهو في السجن الصحراوي؟ هل كان حنّا منتميًا للحزب الشيوعي أثناء كتابته للرواية؟ من أين استوحى شخصية الأب الجاسوس؟ ومن أين استوحى شخصية مدير المخابرات الفاسد؟ هل أمدته تجربة شقيقه في السجن الصحراوي، وفي المكابدة على أيدي أجهزة الأمن آنذاك، بمادة محفّزة على كتابة الرواية؟ هل اطلع حنّا قبل كتابة روايته على كتاب "في الثقافة المصرية" للمفكرين الماركسيين محمود أمين العالم وعبد العظيم أنيس، اللذين دافعا عن الواقعية الجديدة؟ هل كان حنّا على اطلاع بما ينشر في مجلة الأفق الجديد؟ ولماذا أخفى روايته ولم ينشرها؟ هل خشي أن يجر عليه مضمونها الخاص بنقد مدير المخابرات مشكلات هو في غنى عنها؟ هل كان غير مطمئن إلى نجاحه في كتابة رواية؟ هل كان زاهدًا في الظهور بصفة كونه كاتبًا؟ ولماذا كان يشعر بفراغ هائل، كما كتب في مقدمة مخطوطته، بحيث دفعه هذا الفراغ إلى الكتابة، في حين كان المتوقع أن يدفعه التزامه الفكري إليها، وهو ما بدا واضحًا في تفاصيل الرواية؟
4
بالطبع، ثمة إشارات توضيحية غير قليلة بأقلام بعض المشرفين على إصدار الرواية، وهي جيدة، لكننا نطمح إلى المزيد، لإدراج هذه الرواية في إطارها الزماني والمكاني، علمًا بأن الرواية الفلسطينية في المنفى كانت قد قطعت شوطًا متميزًا على يديّ جبرا إبراهيم جبرا وغسان كنفاني، إلا أن كتابة رواية في النصف الأول من ستينيات القرن العشرين، لكاتب تقدمي شاب مقيم في بلدة بيت ساحور الفلسطينية، أمر جدير بالانتباه وبالتقدير.
وقال جميل السلحوت:
الكاتب: ولد المرحوم حنّا جميل رشماوي في بيت ساحور عام 1946، تعلّم حتّى نهاية المرحلة الإعداديّة، اشتغل في مهنة الصّدف، وعمل في البلاط، نشط في نقابات العمال والنّادي الأرثوذكسي في بيت ساحور، وتوفّي عام 2020.
مدخل: جاء في التّقديم أنّ الكاتب انتهى من كتابة روايته عام 1965، وكتبها بقلم رصاص في خمسة دفاتر مدرسيّة. وهذا يقودنا إلى العودة إلى الرّوايات الفلسطينيّة في مرحلة ما قبل العام 1965.
مثل: "خليل بيدس (1875- 1949)، وأحمد شاكر الكرمي (1894-1927)، وجميل البحري (توفي عام 1930)، الذي أصدر أول رواية فلسطينية تحت عنوان "الوريث" والتي ظهرت في القدس عام 1920، ونشر أيضاً مجموعة قصصية بعنوان آفاق الفكر عام 1924 في القاهرة.
وقد أسّس كلّ من هؤلاء الأدباء مجلة أدبيّة خاصة وأشرف على تحريرها بنفسه، وكانت معظم ما تنشره قصصا مترجمة، كانوا يقومون بترجمتها بأنفسهم من اللغات الأوروبيّة والآداب العالميّة.
وفي عام 1943 أصدر إسحق موسى الحسيني الرّواية الفلسطينية الثّانية، تحت عنوان"مذكرات دجاجة" وقد كتب لها المقدمة د.طه حسين، وقد طبعت عدّة مرّات؛ لما حصلت عليه من شهرة آنذاك في العالم العربيّ.
أمّا ما بين العامين 1948-1967؛ فقد اشتهر في هذه الفترة أربعة كتّاب كانوا جميعا يعيشون خارج فلسطين، وهم: محمود سيف الدّين الإيراني 1914-1974، جبرا إبراهيم جبرا 1917-1994، سميرة عزّام 1924- 1964، غسّان كنفاني 1963- 1972.
وكتب محمود سيف الدّين الإيراني القصّة منذ الأربعينات، وهي أكثر نضجا من المحاولات السّابقة لها في فلسطين، وانتقل إلى الأردنّ عام (1942)، فكان من أهم روّاد القصّة في شرق الأردنّ، وربّما كانت مجموعته "مع النّاس" (1956)، هي ما أثبت قدراته المتعدّدة.
أمّا أعمال جبرا القصصية؛ فقد بشرت بميلاد مستوى مختلف وأكثر حداثة، وقد نشر مجموعته "عرق وقصص أخر" عام (1956)، وقد كانت قصصه إلهاماً للصفوة.
أمّا سميرة عزام، التي بدأت الكتابة قبل عام 1948، فقد دلّت أعمالها على وعي بالأحداث الخطيرة التي كانت على وشك الحدوث، بالإضافة إلى أنّ قصصها عكست انضباطا فرضته على ذاتها واحتراما لأدواتها الفنّيّة، وباختصار، فإنّ قصصها الفنّيّة هي خير ما يمثل القصص القصيرة الفلسطينيّة في مرحلة الخمسينات والسّتّينات.
أمّا غسان كنفاني فقد دخل عالم الأدب بنشره عام 1961 مجموعته "موت سرير رقم 12"، وقد بدا أنّ هذا الكاتب قادر على تحقيق العمق والتّنوّع، وبصدور مجموعته الثّانية "أرض البرتقال الحزين" عام 1963؛ رسخ نفسه كاتبا قصصيا من الطّراز الأوّل، ثم أصدر بعد ذلك "عالم ليس لنا" 1965، عن الرّجال والبنادق 1968، وأصدر كنفاني روايته الأولى "رجال في الشّمس" عام 1963، ثم رواية "ما تبقّى لكم" عام 1966، "وعائد إلى حيفا" 1969. وكانت رواية رجال في الشّمس هي التي وضعته في طليعة كتّاب القصّة في الأدب العربيّ عامّة، والفلسطينيّ خاصّة. أمّا رواية "ما تبقّى لكم" فكانت محاولة جريئة لتحديث القصّة في العالم العربيّ." "راجع تقرير وكالة أنباء وفا بهذا الخصوص".
ولا يمكن القفز عن مجلّة الأفق الجديد التي صدرت عام 1961-1966، التي أسّسها وترأس تحريرها المرحوم أمين شنّار، وممّن كتبوا فيها القصّة وأبدعوا فيها لاحقا، وكتب البعض منهم الرّواية: محمود شقير، ماجد أبو شرار، يعقوب الأطرش، جمال بنّورة، يحيى يخلف، صبحي الشّحروري، حكم بلعاوي، خليل السّواحري، وفخري قعوار.
وعودة إلى رواية "ومضة أمل" للمرحوم حنّا جميل رشماوي، وتنبع أهمّيتها كونها كتبت في العام 1965، وإذا استثنينا روايات الشّهيد غسّان كنفاني، في ستّينات القرن العشرين وروايات جبرا ابراهيم جبرا، وما قبلها فإنّ عدد الرّوايات الفلسطينيّة وقتئذ لا يصل إلى عدد أصابع اليدين، وغالبيّتها لا تنطبق عليه شروط الرّواية.
موضوع الرّواية: تتحدّث الرّواية عن أسرتين، أحدهما تتكوّن من الأمّ الأرملة "أمّ زكي" ابنها"زكي" شقيقته" سلوى"، ولاجئة فلسطينيّة" سعاد" يتيمة الأبوين، ولها شقيق"سليم" يدرس في مدرسة داخليّة، ولم ترد عنه أيّ معلومة أخرى. وأسرة شقيقتها أمّ سمير، الزّوج "أبو سمير"، الأبناء "سمير، فؤاد ونبيل". يزور سمير الذي عاش حياة ماجنة بسبب ثراء أبيه، خالته أمّ زكي التي تسكن في قرية، يحبّ ابنتها سلوى، ولا يلبث أن يتحوّل إلى حبّ سعاد اللاجئة التي تعيش معهم في البيت نفسه. زكي سافر إلى بيروت للدّراسة وانقطعت أخباره بعدما اندمج في الضّياع مع المومسات والمخدّرات، ولا يظهر إلّا عندما عاد في نهاية الرّواية، تموت أمّ زكي بمرض السّل الذي كان مرضا قاتلا ومخيفا قبل اكتشاف طعم له في أواخر السّتينات، وتوصي سمير ابن أختها بأن يتزوّج ابنتها سلوى. يصاب سمير بحادث طرق إصابات بالغة، شوّهت وجهه وأصيب بكسور؛ ليمضي بقيّة حياته أعرجا.
أبو سمير رجل ثريّ له محلّات تجاريّة كثيرة، رجل جلف ظالم كريه اضطهد زوجته وأبناءه، وترشّح للبرلمان، لكنّه ما لبث أن قبض الأمن عليه بتهمة التّجسّس، وصودرت أمواله وحكم عليه بالإعدام، وأودع مستشفى الأمراض العقليّة قبل تنفيذ حكم الإعدام عليه.
يحبّ فؤاد سلوى ابنة خالته، أمّا نبيل فلم يكن له أيّ دور في الرّواية.
الأسلوب: تفاوت أسلوب الكاتب بين السّرد الحكائي بالذّات في النّصف الأوّل من الرّواية والذي طغى فيه استعمال كان ومشتقّاتها، وبين السّرد الرّوائيّ، ويطغى عنصر التّشويق في الرّواية، بحيث أنّني قرأتها في جلسة واحدة دون ملل. وواضح أنّ الرّواية واقعيّة فيها خيال يخدم السّرد الرّوائي، وهذا يسجّل لصالح الكاتب.
ملاحظات: يبدو أنّ من راجعوا الرّواية ودقّقوها، أخذوها كما هي دون انتباه، ويتجلّى ذلك في الصفحة 146، حيث جاء في بداية الفصل"4" ملاحظة تخصّ الكاتب وليست من النّصّ الرّوائي، وأخذت ثلث الصّفحة الأخير وامتدت للثّلث الأوّل من الصفحة التي تليها"147". وكذلك الحال في بداية الفصل "5" حيث أخذت ثلثي الصّفحة 202 ملاحظة تخصّ الكاتب أيضا وليست من النّصّ الرّوائي.
- الكلمات التي جرى تفسيرها في الهامش لا ضرورة لها، فهي معروفة للقارئ.
اللغة: مع أنّ لغة الرّواية بليغة وجميلة، إلّا أنّها لا تخلو من بعض الأخطاء اللغويّة والنّحويّة.
وفي تقديري أنّ الرّواية انتهت بنهاية الفقرة الأولى صفحة 202، وما بعدها يمكن تطويرة لرّواية أخرى.
المكان: ورد في الرّواية اسم مدينتي القدس وعمّان، وأسرة أبي سمير تعيش في عمّان دون ذكر أسماء الأمكنة والشّوارع والأحياء في المدينة. وأسرة أمّ زكي تعيش في قرية يبدو أنّها من قرى القدس، وعولجت وتوفّيت أمّ زكي في مستشفى في القدس، وسمير جرى معه حادث طرق مريع أثناء عودته إلى بيت خالته في القرية دون ذكر المكان، وعولج أيضا في مستشفى في القدس لم يذكر اسمه، علما أنّه كان في القدس في ستّينات القرن العشرين ثلاث مستشفيات هي: المستشفى الحكومي"الهوسبيس" في البلدة القديمة، مستشفى المطّلع" أوغستا فكتوريا" في جبل الزّيتون، والمستشفى الفرنسيّ في الشّيخ جرّاح، وواضح أنّ زمن الرّواية يمتدّ من مرحلة نكبة العام 1948، وحتّى منتصف السّتّينات، ويظهر ذلك من خلال اللجوء، وتجسّس أبي سمير.
تساؤلات: الكاتب مولود عام 1946، وانتهى من كتابة هذه الرّواية عام 1965، أي وعمره تسعة عشر عاما، فلماذا توقّف عن الكتابة بعدها، خصوصا وأنّه عاش حتّى عام 2020. أي عاش خمسة وخمسين عاما بعد الرّواية؟
وفي النّهاية تشكّل الرّواية إضافة نوعيّة للمكتبة الفلسطينيّة والعربيّة، وتتضاعف أهمّيّتها عندما نعلم زمن كتابتها.
وكتب عبدالمجيد جابر:
وأنا هنا لن أركِّز إلا على ما قد يتناسى الزملاء في التركيز عليه وسأترك الباقي للآخرين لضيق الوقت.
تنتمي هذه الرواية للمذهب الواقعي، والواقعية انقسمت إلى عدة أقسام، منها: النظرية الماركسية، أو الواقعية الاشتراكية ذات النظرة الماركسية التي تنتمي إليها هذه الرواية.
ولقد برزت حركة الواقعية الجديدة في ستينات القرن الماضي كنتاج لما بعد الحداثة، واتّسم دعاتها بالتمرّد على التيارات الفنية السابقة، والتنديد بمجتمع الاستهلاك، فكانوا يستعملون أشياء المعيش اليومي ويجعلون منها أعمالا فنية.
ومن خصائص الرواية الواقعية والتي حرص المؤلف حنا رشماوي تضمينها لروايته:
1.تحرك العقل وتعمل على خلق شعور الإرادة والقوة لدى القرّاء وتثير الوجدان؛ فضلا عن اشتراك القارئ لأحداث الكاتب في عمله الأدبي من ناحية نسج الخيال والبحث والتساؤل، وإيجاد الحلول المناسبة لما يسرد من مشاكل. كما حصل من أزمة أربكت بيت أبي سمير عندما اكتشف أمر خيانته، وكيف عملو في الخروج من أمر تلك المحنة.
- تعتمد الكتابة بدون تجميل أو تكلف الأمر الذي يجعل القارئ منتبهًا لما يقوله الشاعر أو الأديب طيلة الوقت وهذا ما توافر في رواية الكاتب رشماوي.
3.سُمّيت بالواقعية لأنها مأخوذة من الطبيعة، ومن واقع المجتمع الذي يعيش فيه الإنسان، وتعتمد فيها على الصراع القائم على الإنسان في العالم الذي يعيشه وتقوم بنقله وتصويره بشكل واقعي. ولهذا ركَّز الكاتب على حياة أم زكي وأبنائها في الريف .
4.ترتكز أعمال المدرسة الواقعية على المشاكل المجتمعية التي يتعرض لها الإنسان، وقضايا تلامس عمق كينونته الآدمية مثل الفقر والجهل والمرض والظلم، وذلك بهدف إلقاء الضوء على تلك المشاكل بهدف علاجها وإيجاد حل لها. ويعود سبب نشأة المدرسة الواقعية في الأدب العربي إلى تبادل الثقافات بين العرب وروسيا، والذي بدأ في الأدب الروسي المنهج الماركسي والتي عبر فيها عن رفضه لقضايا مثل الفقر التي انتشر بمصر في تلك الفترة الراهنة، ويمثل هذا الفكر بطل الرواية سمير الذي أحب الفقراء واللاجئين وأحب سعاد الفقيرة اللاجئة وعارض فكر والده.
الواقعية الاشتراكية تتناول الرواية الطبقة العمالية الثورية، والتي تعكس الوعي السياسي الموجود بالطبقة في تلك الحقبة، وفي الرواية كانت الأحداث تتطور بقدر تطور كل شخصية بالرواية.
وتتسم هذه الرواية بالعناية في الشكل من حيث اللغة والنحو والإملاء والترقيم مقارنة بالروايات الأخرى، وبالرغم من ذلك فهناك ملاحظات حول الترقيم.
وكتب د. محمد عبدالسلام كريّم:
لا يسع اي وطني حريص أو أي كاتب مهتم إلا أن يقف باستعداد رافعاً قبعته لهذا العمل، الذي انتشله من سباته أفراد عائلة وفية مخلصة، ومؤسسة وطنية طموحة، فكان أن تحولت الدفاتر الأربعة القابعة في مغارة أحد الأدراج لتغدو رواية بين يدي من يرغب أو يهتم.
لقد تجشّمت العائلة المخلصة عناء الحفاظ على إرث قد لا يرى فيه كثيرون، ما لم يكونوا من وطن أعتاد ان لا ينسى أشيائه، الكثير من الأهمية؛ فحافظوا على هذا الإرث اكثر من نصف قرنٍ من الزمن، لتحظى به مؤسسة نذرت أن تحفظ شيئاً من الذاكرة حياً، كما يجب أن يكون، بتعاون مع أطراف تشاركها الطموح ذاته.
تواءم الطرفان ليكون هذا العمل بمئتين وثلاثين صفحة، من رواية اجتماعية بسيطة، نتلمس فيها ما يلي:
بيئة جلّ الأحداث ريف فلسطيني وادع، لم يطله التعقيد ولا الاحتلال بعد.
زمان الرواية هو عام 1965 وما قبله.
شخصيات الرواية تنقسم إلى رئيسية متواصلة الحضور وعدد من الشخصيات الثانوية متناوبة الحضور.
حبكة الرواية بسيطة تتطور بسيطة في محاورها، ليس فيها تعقيد ولا تراكب.
الحدث سريع وغير ممهد له، يتطور بلا مقدمات، في كثير من الأحيان، فينقلب سمير، بعد ساعات على معرفته بسعاد، من عدو إلى صديق، فيقول: "كيف كنت أسمح لنفسي بكره هذا الشعب البائس المسكين؟" (ص 33)
ويؤكد ذلك بقوله: " لقد تنبهت أخيراً، وذلك من كلامك الذي دخل نفسي ليكون عقيدة وإيمانا" (ص 33).
وكذلك كان حال والد سمير، في موضع آخر، وبلا مقدمات أيضاً: " تبدلت الحالة بينهما وتوثققت عرى القرابة، وقد شعر أبو سمير بعاطفة..." (ص 84).
وكان ذلك في مواطن أخرى متعددة.
أما ذروة الحدث فكانت غير منهجية تشارك فيها أكثر من عنصرٍ لتغدو النهاية أبسط مما يجب.
فقرات الرواية غير مفصولة ولا حتى بسطور جديدة تشعر القارئ، بدخول حدث جديد أو تواريه.
لغة الرواية بسيطة شاعرية، تورطت فيها الكثير من المفردات العامية حيث لا يجب أن تكون.
الصور والمحسّنات البديعية: متوفرة نسبياً وبسيطة تنتمي للبيئة التي وظفها فيها الكاتب، فجاء " الإنسان بغير صحة كفانوس بغير كاز". (52)
ولعلّي أشعر بالكثير من السعادة أن يحظى العمل الأدبي لمهني فلسطيني بسيط، على فرصة في النشر، في معركة النشر التي قد لا يغيب عن معظمنا معاناتها. خاصة وأنها متوفٍ، أي أنه لا يبحث بذاته عن تلك الفرصة. ولكنّ لي الكثير من العتب على قسم الخدمات اللغوية الذي بخل بالعديد من التدخلات اللغوية، مفترضاً أنها من خصائص النص، في حين أنها من وسائطه، وبالتالي وقعت الرواية في العشرات من المطبات اللغوية التي لا يسأل عنها الكاتب الذي توفّاه الله منذ سنين، والتي هي من صلب اختصاص التدقيق اللغوي، فيما أعلم. ولعله ما من ضيرٍ أن يحمل الحوار بعد التعابير العامية، أما السرد فلا يحقّ له ذلك إلا وظيفياً.
وختاماً اودّ أن أقول أنّ هذا هو الفلسطيني الذي أعرف. طائر فينيق يخرج من رماده ليولد من جديد. إن كانت هذه الرواية أو معظمها عمل من لم يدرس الأدب ولا النقد، بل أفنى جل عمره في مهن ( تقصف العمر)، فكيف لو كان متعلماً أو أنه التزم في إطار ما أو أكاديمية ما؟
تحية لكل من ساهم في أن يرى هذا العمل النور.
وكتبت د. روز اليوسف شعبان:
رواية واقعيّة وجدت مبعثرة في مخطوطات ودفاتر، ملقاة في زوايا البيت، كتبها الكاتب في مرحلة امتدّت تسعة أشهر، إلى أن عثر عليها ابنه بعد وفاة والده، فقرّر إصدار هذه المخطوطات في رواية.
تنتمي هذه الرواية للأدب الواقعيّ الذي يصوّر واقع الحياة كما يراه الكاتب، بلغة سلسة سهلة واقعيّة، تخلو من المحسنات البلاغية والاستطراد.
طرحت الرواية موضوع الجشع الذي يصيب أصحاب رؤوس الأموال، فيعملون على زيادة ثروتهم على حساب الفقراء والعمّال، وبذلك يبيعون ضمائرهم مقابل المال، وقد يصل بهم الأمر إلى خيانة الوطن، وإلى ترشيح أنفسهم للبرلمان للتقرّب من السلطة.
والد سمير الأردنيّ الذي يعيش مع عائلته في عمّان في بيت كبير فخم، هو أحد هؤلاء الأشخاص الذين عمت قلوبهم الأموال والسلطة فحاول بكلّ الطرق غير الشرعيّة زيادة ثروته، حتى أنّه باع ضميره ووطنه، وعمل جاسوسًا ، فقبضت عليه الشرطة بعد أن أثبتت عمالته لصالح إسرائيل، فصودرت أمواله وثرواته، ولم يبق له سوى البيت الذي تعيش فيه عائلته، وبعد أن صدر الحكم بإعدامه أصيب بانهيار عصبي أنقذه من حبل المشنقة وانتقل إلى مستشفى الأمراض النفسيّة.
يصوّر لنا الكاتب حالة الضياع التي يعيشها سمير ابن رجل الأعمال الثريّ، وذلك بعد أن أغدقه والده بالمال، فعاش حياة ترف ومجون وكسل دون عمل، رغم ذلك فسمير حاقد على والده الذي قضى وقته في العمل، ولم يهتم بابنه، بل كان يقسو عليه ويتعامل معه بخشونة دون أن يشعره بعاطفة الأبوّة.
يطرح الكاتب في روايته قضيّة اللجوء، فسعاد فلسطينيّة لاجئة تعيش في بيت خالة سمير، تعمل على خدمة أهل البيت، وتحظى بحب كبير من الخالة ومن ابنتها سلوى التي كانت تعتبر سعاد أختا لها. تمثّل سعاد المرأة الفلسطينيّة المكافحة التي تؤمن بحق شعبها في وطنه وحقّه بالعودة، لكنّ الكاتب من وجهة نظري قام بتشويه صورة هذه الفتاة الطاهرة المكافحة، حين جعلها تخون صديقتها وأختها سلوى وتحب سمير الذي وعد خالته -حين كانت تحتضر- بتنفيذ وصيتها والزواج من سلوى ابنة خالته.
موضوع هام آخر يثيره الكاتب هو موضوع رجال المباحث، فرئيس المباحث رجل ساديّ يمارس البغاء ويعذب فريسته، ويفرض أقصى العقوبات على من يحقّق معهم بتهمة الخيانة أو ما أشبه. بل ويتفنّن ويستمتع في تعذيبهم، ويتساءل الكاتب كيف يتمّ تعيّين مثل هؤلاء الأشخاص في مناصب رفيعة في الدولة؟
رغم واقعيّة الرواية إلا أنّ بعض أحداثها بدت غريبة وبعيدة عن الواقع. سمير الذي يعيش في عمّان حياة مجون ويصاب بالملل وتسوء حالته النفسيّة يقرّر الذهاب إلى في الضفة الغربيّة للعيش مع خالته وابنتها سلوى وهناك يتعرّف على سعاد. وبعد وفاة خالته يبقى سمير في بيتها مع سلوى وسعاد، وهذا بحدّ ذاته غير متعارف عليه في مجتمعنا، ولعلّ الأبلغ من ذلك هو بقاء سمير مع سعاد لوحدهما في البيت بعد ذهاب سلوى إلى عملها في المدرسة، وهذا يتناقض مع أعراف أهل القرى.
لقد قرّر سمير التوبة وابتعد عن حياة المجون، وبعد أن أصيب بحادث طرق وتضرّرت رجله ضررا كبيرًا اضطر الى السير بمساعدة عكّازه، ورغم نجاة سمير من الموت إلا أنّنا نجده يعود إلى شرب الخمر إلى حد فقدان الوعي، بدلًا من التمسك بقراره وترك حياة المجون والمراقص الليلية والبارات. يعترف سمير لسلوى أنه يحبها كأخته وهو لا يريد الزواج منها، ثمّ تكتشف سلوى أنّ سمير وسعاد مرتبطان عاطفيّا، ورغم غضب سلوى إلا أنّها لا تطرد سعاد من بيتها بل تبقيها معها، وهذا يبدو غريبًا وغير منطقيٍّ .
أمّا زكيّ أخو سلوى فهو يعيش حياة فسوق ومجون في بيروت حتى أنّه لا يحضر للمشاركة في جنازة والدته، أو توديعها، لكنّه عندما رأى ساديّة رجل المباحث في بيروت قرر التوبة والعودة إلى بيته والعيش مع أخته سلوى. الأمر الذي يثير في نفسي عدّة تساؤلات: لماذا هذا الحدث بالتحديد أثّر على زكي وجعله يتوب في حين لم تؤثّر في نفسه وفاة والدته؟
يشعر سمير بغضب تجاه سعاد الفلسطينيّة اللاجئة، التي كان والده يحقّرها حين يقول لها أنت لاجئة، كان والد سمير خائنًا لشعبه وللقضية الفلسطينيّة، وبسبب ذلك حكمت عليه المحكمة بالإعدام، ممّا جعله يشعر بحنق تجاه سعاد، ويقرّر الابتعاد عنها أيضا؛ لأنه أصبح معدمًا فقيرًا لا يملك عملًا ومالًا للعيش منه، لكنّ سعاد تستمر في التقرّب منه، ويعود الحبّ يداعب قلبه، وتنجح سعاد في إشعال ومضة الأمل في روحه، بعد أن أقنعته أنّ بإمكانه العمل وشقّ طريقه من جديد .
هذه الومضة من الأمل تنقذ سمير من الضياع، فيقرّر أن يبدأ حياته مع سعاد ويبنيها بكدّه وتعبه.
تثير الرواية في نفسي عدّة تساؤلات رغم واقعيّة الرواية وطرحها لمواضيع اجتماعيّة هامّة. إلى متى سيبقى الأثرياء يمتصون دماء الفقراء، متى سيعي الحكّام خطورة سيطرة الأثرياء على اقتصاد البلاد وعلى سياسة الدولة والنظام الحاكم؟ كيف يمكن انقاذ الشباب من حياة المجون والفساد الأخلاقي والفراغ والضياع؟ ألا نحتاج إلى ثورة لتغيير مناهج التعليم والتربية؛ لننقذ الشباب من السقوط في الهاوية، ونغرس في نفوسهم حبّ العمل والمسؤولية والانتماء للوطن؟
وسوم: العدد 1023