رثاء الأبناء في الشعر الإسلامي المعاصر
كيف رثى الشعراء العرب أولادهم؟
إن فَقْد الأحبّة غربة، والغربة المقصودة هنا هي غربة الروح لا الجسد، وهي أقسى أنواع الوجود. تكون حاضراً غائباً في الوقت ذاته. حياً وميتاً. أنت ولست أنت، فكيف إذا كان جرح الفَقْد قلوب الآباء والأمّهات؟ حينها يصبح العمر خريفاً دائماً، وصقيعاً قاتلاً لا يذيبه إلا دفء اللقاء بالفقيد، لذا كان لشعر الرثاء طعم آخر، وصبغة مختلفة.
وهنا سنذكر بعض الشعراء العرب الذين هزمهم موت أبنائهم عبر الزمن، فسلّمهم إلى الألم فريسةً يستلذّ بها، وأطلقوا صرخات عميقة جداً، توغّلت في التاريخ لتعبّر عن عويل الروح كيف ينطق، ويتجسّد شعراً يقطر دمعاً ووجعاً.
البداية مع أحيحة بن الجلاح، الشاعر الذي عرف ببأسه وقوّته، واستبساله في حربه ضدّ الخزرج، وانصرافه إلى جمع المال، لم يتوان يوماً عن الخوض في أية معركة، ولم تركعه الظروف مهما صعبت، لكننا سنجده ضعيفاً أمام فَقْد ولده. دموعه غزيرة، وقلبه مفجوع، وليله طويل، ووحدته قاتلة:
ألا إن عيني بالبكاء تهلّل جزوع صبور كل ذلك تفعل
فإن تعتريني بالنهار كآبة فليلي إذا أمسى أمرّ وأطول
أما الحارث بن عباد فيتحرّق ألمًا على ولده "بجير" الذي قتل غدراً، وهو يسعى إلى الإصلاح بين قبيلتي بكر وتغلب، وأنشد قصيدته المشهورة "مربط النعامة"، دعا فيها إلى الثأر لولده:
قل لأمّ الأغرّ تبكي بجيراً حيل بين الرجال والأموال
ولعمري لأبكيّن بجيراً ما أتى الماء من رؤوس الجبال
وأشابوا رأسي بقتل بجير قتلوه ظلماً بغير قتال
لهف نفسي على بجير إذا ما جالت الخيل يوم حرب عضال
يا بجير الخيرات لا صلح حتى نملأ البيد من رؤوس الرجال
نستطيع من خلال هذه الأبيات أن نقرأ جرحاً موجعاً جداً. إنها حسرة الأب على إبن مظلوم، جرّدته الحياة من هويّتها، وغدا تائهاً لا يعرف إلا درب الانتقام ممّن حرموه نبض قلبه. لذا نجد اجتماع الحقل المعجمي للبكاء والحزن والتوعّد بالثأر "تبكي، لأبكيّن، أشابوا رأسي، لا صلح، نملأ البيد من رؤوس الرجال".
وتجدر الإشارة هنا إلى سيطرة الرغبة بالثأر الناتجة من عادات الجاهلية، لأنها سمة أساسية من سمات ذلك العصر، إضافةً إلى الخوف من إظهار الضعف أمام الأعداء، فذلك عار كبير، يتبعه الخوف من العدم والفناء في ظلّ الصراع العنيف مع الموت الذي يواجهه الجاهلي يومياً في الغزوات، ونقص المياه، وغيرها من العوامل الطبيعية والبشرية.
ولننتقل الآن إلى زهير ابن أبي سلمى الذي فجع بإبنه سالم، ونذكر هنا بيتين فقط:
وعندي من الأيام ما ليس عنده فقلت: تعلم إنما أنت حالم
لعلّك يوماً أن تراع بفاجع كما راعني يوم النتاءة سالم
نتبيّن في هذين البيتين فاجعة عظيمة، إذ كان موت ولده المفاجئ صدمة كبيرة حفرت في روحه عميقاً.
ثم الشاعر أبو ذؤيب الهذلي الذي رثى أبناءه الخمسة، وقد فقدهم بسبب وباء جرفهم بقسوة، ولم يرحم شبابهم، ولا دمع أب فاض حتى كاد يغرق العالم:
أودى بني فأعقبوني حسرةً بعد الرقاد وعبرةً لا تقلع
فعبرت بعدهم بعيش ناصب وإخال إني لاحق مستتبع
ولقد حرصت بأن أدافع عنهم وإذا المنية أقبلت لا تدفع
وإذا المنية أنشبت أظفارها ألفيت كل تميمة لا تنفع
نقرأ هنا التسليم بقضاء الله وقدره، لأنه كان مستعدّاً ليبذل نفسه في سبيلهم، لكن المنية اختارتهم، فأنشبت أظفارها فيهم، وكأنها وحش مفترس، وتركته للصراع مع جفاف العالم حوله، منتظراً حتفه الذي تمنّاه قريباً جداً، ليستريح من تخبّطه القاتل، خصوصاً وأنه شاعر مخضرم، آمن بالتعاليم الإسلامية، فسلّم أمر حزنه إلى الله سبحانه. إذ بدأ الرثاء في عصر صدر الإسلام يخرج من دائرة الخوف من الموت، ليدخل في دائرة الرضا بحكم الله، مع ما يصحب ذلك من ألم الفراق واللوعة.
إعرابية ترثي ولدها:
ونظمت أعرابية قطعة شعرية تصور لوعتها على فقد ولدها الشاب:
يا قرحة القلب والأحشاء والكبـد يا ليت أمك لم تحبل ولـم تلـد
لما رأيتك قد أدرجت فـي كفـن مطيبـاً للمنايـا آخـر الأبــد
أيقنت بعدك أنـي غيـر باقيـة وكيف يبقى ذراع زال عن عضد
أم السليك بن سلكه ترثيه:
وكان السليك بن السلكة من الصعاليك وقطاع الطرق، فلما مات رثته أمه بقولها:
طاف يبغي نجوة من هلاك ، فهلك
والمنايا رصّـدٌ للفتى حيث سلك
ليت شعري ضلةً أي شـئ قتلـك
كل شـئ قاتـل حين تلقى أجلك
ومثل أبي ذؤيب كان جرير حين رثى ابنه سوادة، يقول:
قالوا نصيبك من أجر فقلت لهم من للعرين إذا فارقت أشبالي
لكن سوادة يجلو مقلتي لحم باز يصرصر فوق المرقب العالي
فارقتني حين كفّ الدهر من بصري وحين صرت كعظم الرمّة البالي
الهمّ يأكل روحه، وبات ضعيفاً جداً بفقد ولده القوي، وبليت نفسه، وما عادت قادرةً على العيش الطبيعي، ولا النظر إلى الدنيا بعين الأمل، لكأنها قد ألقت بأحمالها على كاهله، وتركته هشّاً جداً.
وحين نتحدّث عن ابن الرومي، تستحضر أذهاننا تلقائياً تلك القصيدة التي رثى بها ولده محمّد، فتجد الدموع مسارها إلى القلب والعين سريعاً، لأنها من أجمل قصائد الرثاء:
بنيّ الذي أهدته كفاي للثرى فيا عزّة المهدى ويا حسرة المهدي
ألا قاتل الله المنايا ورميها من الناس حبّات القلوب على عمد
توخّى حِمام الموت أوسط صبيتي فلّله كيف اختار واسطة العقد
طواه الردى عني فأضحى مزاره بعيداً على قرب قريباً على بعد
نلاحظ في هذا النصّ سلاسة واضحةً، ووضوحاً في الألفاظ، وعمقاً في المعاني والأبعاد الدلالية. التلاعب في الألفاظ وإيراد التناقضات مكّنا الشاعر من نقل ما يتصارع في داخله من آلام وحسرات، وفي عتابه الموت على اختياره أوسط أبنائه، نجد تضرّعاً كبيراً، وبكاءً داخلياً عالياً إلى درجة أن القلب يسمعه مباشرةً، لأنه أصابه في الصميم، ولا سبيل إلى الحياة من بعده، فهذا القريب قبره البعيدة روحه، ما أفجع رحيله، وما أطول رحلته وأمرّها!
ولإبراهيم بن المهدي نصيب من معاناة الفَقْد، وما أتعسه وقد ودّع بعضاً منه وواراه الثرى، فما عادت عينه قادرةً إلا على رؤية الغروب، ودموعه لا تعرف التوقّف عن التدفّق:
نأى آخر الأيام عنك حبيب فللعين سح دائم وغروب
يؤوب إلى أوطانه كل غائب وأحمد في الغياب ليس يؤوب
وكان نصيب العين في كل لذّة فأمسي وما للعين فيه نصيب
نقرأ العاطفة الجارفة والنكبة النفسية التي ألمّت به، بعدما فارقته شمس حياته، ولن يستطيع رؤية حبيبه مرةً أخرى، لذا انطفأ ضوء عمره، فأحمد لن يعود من الغياب البعيد.
وفي رثاء بشّار بن برد ابنه محمداً، نرتّل آيات الحزن والاستسلام لمشيئة الرحمن:
كأني غريب بعد موت محمّد وما الموت بعده بغريب
صبرت على خير الفتو رزئته ولولا اتقاء الله طال نحيبي
دعته المنايا فاستجاب لصوتها فلّله من داع دعا ومجيب
نؤمل عيشاً في حياة ذميمة أضرّت بأبدان لنا وقلوب
الغربة سيّدة الموقف، والصبر على البليّة، والنظر إلى المنيّة على أنها العدو القاسي الذي لا يرحم القلوب المتوسّلة أبداً، وذمّ الحياة التي صارت جحيماً، كل هذا يصوّر مأساة الشاعر بشفافية عالية وصدق كبير.
ولإبن عبد ربه نصيب في الفَقْد والموت، إذ رثى إبنه يحيى:
واكبداً قد تقطّعت كبدي وحرقتها لواعج الكمد
يا رحمة الله جاوري جدثاً دفنت فيه حشاشتي بيدي
لا صبر لي بعده ولا جَلَد فجعت بالصبر منه والجَلَد
للموت أشكال غريبة وعنيفة، وهذه أعنفها وأغربها، أن تفقد ذاتك وأنت موجود جسدياً، وأن تجزأ وأنت تنظر بعينين مصدومتين، وأن تنفى وأنت في أرضك ووطنك، فأية معجزة يمكن أن تلملم أشلاءك المبعثرة وقواك المحطّمة، حينها لا صبر يداوي، ولا جَلَد يبعث الموتى من جديد.
وهذه قصيدة أبي الحسين التهامي المتوفى في القرن الخامس يرثي فيها ابنه الذي مات صغيراً، فرثاه بقصيدة أنصت لها الدهر هذا بعض ما جاء بها…
حكم المنية في البرية جاري ما هذه الدنيا بدار قرار
بينا يُرى الإنسان فيهامخبراً حتى يرى خبراً من الأخبار
طُبعت على كدر وأنت تريدها صفواًمن الأقذاء والأكدار!!
ومكلف الأيام ضد طباعها متطلب في الماء جذوة نار
وإذا رجوت المستحيل فإنما تبني الرجاء على شفير هار
فالعيش نوم والمنية يقظة والمرء بينهما خيال سار
فاقضوا مآربكم عجالاً إنما أعماركم سفر من الأسفار
وتراكضوا خيل الشباب وبادروا أن تسترد فإنه نعوار
ثم يصف ابنه بأبيات – تقطع القلب – فيقول:
يا كوكباً ما كان أقصر عمره وكذاك عمر كواكب الأسحار
وهلال أيام مضى لم يُـستدر بدراً ولم يمهل إلى الأسحار
عجل الخسوف إليه قبل أوانه فمحاه قبل مظنة الإبدار
واستُـل من أترابه ولداته كالمقلة اسـتُلت من الأشفار
فكأن قلبي قبره وكأنه في طيّـه سر من ألأسرار
إن الكواكب فيعلو مكانها لترى صغاراً وهي غير صغار
ولد المعزى بعضه فإذا مضى بعض الفتى فالكل في الآثار
أبكيه ثم أقول معتذراً له وُفّـقتَ حين تركتَ ألأم دار
جاورتُ أعدائي وجاور ربه شتان بين جواره وجواري
ولعل قصيدة الشاعر ابن الرومي في رثاء ابنه الأوسط (محمد) تعد في غرر الشعر العربي:
بكاؤكُـمـا يشـفـي وإن كان لا يـجـدي فـجـودا فـقـد أودى نظيركـمُـا عـندي
بُـنَــيَّ الذي أهـدتــهُ كـفَّاي لـلـثَّـرَى فيا عزَّة َ المهـدى ويـا حسـرة المهدي
ألا قـاتل الــلَّهُ الـمـنـايـا ورمـيــها مـن القـومِ حَبّـات القلـوب على عَـمـدِ
توخَّى حِمَامُ المـوت أوسـطَ صبيـتـي فلـلـه كـيـف اخـتـار واسـطــة َ العـقـدِ
علـى حيـن شمـتُ الخيـرَ مـن لَمَحاتِـهِ وآنـسـتُ مـن أفـعـالـه آيـة َ الـرُّشــدِ
طـواهُ الـرَّدى عنِّـي فأضـحـى مَزَارهُ بعيـداً علـى قُــرب قريـبـاً عـلـى بُـعـدِ
لـقـد أنجـزتْ فـيـه المـنـايـا وعـيـدَهـا وأخلـفَـتِ الآمالُ مـا كـان مـن وعـــدِ
لـقـد قـلَّ بـيـن الـمهد والـلَّحد لـبـثُهُ فلم ينسَ عهد المهد إذ ضـمَّ فـي اللَّحـدِ
تـنـغَّـصَ قَـبــلَ الـــرَّيِّ ماءُ حَـيـاتــهِ وفُــجِّــعَ مــنـه بـالـعـذوبــة والــبـــردِ
ألحَّ عـلـيـه الـنَّــزفُ حـتــى أحـالــهُ إلى صُفرة الجاديِّ عـن حمـرة الـوردِ
وظــلَّ عـلـى الأيدي تسـاقـط نَـفْـسْـه ويذوِي كما يذوي القضيـبُ من الرَّنْـدِ
فَـيـالـكِ مـــن نـفــس تـسـاقـط أنـفـســاً تـسـاقـط درٍّ من نِـظَــام بــلا عـقــدِ
عجبـتُ لقلـبـي كـيـف لم ينفـطـرْ لــهُ ولـو أنَّـهُ أقـسـى من الحـجـر الصَّـلـدِ
بـــودِّي أني كــنــتُ قُــدمْــتُ قـبـلــهُ وأن المنـايـا دُونــهُ صَـمَـدَتْ صَـمـدِي
ولـكـنَّ ربِّي شـــاءَ غـيــرَ مشيـئـتـي ولـلـرَّبِّ إمـضـاءُ المشيـئـة ِ لا الـعـبـدِ
ومـا ســرني أن بـعــتُــهُ بـثــوابه ولــو أنــه التَّخْلـيـدُ فــي جـنَّـة ِ الخُـلـدِ
ولا بـعـتُـهُ طَـوعـً ولـكــن غُـصِـبـتـه وليس على ظُلـمِ الحوداث من معـدِي
وإنّي وإن مُـتِّـعــتُ بـابـنــيَّ بــعــده لـذاكـرُه مــا حـنَّـتِ النِّـيـبُ فــي نـجـدِ
وأولادنا مــثــلُ الــجَــوارح أيُّها فـقـدنـاه كـــان الـفـاجـع الـبَـيِّـنَ الـفـقـدِ
لــكــلٍّ مـكانٌ لا يــسُـــدُّ اخـتــلالهُ مـكـانُ أخـيـه فــي جَــزُوعٍ ولا جـلــدِ
هـلِ العينُ بعـدَ السَّـمع تكـفـي مكانهُ أم السَّمعُ بعد العيـنِ يهـدي كما تهدي
لَعمريلـقـد حـالـتْ بيَ الـحالُ بـعــدهُ فيا ليتَ شِعري كيف حالـتْ بـه بعـدِي
ثَـكـلتُ سُـرُوري كُــلُّــه إذْ ثَـكـلـتُـهُ وأصبحتُ في لذَّاتِ عيشـي أَخـا زُهـدِ
أرَيحانة َ العَينـيـنِ والأنفِ والحـشـا ألا ليتَ شعري هلْ تغيَّرتَ عن عهدي
سأسقيـكَ ماءَ العيـن ما أسـعـدتْ به وإن كانت السُّقيا مـن الدَّمعِ لا تُجدي
أعينـي َّجـودا لي فـقـد جُدتُ للـثَّـرى بـأنـفـس مـمَّــا تُـســأَلانِ مـن الـرِّفــدِ
أعـيـنـيَّ إنْ لا تُـسـعــداني أَلُـمْـكُما وإن تُسعدانـي اليـوم تَستوجبـا حَـمـدي
عذرتُكـمـا لــو تُشـغـلانِ عـن الـبـكـا بنـومٍ ومـا نـومُ الشَّـجـيِّ أخي الجَـهـدِ
أقـرَّة َ عـيــني قــدْ أطـلـت بُـكـاءهـا وغادرتهـا أقْـذَى مـن الأعْـيُـنِ الـرُّمـدِ
أقرة عـيـني لـو فَــدى الـحَيُّ مـيِّـتـاً فـديـتُـك بالـحـوبَـاء أوَّلَ مـــن يــفــدِي
كـأني ما استَمْتَـعـتُ مـنــك بـنـظـرة ولا قُبـلـة ٍ أحـلـى مـذَاقـاً مــن الـشَّـهـدِ
كـأني ما استمتـعـتُ مـنـك بـضـمّـة ٍ ولا شـمَّـة ٍ فــي ملـعـبٍ لــك أو مهــدِ
ألامُ لـمـا أُبــدي علـيـك مـن الأسـى وإنـي لأخفـي منـه أضعـافَ مـا أبـدي
مـحـمَّـدُ ما شـــيءٌ تُــوهِّــم ســلــوة ً لقـلـبـي إلاَّ زاد قـلـبـي مــن الــوجــدِ
أرى أخـــويـــكَ الـبـاقِـيـيــنِ فــإنما يكـونـان لـلأحـزَانِ أورى مــن الـزَّنـدِ
إذا لـعِـبـا فـي مـلـعــب لـك لــذَّعــا فؤادي بمثل النار عـن غيـر مـا قَصـدِ
فمـا فيهمـا لـي سَـلـوة ٌ بــلْ حَزَازة ٌ يَهيجانِهـا دُونـي وأَشقـى بـهـا وحدي
وأنـتَ وإن أُفردْتَ فــي دار وحْـشـة ٍ فإني بـدار الأنـسِ في وحشـة الـفـردِ
أودُّ إذا ما المــوتُ أوفـدَ مَـعـشَــراً إلـى عَسكـر الأمـواتِ أنِّـي مـن الـوفْـدِ
ومن كانَ يَستـهـدي حَبِيـبـاً هَـديَّة ً فطيفُ خيـالٍ منـك فـي النـوم أستهـدي
عـلـيــك سـلامُ الله مــني تـحــيَّة ً ومنْ كل غيثٍ صادقِ البـرْقِ والرَّعـدِ
وهذا الصحابي الجليل أبو ذؤيب الهذلي يرثي أبناءه:
أمـن المنـون وريبهـا تتوجـع والدهر ليس بمعتب من يجـزع
قالت أمامة ما لجسمـك شاحبـا منذ ابتذلت ومثـل مالـك ينفـع
ولقد حرصت بأن أدافـع عنهـم وإذا المنيـة أقبلـت لا تـدفـع
وإذا المنيـة أنشبـت أظفارهـا ألفيـت كـل تميمـة لا تنـفـع
فالعيـن بعدهـم كـأن جفونهـا كحلت بشوك فهي عـور تدمـع
وتجلـدي للشامتـيـن أريـهـم أني لريب الدهـر لا أتضعضـع
حتـى كأنـي للحـوادث مـروة نصف المشقر كـل يـوم تقـرع
لابد مـن تلـف مقيـم فانتظـر أبأرض قومك أم بأخرى المضجع
ولقـد أرى أن البكـاء سفاهـة ولسوف يولع بالبكا مـن يفجـع
وليأتيـن عليـك يومـاً مــرة يبكـي عليـك معنفـا لا تسمـع
فلئن بهم فجـع الزمـان وريبـه إنـي بأهـل مودتـي لمفـجـع
والنفـس راغبـة إذا رغبتـهـا وإذا تـرد إلـى قليـل تقـنـع
قد يتعرض الإنسان لخطب يفقده صوابه، ويشغل باله، ويؤرقه في مضجعه، ويشتت شمله في مجمعه: يبدل أمنه ذعرًا وخوفًا، وكل هذا وغيره يضاف إلى فجيعته في فلذة كبده، خاصة إذا كان في عنفوان مجده، وريعان شبابه، ومقتبل عمره، وقد تعلق به والده تعلقا، لا يفارقه في يقظته ومنامه، وذهابه وإيابه.
فهذا ابن رشيد [1] يرثي شباب ابنه النجيب، الذي غُيب، ووُوري في الثرى، والغصن ريان رطيب: فكان لهذا الحدث آثاره، إذْ شابت لموته المفارق، وتاقت إلى غصنه الغض القلوب والعيون، فيقول من قصيدة له: [2] [من الطويل]
شَبابٌ ثَوَى شَابَتْ عليه المفارقُ
وغُصْنٌ ذَوَى تَاقَتْ إِليه الحدائقُ
على حين رَاقَ النَّاظِرين بسوقه
رمته سِهامٌ للعيونِ رَواشقُ
فمَا أخطأتْ منه الفؤادَ بِعَمْدِها
فلا أبصرْت تلك العيونُ الروانقُ
إلى أن يقول:
سبقتَ كُهَولا في الطفولة لا تَنِي ♦♦♦ وأَرْهَقْتَ أَشْياخا وأنت مُراهِقُ
لقد رمته العيون بسهامها، فما أخطأت منه الفؤاد، وقد كان سباقاً بدهائه، وحنكته، وبهائه، منذ نعومة أظفاره، فبذ الكهول، وأرهق الشيوخ. لقد أعي الجميع، بذكاء وعلم وحلم منقطع النظير، مما أشعل نيران الحسرة فيه.
استهلَ الشاعرُ حديثه بالتصريع، كما اتكأ على بعض صور البديع، من مثل الطباق في، شباب وشابت، وكهولة وطفولة، وأشياخ ومراهق وبين أرهقت ومراهق جناس.
وهذا ابن حيان الأندلسي (ت 753 هـ) يرثي ابنته الكاتبة، وقد فارقته، وارتحلت عن الدنيا، والعود نضير ريّان، بعد زيارة النبي المختار، فيقول في أبيات منها: [3] [من الطويل].
فَحَجَّتْ وزَارتْ خَيْرَ من وطئ الثَّرى
نبيٌّ كريمٌ في ذوي الحُرْم شافِعُ
ولمّا قَضَى الرحمنُ إنفاذَ حُكْمِه
وكُلُّ الذِي قَدْ حُمّ لا شَكّ وَاقَعُ
قَضَتْ نَحْبَها شَرْخَ الشبابِ شهيدةً
ولم تك ممن في الحِمَام تُنَازِعُ
ولكن بذهن ثابت قد تشهدت
ثلاثا وفاضت، وَهْيَ فيه تُرَاجِعُ
أبيات تصور أساه، وتصف مصابه، فهي أحب الخلق إليه، وأعزهم عليه، وهي العالمة البهية، المؤمنة التقية، كما تصور - أيضًا الأبيات - أثر العلم والإيمان على المرء خاصة إذا كان في سكرات الموت، فقد من الله تعالى عليها بالشهادة ثلاثا، والتخفيف والتيسير في موقف لا يجدي ولا ينجع فيه إلا طب ودواء الرحمن الرحيم - سبحانه وتعالى الذي وفقها إلى النطق بالشهادتين فكانت آخر كلامها.
[1] هو " محمد بن عمر بن محمد.... بن عمر بن رشيد الفهري، من أهل سبتة، يكنى أبا عبد الله، ويعرف بابن رشيد، توفي سنة 721 هـ وكان مولده سنة 657 هـ. " انظر الإحاطة حـ 3 / 135: 142 .
[2] انظر الإحاطة حـ 3 / 141، 142.
[3] انظر ديوان أبي حيان الأندلسي صـ 268، 269، وله في رثائها أيضًا – أبيات أخرى – تصور سمو منزلتها، في العلم والدين، بين لداتها، فائقة بنات ومسلمي زمانها – منها – انظر الديوان صـ 408: [ من الطويل ].
وما لنضار في البنات نظيرة ففاقت بنات الناس في الحضر والبدو
سَلامٌ على ذاك الشَّبابِ الذي لها فردَّى رِدَاء العِلْم والدين والسرْوِ
سلامٌ على فخر البنات التي غَدَتْ لِدَاتٌ لها تزهى بها أيَّما زَهْوِ
رثاء الأبناء في الشعر الإسلامي المعاصر:
وانتقالاً إلى عصر الحداثة، كان لا بدّ من الوقوف عند رثاء الشاعر السوري نزار قباني ابنه توفيق، بالرغم من أنه ليس إسلامي التوجه، ولكن ليشهد هذا الفن الأدبي أسمى مشاهد التعبير عن هذه المعاناة البشرية الإنسانية، وأرقّ المعاني في تصوير الفجيعة، لقد انفتح على أمداء واسعة، لأن الشاعر أعطاه معنى شمولياً، فجعل من قصيدة رثاء ولده قضيةً عامةً تجاوزت حدود المنزل والوطن، لتصل إلى كل منزل عربي. استطاع قباني نقل صورة الغربة ومرارتها، وكأنه يتحدّث بلسان كل من يفقد عزيزاً بعيداً من وطنه، ويصف عجزه التام وانكساره الكبير، مستعيناً في ذلك بحقل الطبيعة، لأنها الأكثر قدرة على تجسيد بساطة الإنسان وهو في قمّة الحزن، حيث لا مؤثّرات خارجية، ولا مجاملات، إنه الحزن الخالص فقط:
أشيلك يا ولدي، فوق ظهري
كمئذنة كسرت قطعتين..
وشعرك حقل من القمح تحت المطر..
ورأسك في راحتي وردة دمشقية.. وبقايا قمر
أواجه موتك وحدي..
وأجمع كل ثيابك وحدي
وألثم قمصانك العاطرات...
ورسمك فوق جواز السفر
وأصرخ مثل المجانين وحدي....
هذا جزء بسيط من قصيدة عظيمة، تحمل تحوّلاً كبيراً في قصيدة الرثاء العربي. فقد منح قباني قصيدته طاقةً تعبيريةً هائلة، تتفجّر منها التأويلات، لأنها ذات أبعاد ودلالات جديدة، ولم يكتف بالتعبير عن مشاعره فقط، بل قدّم أيضاً صورة ولده المفقود على أنه ذو فرادة، كأنه لوحة حقيقية في حديقة الحياة، لا شبيه له في جماله.
هذه المبالغة منحت الشعر طابعاً مميّزاً، ومكّنته من الإيغال في قلب المتلقّي بسهولة ويسر، فتجد نفسك عاجزاً عن منع دموعك من التمرّد والانهمار. ووصف الحب في بلادنا.
ومع غسان مطر الشاعر اللبناني المعاصر، في رثاء ابنته "لارا"، في ديوانه "عزف على قبر لارا"، يظهر التجديد جلياً أيضاً، فما عادت العبارات سطحية، إنما اكتسبت عمقاً كبيراً جداً، فكانت أرحب في التعبير عن الحزن العظيم الذي انتابه لفقده ابنته:
قبر ووجهك؟ كيف يلتقيان؟
ما كان أحلى أن يقال:
قمر ووجهك...
آه أحلى،
غير أن دمي المسافة
بين ما كان...وما يقال
لم يكن الشاعر قادراً على تقبّل فكرة نوم ابنته الأبدي في ذلك القبر، وهي التي يليق بها الفضاء الشاسع بكل ما فيه من جمال، لكن عبثاً هذه الأمنيات تطوف في ذاته المنكسرة.
وكان للشاعر العراقي خالد الداحي نصيب من الحزن والبكاء على ولده محسد أيضاً، ففي قصيدته "بكاء عند بوابات الموصل" نقرأ تلك اللوعة الجارفة:
يا فارساً عشق الصهيل فملّ أخمصه الركاب
"حول" فقهوتنا الدموع وزادنا وجع مذاب!
وأنا يتيمك ضائعاً أمشي ويخدعني السراب
لقد شبّه ولده بالفارس الذي ملّه الركاب، فمضى بعيداً إلى حيث لا عودة، وبين ما آلت إليه أحواله بعد غيابه عنه، إذ وصل إلى مرحلة اليتم من الحياة كلياً، يبحث في صحرائها عن أمل ضائع، فإذا كل ما حوله سراب قاتل.
في الخلاصة، يشكل الرثاء أجمل الفنون الشعرية، لأنه نابع من مشاعر صادقة جداً، وفي أوقات يكون الإنسان فيها يائساً خاضعاً لسلطة الوجع والموت، ولا تحتمل الكذب والنفاق والمجاملات، لذا جاء عفوياً تملأه العاطفة المتدفّقة التي تشدّك إليها بكل ما فيك من إنسانية، فكيف إذا كان رثاء الأبناء؟
تقرأه فتنتابك نوبة البكاء الحاد والاحتراق. إذ يتجلّى لك الموت النفسي في كامل هيئته، ولا داعي للتكلّف، والصنعة، والتقنيات، وربما لا قدرة عليها. فالشعراء في مثل هذه الحال ينشغلون بمآسيهم عمّا عداها، والأمر المنطقي المعروف، أن الإنسان عندما يكون في صلب الحدث تكون رؤيته محدودة، لأنها من زاوية واحدة فقط، وهو غير قادر على الإلمام بكل ما يحيط به، أو النظر بعين العقل والإدراك، وهذا ما لاحظناه في شعر الرثاء. إنه يضجّ بما يشغل الشاعر فقط، عاطفة صارخة، وبكاء وتفجّع، وندب ومطالبة بالثأر كما عند الحارث بن عبّاد، لأن هذه الفكرة منغرسة في كلية الجاهلي ولاوعيه، ولا يستحضرها في تلك اللحظات.
ومع دخول عصر الإسلام، نلاحظ تسليماً بقضاء الله، فما عاد الموت مخيفاً، وما عاد العدم والفناء مصدر قلق، بل صار الموت مرتبطاً بالآخرة إلى جوار الله، خصوصاً مع الشهادة في سبيله.
والملفت في هذا الشعر أيضاً التركيز فقط على موضوع واحد، وترك المقدّمات الطللية.
أما مع عصر الحداثة وما بعدها، فنجد تطوّراً في فن الرثاء، ولا غرابة في ذلك، لأن الشعر عموماً تأثّر ويتأثّر بالتغييرات الجذرية على صعيد العالم، من حيث الشكل والمضمون، لأن الموضوعات المطروحة يجب أن تلائم عقلية الإنسان في هذا الزمن وهو إبن بيئته، لذا نقرأ لغةً شفّافةً إلى أبعد الحدود، محمّلةً بالكثير من الدلالات بعيداً من المباشرة والسطحية في التعبير.
رثاء ابنة:
يقول سعيد بن محمد السناري: ( هذه القصيدةُ كتبتُها بمداد أشجاني، وسطرتُ حروفَها بدموع أحزاني، وجعلتُ منطقها على لسان أبٍ فلسطيني بائسٍ، يرثي ابنتَه الصغيرة التي قُتلت يوم زفَافِها، وذُبِحتْ فرْحتُها وهي في ربيع عمرِها، أمام عين أبيها وهو واجمُ القلب المحسور، لم يملك إلاَّ أن يقول وصدْرُه بالحزن مغمور:
إِنْ جَاءَ فَرْحٌ أَوْ أَلَمَّ سُرُورُ فَالدَّمْعُ بَاقٍ فِي العُيُونِ بُحُورُ
يَا عَيْنِ هَاتِي الدَّمْعَ بَلْ هَاتِي الدِّمَا هَذَا دَوَاءُ القَلْبِ وَهْوَ كَسِيرُ
نِيرَانُ جُرْحٍ لَمْ تَزَلْ بَيْنَ الحَشَا تَغْلِي مَرَاجِلُهَا بِهَا وَتَفُورُ
يَا لَوْعَةَ النَّفْسِ الَّتِي قَدْ جُرِّعَتْ كَأْسَ العَذَابِ وَشَأْنُهَا التَّكْدِيرُ
دَعْ عَنْكَ لَوْمِي فِي مُصَابِي لائِمِي مَا كُلُّ مَكْلُومِ الضَّمِيرِ يَثُورُ
وَاسْمَعْ مُصِيبَاتٍ حَلَلْنَ بِسَاحَتِي كَادَ الفُؤَادُ لِهَوْلِهِنَّ يَطِيرُ
يَا نَاعِيَ الإِسْلامِ أَقْبِلْ بَاكِيًا قَدْ حَانَ وَقْتُ النَّعْيِ وَالتَّغْيِيرُ
زَفَرَاتُ حَسْرَةِ أُمَّتِي أَمْسَتْ لَهَا نَفْسُ الرَّحِيمِ مِنَ البُكَاءِ تَخُورُ
نَاحَتْ عَلَى الأَيْكِ الحَمَائِمُ بَعْدَمَا كَانَتْ لَهَا فَوْقَ الغُصُونِ هَدِيرُ
وَتَحَجَّبَتْ شَمْسُ الحَيَاةِ بِنُورِهَا وَاسْتَوْحَشَتْ بَعْدَ الأَمَانِ صُدُورُ
فَاسْأَلْ دِيَارًا بِالدِّمَاءِ تَخَضَّبَتْ جُدْرَانُهَا وَظَلامُهَا مَنْشُورُ
مَا حَالُهَا عَمَّ الأَنِينُ بِدُورِهَا وَالفَرْحُ فِيهَا مَيِّتٌ مَقْبُورُ
تِلْكَ المَسَاكِنُ إِنْ تَسَلْ عَنْ شَأْنِهَا وَصُرَاخُ صَوْتِ نِسَائِهَا مَهْدُورُ
أَوَمَا تَرَى ثَكْلَى هُنَاكَ وَقَلْبُهَا مِنْ فَرْطِ كَثْرَةِ حُزْنِهَا مَفْطُورُ
تِلْكَ المَآسِي قَدْ ذَهَبْنَ بِفَرْحَتِي فَنَهَارُ أَمْلِي فِي الحَيَاةِ قَصِيرُ
دَارَتْ بِأَرْضِ القُدْسِ كَاسَاتُ الرَّدَى لَيْلاً وَغَارَاتُ الزَّمَانِ تُغِيرُ
فِي غَزَّةِ الأَوْطَانِ كَانَ مُصَابُنَا جَرَّاءَ قَصْفٍ شَأْنُهُ التَّدْمِيرُ
عَصَفَتْ رِيَاحُ القَهْرِ غَدْرًا بِابْنَتِي فِي يَوْمِ عُرْسٍ وَالشُّمُوعُ تَدُورُ
كَانَتْ كَبَدْرٍ أَشْرَقَتْ أَنْوَارُهُ لَيْلَ الزِّفَافِ وَقَدْ عَلاهَا النُّورُ
فَالثَّغْرُ مِنْهَا بَاسِمٌ مُتَلأْلِئٌ وَالوَجْهُ مِنْهَا مُشْرِقٌ وَنَضِيرُ
وَالكَوْنُ يَضْحَكُ وَالسَّمَاءُ مُضِيئَةٌ وَالفَرْحُ فِي مُقَلِ العُيُونِ غَزِيرُ
لَكِنَّ أَفْرَاحَ القُلُوبِ تَبَدَّلَتْ حُزْنًا وَأَظْلَمَ رَبْعُنَا وَالدُّورُ
وَتَكَدَّرَتْ بَعْدَ السُّرُورِ نُفُوسُنَا وَتَمَزَّقَتْ بَعْدَ الوِصَالِ سُتُورُ
لَمَّا أَصَابَ صَغِيرَتِي سَهْمُ العِدَا وَتَغَيَّبَتْ شَمْسٌ بِهَا وَبُدُورُ
لَهْفِي عَلَى الجَسَدِ المُضَرَّجِ بِالدِّمَا بَيْنَ الحِجَارَةِ قَدْ عَلاهُ زَفِيرُ
نَادَى بِصَوْتٍ خَافِتٍ كَادَتْ لَهُ نَفْسِي تَذُوبُ بِلَوْعَةٍ وَتَمُورُ
فَهَوَيْتُ نَحْوَ الصَّوْتِ أَلْتَمِسُ النِّدَا وَالطَّرْفُ مِنْ هَوْلِ المُصَابِ حَسِيرُ
فَإِذَا دِمَاءُ صَغِيرَتِي خَضَبَتْ يَدًا كَانَتْ تُدَاعِبُنِي بِهَا وَتُشِيرُ
قَدْ غَيَّبَ القَصْبُ الرَّهِيبُ جَمَالَهَا فَالنَّحْرُ مِنْهَا نَازِفٌ مَنْحُورُ
فَطَفِقْتُ أَصْرُخُ مِلْءَ صَوْتِي: وَيْلَتِي هَلْ مِنْ مُغِيثٍ فَالدِّمَاءُ كَثِيرُ
هَلْ مِنْ طَبِيبٍ مُنْقِذِي مِنْ نَكْبَتِي عُصْفُورُ قَلْبِي مِنْ يَدِي سَيَطِيرُ
فَإِذَا الطَّبِيبُ وَقَدْ أَتَى مُتَلَهِّفًا نَحْوَ ابْنَتِي قَدْ سَاءَهُ التَّأْخِيرُ
فَأَصَابَ مِنْهَا مَدْمَعًا فَاضَتْ لَهُ عَيْنُ الطَّبِيبِ وَشَأْنُه التَّغْيِيرُ
فَأَشَارَ مِنْ غَرْبِ العُيُونِ إِشَارَةً: فَاتَ الأَوَانُ وَخَانَنَا التَّقْدِيرُ
عَجَزَ الدَّوَاءُ عَنِ الشِّفَاءِ وَمَا لَنَا فِيمَا قَضَاهُ إِلَهُنَا تَخْيِيرُ
إِنِّي أَرَى نَحْبَ الفَتَاةِ قَدِ انْقَضَى وَأَنَا بِهَذَا عَارِفٌ وَخَبِيرُ
ثُمَّ انْزَوَى عَنَّا الطَّبِيبُ وَحُزْنُهُ لِمُصَابِنَا فِي وَجْهِهِ المَسْطُورُ
فَسَقَطْتُ مُنْتَحِبًا عَلَى جَسَدِ ابْنَتِي أَبْكِي وَأَنْعَى حَالَنَا وَأَثُورُ
فَتَنَهَّدَتْ وَالدَّمْعُ دُونَ جُفُونِهَا ذَرٌّ عَلَى وَجَنَاتِهَا مَنْثُورُ
وَتَنَفَّسَتْ لِلمَوْتِ قَائِلَةً وَقَدْ قُصِمَتْ بِزَفْرَتِهَا هُنَاكَ ظُهُورُ
أَوَّاهُ يَا أَبَتَاهُ مِنْ جُرْحٍ لَنَا نِيرَانُهُ بَيْنَ الضُّلُوعِ سَعِيرُ
قَدْ بَرَّحَ الأَلَمُ العَقِيمُ بِمُهْجَتِي وَأَذَابَ قَلْبِي حَسْرَةٌ وَثُبُورُ
أَحْلامُنَا قُتِلَتْ بِغَيْرِ جَرِيرَةٍ وَجَوَادُ فَرْحَتِنَا هُنَاكَ عَقِيرُ
مَا ذَنْبُنَا كَيْمَا تَسِيلَ دِمَاؤُنَا وَكَأَنَّهَا بَحْرٌ بِنَا مَسْجُورُ
أَبَتَاهُ لا تَذْرِفْ دُمُوعَكَ وَاصْطَبِرْ عَمَّا قَلِيلٍ يَنْتَهِي المَقْدُورُ
عَمَّا قَلِيلٍ تَنْقَضِي أَحْلامُنَا وَيَغِيضُ مَاءُ حَيَاتِنَا وَيَغُورُ
مَا سَاءَنِي أَلَمِي وَلَكِنْ سَاءَنِي زَفَرَاتُ حُزْنِكَ فِي الهَوَاءِ تَطِيرُ
بِاللَّهِ مَهْلاً مَا لِقَلْبِي أَنْ يَرَى مِنْكَ المَدَامِعَ فِي العُيُونِ تَثُورُ
إِنِّي أَرَى دُونَ السَّحَابِ بَشَائِرًا قَدْ أَقْبَلَتْ بَيْنَ الغَمَامِ تَسِيرُ
تِلْكَ المَلائِكُ لا تَسَلْ عَنْ حُسْنِهَا جَاءَتْ رَكَائِبُهَا بِهَا وَالحُورُ
فَكَأَنَّهُمْ لِزِفَافِ رُوحِيَ قَدْ أَتَوْا وَالحُورُ فَوْقِي كَالبُدُورِ تَدُورُ
مَعَهُمْ لِتَجْهِيزِي ثِيَابٌ سُنْدُسٌ وَلِغَسْلِ دَمْعِي عَنْبَرٌ وَكَفُورُ
أَبَتَاهُ لا تَغْفَلْ زِيَارَةَ مَرْقَدِي يَوْمًا لِئَلاَّ يَجْزَعَ المَقْبُورُ
فَأَنَا الوَحِيدَةُ رَهْنُ قَبْرٍ مُظْلِمٍ أَمْسَيْتُ فِيهِ وَخَاطِرِي مَقْهُورُ
أَبَتَاهُ قَدْ حَانَ الفِرَاقُ فَلَيْتَنَا وَافَى بِنَا قَبْلَ الرَّحِيلِ نَذِيرُ
فَأَجَبْتُهَا وَالدَّمْعُ يُحْرِقُ مُقْلَتِي وَالقَلْبُ يَنْزِفُ وَالمُصَابُ كَبِيرُ
بِنْتَاهُ يَا رُوحِي وَمُقْلَةَ نَاظِرِي وَجَمَالَ نَفْسِي إِنْ عَرَاهُ فُتُورُ
يَا زَهْرَةَ البُسْتَانِ يَا قَطْرَ النَّدَى يَا جَنَّةً فِيكِ النُّجُومُ تُنِيرُ
يَا بُلْبُلاً غَنَّى عَلَى غُصُنِ الجَوَى وَشَدَا بِصَوْتٍ زَانَهُ التَّأْثِيرُ
وَسْطَ المُرُوجِ وَبَيْنَ سَاحَاتِ الفَضَا قَدْ رَاحَ يَلْهُو تَارَةً وَيَطِيرُ
يَا بَسْمَةً كَانَتْ عَلَى الثَّغْرِ الَّذِي مَا أَنْ بَدَا فَاحَتْ هُنَاكَ عُطُورُ
قَدْ كُنْتِ لِي نُورَ الحَيَاةِ وَشَمْسَهَا فَغَدَوْتُ أَعْمَى فِي الظَّلامِ يَسِيرُ
ضَحِكَاتُ فَرْحِكِ لا تَزَالُ تَهُزُّنِي وَتُطِيلُ آلامَ الجَوَى وَتُثِيرُ
دَقَّاتُ قَلْبِكِ فِي الفُؤَادِ طَوَارِقٌ يَصْدَعْنَ نَفْسِي وَالإِلَهُ خَبِيرُ
تِلْكَ المَحَاسِنُ فِي التُّرَابِ تَغَيَّبَتْ وَجَمَالُهَا فِي قَبْرِهَا مَدْثُورُ
كَأْسُ المَنِيَّةِ قَدْ أَصَابَكِ بَغْتَةً فَشَرِبْتِ مَاءَ المَوْتِ وَهْوَ مَرِيرُ
قَدْ كَانَ لا يَحْلُو غِيَابُكِ سَاعَةً كَيْفَ التَّسَلِّي وَالغِيَابُ دُهُورُ
يَا لَيْتَنِي قَدْ كُنْتُ قَبْلَكِ ثَاوِيًا حُفَرَ التُّرَابِ فَيَشْتَفِي المَصْدُورُ
مَا طَابَ عَيْشِي فِي الحَيَاةِ صَغِيرَتِي مُذْ غَابَ بَدْرُ جَمَالِكِ المَسْتُورُ
كَبِدِي يَسِيلُ مَرَارَةً أَبَدًا وَإِنْ مَرَّتْ عَلَيَّ صَوَارِفٌ وَعُصُورُ
إِنْ قِيلَ صَبْرًا قُلْتُ قَدْ غَرَبَتْ لَهُ شَمْسٌ وَغَابَ ضِيَاؤُهَا وَالنُّورُ
أَوْ قِيلَ رِفْقًا قُلْتُ كَيْفَ وَهَذِهِ أَمْوَاتُ فَرْحِي مَا لَهُنَّ نُشُورُ
فَإِلَى اللِّقَاءِ صَغِيرَتِي فِي عَالَمٍ مَا فِيهِ حُزْنٌ بَلْ هُنَاكَ سُرُورُ
فِي جَنَّةٍ فِيهَا الأَحِبَّةُ تَلْتَقِي وَالرَّبُّ رَاضٍ وَالشَّرَابُ طَهُورُ
وها هو الشاعر المصري محمد حسن فقي يرثي ابنته (فوزية) بعد وفاتها بداء عضال، فيقول:
سخوت بها على ريب المنون ** لما قاسته مـن ألـم طحـون
لقد قاست من الآلام ما لم ** يُقـاس المستـوون علـى أتـون
أجوهرتي التي كانت فتونًا *** و لألاء تُـدلّ علـى الغصـون
لقد عصفت بك الدنيا فأبكـت ** عليـكِ توجُّعًـا كـل العيـون
و كم قاسيت من شجن، و لكن ** مُصابك كان لي شجن الشجون
***
إذا حكم القضاء فليس يُجدي ** عليك سوى خضوعك للقضـاء
وما أنا بالذي أشكو اكتوائي ** ولا أنا بالذي أنعـى ابتلائـي
لقد فوّضت أمري منذ أمسي ** ومذ يومـي إلـى رب السمـاء
وأعرف أنه يدري بدائـي ** ويرحمنـي ويعطينـي دوائـي
رضيت بكل رزء حين يرضى ** فإن رضاءه أوفـى الجـزاء
لهيب الأسى:
ومن أروع شعر النساء في رثاء الأبناء قصيدة الشاعرة عائشة التيمورية ترثي ابنتها حيث تقول:
إن سال من غرب العيون بحــور *** فالدهر باغ والزمان غدور
فلكل عيـن حق مدرار الدمـــا *** ولكل قلب لوعة وثبــور
ستر السنا وتحجبت شمس الضحى*** وتغيبت بعد الشروق بدور
ومضى الذي أهوى وجرعني الأسى **وغدت بقلبي جذوة وسعير
يا ليته لما نوى عهد النـــــوى *** وافى العيون من الظلام نذير
****
طافت بشهر الصوم كاسات الردى *** سحرا وأكواب الدموع تدور
فتناولت منهــا ابنتـي فتغيرت *** وجنات خد شانها التغييــر
فذوت أزاهير الحياة بروضهــا *** وانقد منها مائس ونضيــر
لبست ثياب السقم في صغر وقد *** ذاقت شراب الموت وهو مرير
جاء الطبيب ضحى وبشر بالشفا *** إن الطبيب بطبه مغـــرور
وصف التجرع وهو يزعم أنـه *** بالبرء من كل السقام بشير
****
فتنفست للحزن قائلة لــــه *** عجل ببرئي حيث أنت خبيـر
وارحم شبابي إن والدتي غـدت ** تكلى يشير لها الجوى وتشير
وارأف بعين حرمت طيب الكرى *** تشكو السهاد وفي الجفون فتور
****
لما رأت يأس الطبيب وعجزه *** قالت ودمع المقلتين غزير
أمــاه قد كل الطبيب وفاتني *** بما أؤمل في الحياة نصير
لو جاء عراف اليمامة يبتغي *** برئي لرد الطرف وهو حسير
يا روع روحي حلها نزع الضنى *** عمـا قليل ورقها ستطيــر
أماه قد عز اللقاء وفي غد *** سترين نعشي كالعروس يسير
وسينتهي المسعى إلى اللحد الذي *** هو منزلي وله الجموع تصير
قولي لرب اللحد رفقا بابنتي *** جاءت عروسا ساقها التقدير
وتجلدي بإزاء لحدي برهة *** فتراك روح راعها المقدور
أماه قد سلفت لنا أمنية *** يا حسنها لو ساقها التيسير
كانت كأحلام مضت وتخلفت *** مذ بان يوم البين وهو عسير
****
عودي إلى ربع خلا ومآثر *** قد خلفت عني لها تأثير
صوني جهاز العرس تذكارا فلي *** قد كان منه إبى الزفاف سرور
جرت مصائب فرقتي لك بعد ذا *** لبس السواد ونفِّذ المسطور
والقبر صار لغصن قدي روضة *** ريحانها عند المزار زهور
أماه لا تنسي بحق بنوتي *** قبري لئلا يحزن المقبور
****
فأجبتها والدمع يحبس منطقي *** والدهر من بعد الجوار يجور
بنتاه يا كبدي ولوعة مهجتي *** قد زال صفو شأنه التكدير
لا توصي ثكلى قد أذاب فؤداها *** حزن عليك وحسرة وزفير
فسما بغض نواظري وتلهفي *** مذ غاب إنسان وفارق نور
وبقُبلتي ثغرا تقضى نحبه *** فحرمت طيب شذاه وهو عطير
والله لا أسلو التلاوة والدعا *** ما غردت فوق الغصون طيور
كلا ولا أنسى زفير توجعي *** والقد منك لدى الثرى مدثور
إني ألفت الحزن حتى أنني *** لو غاب عني ساءني التأخير
قد كنت لا أرضى التباعد برهة *** كيف التصبر والبعاد دهور
أبكيك حتى نلتقي في جنة *** برياض خلد زينتها الحور
ان قيل عائشة أَقول لقد فَنى *** عيشى وصبري والاله خبير
ولهى على توحيده الحسنِ التي*** قَد غابَ بَدر جمالها المستور
قَلبي وجفني واللسان وخالقي *** راض وباك شاكر وغفور
متعت بِالرضوان في خلد الرضا*** ما ازينت لك غرفة وقصور
وسمعت قَول الحقِّ للقوم ادخلوا *** دار السلام فسعيكُم مشكور
****
هذا النعيمُ به الاحبة تلتقي *** لا عيشَ الا عيشه المبرور
ولَك الهناءُ فَصدق تاريخي بَدا *** توحيدُه زفت ومعها الحور
إعرابية ترثي ابنها:
وتصور أعرابية مدى حزنها على ولدها الراحل، وتقول إن بقاء الناس بعده أو موتهم جميعاً، فالأمر عندها سيان:
من شاء بعدك فليمت فعليك كنت أحـاذر
كنت السواد لناظري فعمى عليك الناظـر
ليت المنازل والديار حفـائـر ومقـابـر
إني وغيري لا محالة حيث صرت لصائر
وهذا شعر حزين عن فراق الابن، كتبها شاعر مغمور:
كَأنّ العينِ خالَطها قَذاها لِحزنٍ واقعٍ أفنى كراها
عَلى ولدٍ وَزين الناس طرّاً إِذا ما النارُ لَم ترَ مَن صلاها
لَئِن حَزنت بنو عَبسٍ عليهِ فَقَد فَقدت بهِ عبسٌ فتاها
فَمَن لِلضّيفِ إِن هبّت شمالٌ مُزعزعةٌ يُجاوِبها صَداها
أَسيّدكم وَحاميكم تَركتم عَلى الغبراءِ مُنهدماً رحاها
تَرى الشمّ الجحاجحَ مِن بغيضٍ تَبدّدَ جَمعُها في مُصطلاها
فَيَتركها إِذا اِضطربت بِطعنٍ وَيَنهبها إِذا اِشتَجَرت قَناها
حَذيفةُ لا سُقيتَ مِنَ الغَوادي وَلا روّتكَ هاطلةٌ نداها
كَما أَفجَعتني بِفتىً كريمٍ إِذا وُزِنَت بنو عَبسٍ وفاها
فَدَمعي بعدهُ أبداً هطولٌ وَعَيني دائمٌ أبداً بكاها
رثاء الشاب الشهيد قتية محمد إياد العكاري:
يقول والده الشاعر د. محمد إياد العكاري في رثائه: بمزيد من الرضى والتسليم بقضاء الله وقدره تلقيت نبأ استشهاد ابني (قتيبة محمد إياد العكاري ) موثقاً بتاريخ ٥/٨/٢٠١٤م من مظلمة صيدنايا ومحكمتها الميدانية في دمشق رحمه الله ،وطيب ثراه، وأحسن مثواه، وتقبله شهيداً في عليين.
وكان قد تم اعتقاله بتاريخ ٣٠/٥/٢٠١٣م أثناء الامتحانات النهائية في كلية طب الأسنان السنة الرابعة في جامعة اللاذقية قبل أكثر من خمس سنوات ونصف ولم نعلم عنه شيء حتى تاريخه، فقد سلمناه لمولاه، واستودعناه رب العالمين، وهو نعم المولى ونعم النصير ،فالحمد لله على كل حال، والحمد لله الذي لا يحمد على مكروه سواه، والحمد لله أنه في كنف مولاه، وجوار ربه، ولا أقول إلا حسبنا الله ونعم الوكيل، وإنا لله وإنا إليه راجعون، أدعو المولى سبحانه أن يتقبله شهيداً في عليين ،وأن يجمعني به وبشهدائنا الأبرار في مستقر رحمته في أعلى عليين مع النبيين والصديقين والشهداء والصالحين، وحسن أولئك رفيقاً، وأن يشفعه بي وبأمه وإخوته، اللهم آمين هنيئاً له الشهادة وأي مقام ناله وبلغه، هي اصطفاء واختيار ...أي والله أي والله "ولنتخذ منكم شهداء" صدق الله العظيم والويل، ثم الويل، ثم الويل للظالمين.
وكتب د. محمد إياد العكاري قصيدة رثاء له تحت عنوان (يَا رَبَّ يُوسُفَ أَنْتَ مَوْلاهُ):
ياثاوياً بالقلب مأواهُ يا مهجةً بالرُّوحِ سُكْنَاهُ
يامقلةً للعينِ بَهْجَتُهَا نورُ التَّألُّقِ في مُحَيَّاهُ
يا فلذةً بالصَّدرِ قد مَلَكَتْ كلَّ المَشَاعرِ في حَنَاياهُ
وله يَهِيجُ القلبُ في صَخَبٍ ولَهُ يَئِنُّ بجمرِ شَكواهُ
وكثرة الصيغ الطلبية والأسلوب الإنشائي من نداء (يا ثاوياً، يا مقلة، يا فلذة، أبني، أين وماذا ...)، مما يتلاءم مع حالة الحزن والهيجان العاطفي لدى الشاعر ...
أَبُنَيَّ أيْنَ..؟ وأنتَ في كَبِدِي بين الضُّلوعِ تُقيمُ ..سَلْوَاهُ
ماذا جَنَيْتَ فِداكَ كُلَّ دَمِي؟؟ وَلِمَنْ أُقَاضي فِيكَ إلَّاهُ؟؟
وبِمَنْ أَلوذُ ؟؟وَمَنْ لِمَسْأَلَتي؟ والصَّوْتُ بُحَّ ..ومَلْجَئي اللهُ
وأكَادُ أشْرَقُ إنْ ذَكَرْتُ فتىً = رُوحي تَقَطَّعُ إنْ ذَكَرْنَاهُ..
ويشكو إلى الله ظلم الطاغية بشار الأسد وزمرته، ويصور هول المصاب الذي ابيض له الشعر، وشاب الفؤاد..
ولدي قُتَيْبَةُ هل إليكَ سُرىً؟! والظُّلمُ أعمى الحَال أَعْيَاهُ..
سنتان قلبي انهدَّ والَهَفي = والشَّيب عَسْكَرَ شفَّ مَرْآهُ
سنتان والأقدار ماضيةٌ= في سِرِّ غيبٍ ما سَبَرناهُ
سنتانِ كالعشرينَ سَطْوَتُهَا = وأصيحُ يا وَلَدي لك اللهُ..
ويصور الشاعر حال الأم المحتسبة (أم أنس) التي فقدت فلذة كبدها، فيقول:
والأمُّ.. قلبُ الأُمِّ مُنْفَطِرٌ = وتكادُ لا تقوى لذِكراهُ
وترى الشُّرودَ ملاذَها هرباً = فالحالُ أَضْنَانا وأَضْناهُ
أمَّا الفؤادُ أَكَادُ أَحْسَبُهُ = من فرطِ حِسٍ نَبْضُهُ الآهُ
والبيت رغم الصَّبر بحرُ أسىً والَهْفَ نفسي كيفَ نَنْسَاهُ ؟!
لقد تحولت أفراح المنزل إلى ألم وأسى بعد رحيل الشهيد الفقيد.
ويناجي شاعرنا العكاري ولده الشهيد السعيد بإذن الله، فيقول:
ولدي ضناي..أأنت تسمعني!؟ = في أيِّ حالٍ أَنتَ أَوَّاهُ ؟؟
أين اختفيت؟؟ وهل أَراكَ أَبي؟؟ = ابني قتيبةُ .. كيف مَحْيَاهُ!؟؟
ومتى اللقاءُ؟؟ وكيف أَشْهَدُهُ؟؟ = ياربَّ يوسُفَ أنتَ مَوْلاهُ
والصَّبُر زادي واليقينُ رضىً = بِخَفِيِّ لُطْفِكَ مُنَّ ربَّاهُ
إِنْ غبت عني اليومَ ياوَلَدي = فغداً أراكَ ..وسَوْفَ ألقاهُ
فاللهُ لا ينسى خَلائِقَهُ = والله حَسْبي ..حَسْبيَ اللهُ
رثاء مجاهد لولده الشهيد..
لقد كتب الشاعر الداعية محمد علي صوان هذه القصيدة النابعة من قلب أب مجاهد لابن مجاهد شهيد، فجاءت حارّة العبرة صادقة اللوعة نظمها الشاعر بعد وداع ولده الشهيد (محمد ياسر) لأهله إذ قال: ( ليست غايتي في الكون أكل وشرب ونوم فالحمار والخروف يفعل هذا ..إن لي غاية في الوجود هي إعلاء دين الله في الأرض فإما حياة بنصر الإسلام أو جنة عرضها السماوات والأرض.. فيا أبي والله ما شعرت بحلاوة الإيمان في لحظة كما شعرت بها إذ اعتقلت بالأمس وعصرني الدولاب فناجيت ربي ( يا رب روحي لك فإن أخذتها الآن فلك الحمد على ما أعطيت وأخذت وإن أجلتها لوقت آخر فلك الحمد على ما أعطيت وأبقيت والله لقد شعرت أن الله يؤانسني من كل جانب فيالشقاء الملحدين الذين لا يقرون بأن لهم رباً يؤانس في الشدة ..ويا أبي ادفع مهر عروسي لإخواني المجاهدين فلقد تكفل الله بالعروس وجهازها ولقد طلقت الدنيا رغبة بخالقها فامدد يمينك يا أبي معاهداً لله. واركب سفينة الجهاد فالله ربانها..
من مبلغ الأهل؟ إن أبقى الزمانُ لهمُ ذكراً إذا لم يقلْ: بالأمس قد كانوا
قد قسم الدهر أحبابي فنصفهم طواه سجنٌ ولفَّ النصف أكفانُ
يا زائر الحيّ إن جزت الحمى غلساً وقد تنكر أحبابٌ وجيرانُ
وأوصدت دونك الأبواب من وجلٍ وأطفأ النور والنيرانُ سُكانُ
فقف ولا تخشَ ظلاماً ولا ظلماً إذ طالما أمّ ذاك الباب عميانُ
وطالما دق ذاك الباب أرملةٌ لها يتيمان: جوعان وعريانُ
فلم يردوا بما يغضي ولا ظلموا إذ صان حقهم بالأمس صوّان
فقف على الباب واسألها إذا وعيت يا دارُ: مالك لم يُؤنسك قرآن؟
أين الزمانُ الذي ذقنا حلاوته ؟ نجني من الشهد ما لم يجنِ نُعمانُ
أبُدّلَ الشهدُ مُرّاً في مذاقته ؟ أم بَدّلتْ طعمه في الحلق أشجانُ ؟
طابت لياليك فاستهوت أراقمها وصار يسكنُ دارَ الإلف ثعبانُ
وأبعد الطيرُ عن أفنانه فشجا فهل تمّلّ شجيّ الطيرِ أفنانُ ؟
يا دارُ: أين العذارى فيك ساجدةً ؟ أين الشبابُ ؟ وما ضلوا وما خانوا
وأين ياسر ؟ يا بدرُ ادن لي كرماً قد غابَ ندّك إن القلب ولهانُ
حالك يته في العلا وجهاً ومكرمةً لكنّ تغايرتما - إذ فيك نُقصانُ –
والشمس إن غيبتْ مسراك من خجلٍ فما يُغيبه في السير فتيان
أسائل الشمس عنه كلما غربتْ يا شمس هل لك في مسراه عرفانُ
غاب الحبيبُ فهل في الكهف مسكنه ؟ أم بين موتى هم الأحياء إن بانوا
ونلثم الريح إن هبَّ القبولُ بها لعلّ من ريحه روحٌ وريحانُ
ونسأل الدرب عن ليثٍ سريع خُطى عالي الجبين – وكم لليسر خلانُ- ؟
وكم جُنوني تلفُّ الطيف في غلسٍ حفظاً ويُسكنه في القلب إيوانُ ؟
أراقبُ الباب في شوقٍ لطارقه لعله من له في القلب إسكانُ
فكل فتحة ِباب جددت أملاً والقلب بالظن بعد اليأس فرحانُ
فيالميت الرّجا كم صار ذا أملٍ ؟ وكم يفرُّ لطيف الحلم يقظانُ ؟
حتى طوى أملي من كان يصحبه بن يخرج الشيخُ ما باليد إمكانُ
فعدت أجملُ آهات إذا زفرت تُذيبُ دمعاً له للقلب أشطانُ
وصور الشاعر مرارة يوم الفراق وقسوته فقال:
يوم الفراق: فما أقساك من زمن ٍ؟ الأمّ تبكي وحول الأمّ غلمانُ
فقال: رُحماك هل عيشنا لقمٌ ؟ كالبُهم نحيا إذا ما البطنُ ملآنُ
خُلقتُ في الكون أحمي دين خالقه يا ضيعة العمر شبعانٌ وجوعانُ
إما حياةٌ بجنب الله هانئة أو نصرُ ديني ونصرُ الله رضوانُ
لقد طلق الشهيد دنيا الناس ثلاثاً لا رجعت فيها وعاهد الله على الثبات وعدم الانحراف والضلال:
طلقت دنياكم حبّاً بخالقها ولن أزيغ إذا ما الكون زيغانُ
فاركبْ معي يا أبي: لله مشرعة ولن تضلَّ وربّ العرش رُبّان
والموجُ طودٌ كإشفاقي فهات يداً لا عاصم اليوم للطغيان طوفانُ
هذي سبيلي وما دربي بها عوجٌ وليس ديني إنكارٌ وإيقانُ
والبحر أركبه والقلبُ في ظمأٍ لكوثر الخُلد لا للوحل حرّانُ
وكان ينادي ربه أثناء موجة التعذيب والسياط تنهش جسده اللطيف بكل وحشية فقد وهب روحه لله فليفعل السجان ما ملكت يداه:
ناديت ربي والدولابُ يعصرني والسوطُ لان بأيديهم وما لانوا
ربّاه : روحي لكم فافعل بما ملكتْ يُمناك ما ملكوا روحي وإن هانوا
فالمرُّ يحلو لوجه الله علقمه وليس تحميك بعد الله أكوانُ
لا أحبسنَّ دماً الله أودعهُ قلبي، فإن ثرى الإسلام عطشانُ
ويسترسل الشاعر في الكلام على لسان الشهيد الذي راح يوصي أباه بأن يبذل جهاز عرسه، فيشتري العتاد والسلاح لمواجهة الخطر الداهم:
فابدل جهاز عروسي عُدة حُشيت كيد اللظى قد بدا للصعق إيذانُ
وقل لمن حامَ قلبي فوق مسكنها وما طبت مُهجتي دور وحيطانُ
أقام موسى جداراً هدَّ من قدم ٍ وهي الكنوزُ لها في القلب جدرانُ
ماكنت أقوى على السلوان إن بعدت كانت تقربها عيني وأجفانُ
هدمتُ لله أحلاماً عمرتُ بها عمري فلا هدّها ضيم وبهتانُ
نادى المنادي فطعتُ الذي وصلت وحال دون سرير الوصل ميدانُ
حرّمتُ لمَّ اللّمى والخدّ في ضعة ٍ إنّ أمتي ذلها ذلّ وخذلان
فما غنتْ حمرةُ الخدين عن لهبٍ وما غناني عن الرّمانِ رُمّانُ
ولا أتوق لكأسٍ ما به كدرٌ حتى يُوردهُ عِرْقٌ وشريانُ
سُقيتُ كأساً أبَتْ تفنى مذاقتها والشعبُ في حمأة التهريج غَرقانُ
وقد تراقص فُسّاقٌ على نغم ٍ أليس للسّمر بالإيقاع إتقانُ ؟
فليشهد الكونُ فِتياناً إذا عبدوا ربّاً فما استُعبدوا يوماً ولا دانوا
فرحتُ أرمقهُ والعينُ ناطقةٌ إذ بُتَّ من عقدها درٌّ ومًرجانُ
وقلتُ إيهِ حبيباً خِلتُ أدركه في الشأو لكن من الإمعان إمعانُ
أودعتك الله ما ضاعت ودائعهُ ولا يَتِمُّ بغير الله إحسانُ
فسرْ إليها إذا جالت نواظرها حمراء يُضرمها شيبٌ وشُبانُ
واستشهدِ الكونَ إن غرّتْ رزيتنا طاغٍ فإنا على الطغيان بُركانُ
ويطلب من كتائب الحق أن تشحذ الهمم، فالرسول هو القدوة، وسيرة الصحابة والأبطال لنا فيهم عبرة وموعظة:
جحافل الحقّ شُدي كل سابحةٍ فإثر ركب رسول الله رُكبانُ
فما نُغيّبُ إن غاب الوليد ولا تفنى إذا أعدم المهدي ومروانُ
جحافل الحقّ لا نامت له مُقلٌ عن الحساب وللديان ميزانُ
رثاء ولدي إياد النحوي:
إن من أصدق الرثاء للأبناء ذاك الشعر الذي قاله الشاعر الداعية د. علي رضا النحوي في ولده إيّاد ... وكم رقّ قلبي لقراءة تلك البكائية الرائعة، وهي تكشف عن صدى نفسٍ طوت على الآلام جناحها، ولقد كان النحوي كبيراً في تحمله للألم ، كبيراً في تصبره على الابتلاء، وما من غرابة في ذلك فقد نمي إلينا أن أعربياً سئل عن أجود الشعراء، فقال: ما رثينا به آبائنا وأولادنا وذلك أنا نقولها وأكبادنا تحترق !!
لقد جاء حزن الشاعر على ولده يعلو على لغة الدمع، ويتجه إلى هذه الإطلالة من التأمل الهادئ في مصير الناس المحتوم ويجمع النَقدَة على أن الشاعر الحق هو الذي لا تقذفه موجة طاغية من الفجيعة بحيث تنبهم دونه رؤية الأشياء على حقيقتها ... ولئن عاش النحوي حالة طاغية من الحزن العميق فقد ظلّ في كامل اتزانه، وهدوءه، والملاحظ أن العفوية الصادقة تتسلط على هذه القصيدة، ويتدفّق المد العاطفي ويطغى على كل ما حوله، فهذه القصيدة مرهونة بالمناسبة وشدة وقعها، وهي تمتلئ بالمتفجرات العاطفيّة ....
يبدأ النحوي هادئاَ، وهو يتلّمس حاجته – وقد صعد على أعتاب السبعين عاماً- إلى بِرّ ولده الشاب الذي أسرع إلى لقاء ربه، ثم يصور بتأثر عميق فجيعة أمة وإخوانه الذي يحاولون إخفاء ما بهم من حزن تصبّراَ أن لا تزداد حدة آلام والأب، وتهيج بهم الأحزان، لكنه لا يلبث أن يبيّن أن حزن الأم والأب هو من أشد أنواع الحزن، إذ حبهما لولدهما حبٌ فطري يقبع داخل النفس، وبين حنايا الضلوع ثم يمضي فينقل ألواناَ من هذا الحزن المتجدد الذي يتمثّل في تلك الدموع الواكفة التي يهيجها تذكر إيّاد، حينما يرى طيفه ويناديه بصوتٍ شجيٍّ حزين، فيذكر برّه، وعمله في المكتبة ويرى قميصه وكتابه، ويذكر تعلّقه بالقرآن، واستجابته، لنداء الرحمن، ثم يدعو له من قلب منيب، دعاء والد ازداد وهج الموجده في نفسه إثر رحيل ولده.... ثم لا يلبث أن يستكين، وتخف حدّة مشاعره النفسيّة قليلاَ حينما يتبدى له أتراب ولده الذين سبقوه إلى الدار الآخرة فهو لاحق بهم، وهم محتفون به هناك ... ثم ينقل صورة المعزيّن الذين يعزّون بولده، ويذكرون من شمائله ومحاسن أخلاقه ما يخفف وطأة الألم الواخز، لكنه رغم الفجيعة القاسية يظل هاجس فجيعته بوطنه أكبر، فيتعالى على همومه وأحزانه الخاصة ليرتفع فوق إلى هموم أمته ووطنه السليب، ويراه أحق أن يُعزّى به ...
ولئن كانت قصيدته تعبيراً صادقاً عن تلك الحالة النفسيّة التي رانت على مشاعره ومشارف وجدانه، وكانت هذه الحالة في عتمتها وحزنها ينبوع إلهام الشاعر، ولكنه وهو غارق في عُباب حزنه لم يكن يعوم في أفقه الذاتي وحسب بل سرعان ما وجهته موجة المصيبة إلى وجهة أخرى _ إلى مصيبته في وطنه الذي غدا حرماً مستباحاً.
والنحوي من لهيب عاطفته المتأججة، وموسيقيّة ألفاظه الحزينة، صاغ هذه الصورة الباكية، فكان بذلك بين الشعراء الكبار الذين استطاعوا أن يحققوا الانسجام التام بين تموجات العاطفة وتموجات الألفاظ...
وحسبي هذه المقاطع من هذه البكائية الحزينة:
رحلت بُنيّ إياد وغبت وبي من جوىَ هائجٍ منصب
فأنى التفت أرى طيفك الحل وحولي يخاطبني يا أبي
وطلعة وجهك إشراقةٌ واقبال طيفك لم يغرب
وبسمة وجهك نورٌ يفيض عليّ يشق دجى الغيهب
ولهفة صوتك كم قد حنوت على قلبي الخافق المتعب
فيجلو حديثك صفو النباهة بالأدب المرهف الأعذب
تضم جناحيك حولي ببرّ ندي الشمائل والموهب
ويبدو الشاعر د. علي النحوي غير قادر على النسيان، وكيف ينسى وهو يرى كتب ولده إياد وملابسه، وسريره، وأركان المنزل، وملاعب الطفولة والصبا، فيهيج الحنين والشوق في فؤاده إلى فلذة الكبد:
إياد حنانيك كيف السلو وطيفك حولي لم يحجب
فهذا كتابك يا ويح نفسي كأنك ما زلت في المكتب
وهذا قميصك حلو الشذى وهذا الرداء على المشجب
وهذا السرير كأني أراك فأُقبل والشوق قد هاج بي
أعود وبي حرقةٌ من حنين اليك إلى وجهك الطيّب
ومكتبةٌ نسّقتها يداك على فطنة الماهر المعجب
أطوف بها ورؤى الذكريات تطوف كأنك لم تذهب
يذكرّني كل ركن بها حنان الفتى الطيّب الأحدب
رحلت بُني إياد وغبت لى لوعة وأسىَ مصحب
إذا ما ذكرتك هاجت دموعي فأسكب من وابلٍ صيّب
تنازعني النفس دمع يفيض عليك وصبرٌ جميلٌ أبي
أعود إلى ذكر ربي فأخشع للذكر والأمل الأرحب
رثاء نوفل مصطفى الزرقا:
إذا كان هذا هو التيتم المعهود فإن المرحوم العلامة الشيخ مصطفى الزرقاء قد دلنا على أن هناك تيتما من نوع آخر، وهو فقدان الأب لابنه البار ليكون الأب هذه المرة هو اليتيم، وهذا ما حصل مع الشيخ الزرقاء -رحمه الله - لما توفي ابنه الاكبر نوفل، والذي كان نِعم الابن البار لابيه خاصة بعد أن كان الشيخ فقد زوجتيه كلتيها، ولما كان الشيخ الزرقاء يتهيأ للسفر لزيارة ابنه في ماليزيا جاءه خبر موت ابنه نوفل، فبكاه، ورثاه في قصيدة عنوانها ( يتمتني يا نوفل)؛ ليكون الأب هو اليتيم هذه المرة، وليس الابن .
وكيف لا يتيتم ذلك الأب إذا فقد ذلك الابن الوفي البار الصالح الذي آمن وصدّق ( أن رضى الله في رضى الوالدين وأن سخط الله في سخطهما ) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم وكيف لا يتيتم ذلك الأب الذي فقد الابن الذي أحسن إليه { وقضى ربك ألا تعبدوا إلا إياه وبالوالدين إحسانا } وكيف لا يتيتم ذلك الأب، وهو الذي كان يأمل ان يكون من بعده ولد صالح يدعو له ( إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له ).
وأما وقد مات الابن قبل الأب، وأما وقد مات نوفل قبل مصطفى فمن ذا الذي سيدعو له بعد موته، لهذا وغيره فقد شعر الشيخ الزرقاء بوفاة ابنه نوفل أنه هو اليتيم الحقيقي.
وإذا كان الشاعر هاشم الرفاعي قد رثى والده الذي تيتم بموته بقصيدته التي بعنوان (عزيز يفارق)، فإن الفقيه العلامة مصطفى الزرقاء قد رثى ابنه نوفل الذي تيتم بموته بقصيدته التي بعنوان (يتمتني يا نوفل) قال فيها:
أُبيّ ما نبأ أتانا حينما كنا على وشـكٍ اليك ســنرحل
ونراقب الساعات قبل مسيرنا نحو المطار وكل شــيء مكــمل
مستشرفين الى اللحاق بلهفة فـإذا به يـأتي الـنعي المذهل
كان التيتم للصغار بفقدهم آباءهم فإذا الأمور تبدّل
فاليوم فقدك يا بني أضاعني وأراك قد يتمتني يا نوفل
كنت الأنيس لوحدتي إذ زرتني والبر كل البر فــيما تعمل
وأحسّ روحاً قد سرى في أضلعي لما أراك وأنت نحوي مقبل
ومعانقاً إياي تسألني الدعا إذ تبتغي التوديع أو تستقبل
تبغي المسرة لي بكل وسيلة وهواك فـــيما ابتـغي وأؤمل
خلّفت خلفك هوة في أسرة حارت لها الالباب فيــما تفعل
هذا الفراغ تركت فيها من له ؟ يا رب أنــت له فأنـت الموئل
يا رب باركه وزد حسناته وأفض عليه رضاك يا متفضل
وفي الختام:
هكذا نرى أن رثاء الأبناء قد احتل مساحة واسعة في قلوب الآباء، وفي شعرهم.
ونرى في شعر الإسلاميين التصبر على البلاء، فقد نهلوا من معين القرآن الكريم الذي يبشر الصابرين، ونلاحظ حرارة الحزن، وتوهج الذات وقلة الدموع رغم هول المصاب، صحيح أن البكاء رحمة وضعها الله في قلوب العباد، ولكن الجزع الشديد يتنافى مع الصبر.
وقد أحسن الشعراء استخدام الألفاظ المناسبة للحزن من بكاء ودموع وحزن وأسى، فجاءت الألفاظ جزلة قوية فخمة، وجاء الشعراء بأساليب متينة قوية، وكان الخيال محلقاً، والصور البيانية تقليدية على الأغلب، وكانت بعض الصور الفنية مبتكرة...
والله أكبر، ولله الحمد.
وسوم: العدد 1038