رواية "جبينة والشاطر حسن"والتّعدّديّة الثقافيّة
جميل أن نجد من يكتب أدبا للفيتان، خاصة إن كان العمل روائيّا، فهذا يمهّد الفئة المستهدفة للتقدّم من الأعمال (الضّخمة) الروائي "جميل السلحوت" من الذين يهتمون بهذه الفئة وقد كتب أكثر من عمل، وتأتي روايته "جبينة والشاطر حسن" الصّادرة مؤخّرا عن مكتبة كل شيء في حيفا، كتتويج لإنجازاته السّابقة.
بداية ننوّه إلى أنّ هناك جانبا تعلميّا معرفيّا في الرّواية، ومتعلّقة بالمكان، القدس ومحيطها: "اتّفق الشّاطرُ حسن وإمامُ الأقصى وبطريركُ القدس أن تكون الرّحلةُ إلى منطقةِ "البقيعة"، التي تمتدُّ من مقامِ النّبيِّ موسى في الطّريقِ بين القدس ومدينة أريحا، حتّى تصلَ إلى جنوبِ شرقِ مدينة الخليل، ويتقاسمها عرب السّواحرة، عرب العبيديّة، عرب التّعامرة، وبني نعيم" وهذا الأمر بحدّ ذاته يحسب للرّواية، التي ترسّخ في ذهن المتلقّي أهمّيّة القدس، وما يحيطها من مدن وقرى وبلدات، وتعرّفهم بطبيعة المواطنين الذين يقطنونها، فهناك أكثر من ملّة تعيش في المدينة.
كما تأخذنا إلى معلم تاريخيّ وأثريّ ألا وهو: "يقع دير مار سابا في (عرب ابن عبيد) شرق مدينةِ بيت لحم في فلسطين. تمَّ بناؤهُ بين عامي 478 م - 484 م، على يدِ الرّاهبِ سابا، بمشاركة 5000 راهب، وهو بهذا يُعتبرُ واحدًا من أقدمِ الأديرةِ المأهولةِ في العالم." فالحديث عن جغرافيّة المكان وطبيعة البناء الموجود، يؤكّد حالة التّنوّع والتّعدّد التي يعيشها المجتمع الفلسطينيّ، وأيضا أنّ العمار من ابداع الفلسطيني الذي يهتمّ بالبناء وتعمير الأرض، والّلافت في هذا المقطع أنّه يقدّمنا من فلسطينيّة المسيحيّة، وأنّ فلسطين هي الشّعلة الّتي انطلقت منها المسيحيّة إلى بقاع الأرض كافّة.
وما دمنا نتحدّث عن جغرافيّة المكان فالسّارد يأخذنا إلى الحقبة الكنعانيّة وكيف أنّ الفلسطينيّ القديم ترك آثارا وإرثا ثقافيّا من خلال المسكوكات النّقديّة والتّماثيل: "ما هاتان الصّورتان؟
الرّاهبُ: الصّورةُ الأولى لآلهة الكنعانيّين "عشتار" وهي إلهُ الحبِّ والإخصاب والرّبيع، والثّانيةُ "أشمون" وهو إلهُ الشّفاء عند الكنعانيّين أيضًا"، فتركيز السّارد على المكان وما فيه من معالم أثريّة وتاريخيّة ودينية يعطي المتلقي فكرة عن جذور المكان ومن تواجد فيه، وكيف أنّ هناك تعاقب الأديان والمعتقدات مسألة طبيعيّة في فلسطين، وليست جديدة.
وهنا تناول الزّواحف، وما هو المفيد منها كالحنش:
"هذا حَنَشٌ مقتولٌ... يا للخسارةِ!
سألتْها أمُّ جبينه مستنكرةً وساخرةً:
خسارةُ ماذا يا بنت؟
زينب: خسارةُ أحدِ الزّواحفِ التي تُغْني الطّبيعةَ"، نلاحظ أنّ السّارد يستخدم لغة الحوار في تقديم المعلومة، وهذا ما يجعلها ترسخ في المتلقي، فالحديث يدور عن حنش ميّت، وهذا كان فاتحة للحوار بين "جبينة" ووالدة جبينه، التي بينت لها أن الحنيش يقوم بقتل الأفاعي السّامة والزّواحف المؤذية.
وهناك حديث عن الثّعلب ومكره، وأيضا عن السّلحفاة وطبيعتها المسالمة، وحديث عن العقارب وخطورتها، ويحدّثنا عن الفرق بين الماعز والنّعاج، كلّ هذا جاء بلغة الحوار أو من خلال أحداث الرّواية، وهذا ما يبعد المعلومة/ الفكرة عن المباشرة، ويجعل وصولها سلسا وسهلا على المتلقي.
التّعدد والتّنوّع الفكريّ والعقائديّ
المعلومة السّابقة تأخذنا إلى حالة التّعدّد والتّنوّع في المجتمع الفلسطينيّ، فهو يتميّز بتعدّديّة ثقافيّة فريدة من نوعها، حيث توجد أكثر من فئة دينيّة، لكنها تنصهر معا في بوتقة واحدة لتحقيق المصلحة الوطنيّة، من هنا نجد أماكن العبادة متقاربة وحتى متلاصقة: "تجولُ بعينيْها المدينةَ، فيقعُ نظرُها على قُبَّةِ كنيسةِ القيامة، ترى الهلالَ على مآذنِ المساجد، يعانقُ الصّليبَ على أبراجِ الكنائسِ والأديرةِ، فيمتلئُ قلبُها إيمانًا." من هنا سنجد أن قرب المسافة بين المساجد والكنائس يقابله علاقة متلاحمة بين أطياف المجتمع: "لقد سجّلَتْ عشراتُ النّساء المسيحيّات، ليُشاركن هنّ وأطفالُهنّ بهذه الرّحلة، بعد أن سمعنَ من أخواتهن المسلمات" تكمن أهمية هذا المشهد في ترسيخ فكرة التّعدّد والتّنوّع في المتلقّي، فهناك أكثر من صورة/حدث تناوله السّارد يتحدّث عن انصهار المجتمع مع بعضه دون تفرقة، وهذا رد حاسم على من يدّعي أن فلسطين يجب أن تكون لدين بعينه دون سواه.
الحكاية والرواية
تكمن أهمّيّة رواية "جبينة والشّاطر حسن" ليس في الأفكار والمعلومات التي تقدّمها فحسب، بل تتعدّاها إلى الفنّيّة التي جمعت الحكاية الشّعبيّة بفنّ الرّواية، بمعنى أنّها مزجت بين القديم والمعاصر، من هنا نجد أحداثها (مختلطة)، بحيث لا يستطيع المتلقّي أن يحدّد زمن الرّواية، وإلى أيّ زمن/عصر تنتمي الرّواية، فهناك شخصيات تراثية وتاريخية ومعاصرة "زينبُ، خيزرانة، جبينه، الشّاطر حسن، بثينة، كنعان" وبما أنّ هناك سيارات وحافلات وبرّيّة فكلّ هذا أسهم في المزج بين الماضي التّراثيّ وبين المعاصر الحداثيّ.
وإذا انتبهنا أنّ الرّواية تتحدّث عن القدس وفلسطين، ودون أي ذكر للاحتلال، فإنّنا نتأكّد أنّ السّارد أراد أن يأخذنا إلى الحياة الطبيعيّة/السّويّة/التّراثيّة الّتي تنعم بها فلسطين وشعبها.
من هنا يقدّم لنا السّارد ولادة "جبينة" بشكل الحكاية الشّعبيّة:
"من هذه المرأةُ يا أمّي؟
أجابتِ الأمُّ: هذه بائعةُ الجُبْنِ الّتي كانت سببًا بِحَمْلي بكِ.
استغربتِ جبينه ما سمعتْهُ من أمِّها، وسألتْ:
وكيف كان ذلك؟
اشتريتُ منها تنكَةَ الجبنِ التي كانت معها، قدّمتُ لها ماءً باردًا
وهي تدعو اللهَ لي، وتقول:
أسألُ اللهَ أنْ يعطيَكِ ما تشائين.
فأمّنْتُ على كلامِها، وقلتُ على مسمَعِها:
اللهُمَّ ارزقني بِنْتًا جميلةً بيضاءَ مثلَ جُبنةِ هذه المرأةِ الطَّيِّبَةِ.
فسمعَ اللهُ دعائي ودعاءَها، ورزقني إيّاكِ، فأسميتُكِ جبينه تيمُّنَا بِجُبْنَةِ المرأةِ الطّيّبة"
فهنا الحدث أقرب إل الحكاية الشّعبيّة منه إلى حدث روائيّ معاصر، بل فيه استفادة من حكاية جبينة التّراثيّة، لكنّه عندما يتحدّث عن الشّاطر حسن فإنّ الحدث يتداخل بين الشّعبيّ والمعاصر: "سَمِعَ الشّاطرُ حسن، وهو ابن شاه بندر التّجّار في المدينةِ المُقدّسَةٍ، وأكثرهم وسامةً وشجاعةً برغبةِ أطفالِ المدينةٍ في زيارةِ براري القدس، بعدَ أنْ قصّتْ عليهم جبينه بنتُ كنعان عن مشاهداتها في تلك البراري، فقرّر تلبيةَ رغبةَ الأطفالِ هذه. ذهبَ إلى المسجدِ الأقصى، وطلبَ من الخطيبِ أنْ يُعلنَ عن بابِ التّسجيلِ لمن يرغب بزيارةِ البراري، وقضاء يومِ الجمعة القادمِ فيها على حسابِ الشّاطرِ حسن بن شاه بندر التّجار" وهذ الثّنائيّة تأخذنا إلى المزج بين المواطنين مسلمين ومسيحيّين، وبين ودور العبادة، المسجد والكنسية، وكأنّ أحداث الرواية وشكل تقديمها يدفع القارئ؛ ليكون منفتحا على الآخرين، ويتعامل معهم على أنّهم جزء منه وليس (غرباء عنه).
وسوم: العدد 1046