قراءة غير منهجية في ديوانه (النوارس تهاجر نحو الشمال)

قراءة غير منهجية في ديوانه

(النوارس تهاجر نحو الشمال)

خليل حسّونة

الشاعر محمد خضر الزبيدي بين لذعة الشوق ولهفة العودة

الشعر واستراتيجية القراءة التأويلية

الشعر معرفة جمالية قائمة في الطبيعة التي اخضعها البشر والتي لم يُخضعوها. كما انه قائم في حياة الناس، وعلاقاتهم الاجتماعية، وفي حياة الافراد النفسية والروحية. انواعه محاكاة كما يرى ارسطو او كما يرى الجاحظ (صياغة وضرب من التصوير). ساواه هوراس بالرسم وقال عنه سيمويندس انه صورة ناطقة. كما اعتبره ادونيس نوعاً من المعرفة التي لها قوانينها الخاصة بمعزل عن قوانين العالم لأنه تخيُّلي. انه ظاهرة كونية من نتاج الروح واخيرا هو شهادة على العصر الذي اُبدع فيهً. 

والاصل في الشعر ان يكون شعرا ليتنافى مع السائد والتقليدي، انه ثورة الكلمة والفكرة. اذ لم يعد الموضوع هو المحور الذي تقوم عليه التجربة الشعرية المعاصرة، بل اصبحت الظاهرة الشاعرة وما يعتريها من بهجة واسى. الا انها ليست الذات المستوحشة المعزولة بل ذات الشاعر المعاصر ابتلعت الكون ومختلف جوانب الحياة في حركتها الثائرة وجعلتها مرآة لها بعد ان كانت هي المرآة. هذه الذائقة تتصل فنيا بأجواء الشاعر نفسه، الذي يطمح لخلق من يتأمل ليعيش حالة من البذل القصوى غرض التعايش مع النصوص فبمناخها المعرفي المعمق، تشرب التاريخ شُربا وتجعل منه ذاكرة مضادة.

يؤكد ادورنو بأن الفن الاصيل هو الذي يقيم عالمه الخاص، بنوع من الاستقلال الذاتي بنفسه بعيدا عن اي ارتباط خارجي عبر اليات قادرة على كشف ما تحت سطح الناس، والحفر فيه حتى تنكشف بنياته العميقة، وتنبثج دلالته الغائبة بما يعمل على خلخلة الوعي من خلال رؤية استشراف لوعي جديد ومتجدد يقوم على التساؤلات والكشف والغوص في اعماق الماوراء.

هناك من يرى في النص الادبي موضوعاً كافياً للمعرفة، وهذا بالضرورة لتحليل مفهوم الافتراض في الشعر، فكل قصيدة تفترض مستوىً ثقافياً وفنياً وحضارياً في القارئ.

مظفّر النواب مثلا في "وتريات ليلية" يفترض معرفة بالتاريخ العربي الاسلامي السابق، ويعيد قراءته لكي ينتقد الحاضر والماضي معاً وافتراضُ مستوىً اعلى من مستوى المجتمع بشكل عام، يجعل القصيدة صعبة ومعقدة. اما الزبيدي فافتراضه اكثرَ قربى وجاذبية لأنه يرتبط بمعرفة الثورة الفلسطينية في علاقتها مع الفعل، وايضا الظروف التاريخية والمحطات المتباينة التي مرت به، وهو ما يشي به ديوانه الموسوم "النوارس تهاجر نحو الشمال" الصادر عام ٢٠١٢ عن دار ازمنة للنشر والتوزيع والذي اعلنته قصيدته الاولى "هزي اليك بجذعها" كما نكتشفه عبرها يصارع بين ما هو كائن وما يجب ان يكون. منذ البدايات الاولى ومنذ ان وضع شاعرنا قدميه في ملف العمل الوطني فالخنادق والبنادق وانتشاء الجراح هي الدافع لقطف الثمر الموعود...!

"شبت النار واشعلنا الحرائق، وتبادلنا كؤوس الشوق في ظل الخنادق، 

فانتشا جرحي مناراً واستبد العشق تذكيه الحرائق،

يوم كان الوعد عاصفة على جسد البيارق، فصرخت من لهفي عليك،

هزي اليك بجذعها يتساقط الموعود تمرا “(صفحة ١٢) 

رغم ان شاعرنا هنا يحزن حزنا مبطنً الا ان لغته التي تعبر عن دخيلة نفسه غير حزينة، لذا يضم انثاه "اي معشوقته المفترضة" التي هي ارضه كحارس للحياة تهزها بين لحظة وأخرى ليوقذها وتوقذه، كجزء من توحد صوفي لافت وان كان غير مرئي " هزي اليك بجذعها، يتساقط الموعود تمرا" (صفحة ١٢) " فانا حملتك رؤية كي تستمر بنا الطريق، نحو التي قد واعدتنا ان يكون العرس في قمم الجليل" (عمّان صفحة ١٥)  

في هذا النص كما في العديد غيره اعتمادٌ للفكرة الهيجلية، انها عنده الكل والكشف عن علاقة اية رؤية بالكل الشعري، وهو وحده الذي يبين حقيقتها كنوع من السيولة والرقص الروحي. لقد حاول هيجل حل الازمة الروحية والواقعية معاً، وان مملكة العقل تقدم حل للتناقضات التي طرحتها الرأسمالية بين العقل والواقع، وذلك بدمج فكرة الالوهية مع الديالكتيك في حين شاعرنا الزبيدي حاول الدمج بين الذات والوطن الفلسطيني والعربي ككل واحد موحد لا تفصم عراه. رغم ان رؤساء القبائل تخلوا عن اخيهم يوسف وتركوه في بئره حزيناً 

" انا كم غنيت في البيداء انتظر القوافل 

علها تأتي الي

فانا في البئر ابكي 

واغنيك وحيداً " (صفحة ٢١)

هنا محاولة لتعرية الخطابات المؤسساتية بهدف تأسيس رؤية معرفية قابلة للجدل والتلاقح كحل لكساح الحالة التي عاشها وما زال يعايشها. جوهر المعاناة في هذا النص يتمثل في تأخر وطن الشاعر وشعبه، اي التناقد في داخل فكرة الغير -غير المتأخر-وهو يريد ان يكون هذا الغير (وطنه وشعبه) في الطليعة. 

هذا النص وما تلاه من النصوص يذهب بنا الى الاستكناه لتصبح مرتقاً لسلة من القراءات المتداخلة غير المترفة تأويلياً، حيث صراع الاضداد (يوسف، رجال القبائل، تيجان نعليها، رؤوس الذين استأنسوا ذل الهزيمة، الفتى ابن الجنوب، الظلمة العمياء (صفحة ٢٦، ٢٨، ٣٢)) 

هذه النصوص انتاج موفي هائل لم يسمح بان تتحول فلسطين الى حضور مجازي فقط، بل الى واقع موضوعي وان كان محاصر يعمل على تطهيرها من الوباء. هنا حلم لا يملكه الا صاحبه، وان كان في حالة توحد جمعي للشريحة الاكبر من الفلسطينيين، فالمدن الفلسطينية هي الارض الفتات المضحية والام الولود: انها لمى، ليلى، دلال، وكلٌ منهن حارسة للنار المقدسة يؤكد ذلك هذه الام التي ظلت تصرخ

 

"ودموع والدتي تنادي قد تاه من فقد الوطن" (صفحة ٣٦)

هذا الاندلاع حالة فكرية ثقافية مبنية على التذكر تحاول كسر الخوف رغم كل ما يحيط به من محبطات. ايماناً بالأمل، بالنصر واسترجاع كل الوطن. وهنا يقف السؤال عن جدوى العمل السياسي لإبراز المظلمة التاريخية التي كبلت الشعب الفلسطيني. 

"غالني الصمت وما حمل السؤال عندما قالوا انتصرنا، جاءني الصوت المخبأ في أخاديد المقال، نحن هذا اليوم مأدبة لأحزان الهزيمة" (صفحة ٦١)

هنا حالة تشابك من صراع الاضداد الذي يأخذ صراع (الانا مع الاخرى في داخل الانا) وتأويل وجودنا له ببصيرة ابستمولوجية معرفية تربط الاشياء بأشيائها وتحيل ذلك المفهوم من شكلانيته الساكنة الى مفهوم مادي وحركي وكأنه يسترجع جذرية الشروط المؤسسة لذلك الفعل قبالة فعل ثقافي معرفي صدامي لاحق لا بد ان يمتلك لحظته كما في قصيدته (الصمت خبز الليل: لا تبتئس مرة اخرى اقول/ فانا قرات بصفحة الكون قديما/ كيف تنتقل الفصول/ وكيف دارات الكواكب/ اذ تضئ مهما تناولها الافول/ ولذا نجمك يبقى ساطعا/ وان تكاثفت الغيوم

بين الأيدولوجيا والرؤية

الظاهرة الجلية في الدراسات الادبية تتضح في ذلك التمازج الكبير بين انعكاسات الطروحات الايديولوجية على قصيدة (الرفض/ التمرد/ المقاومة) وابداعية هذه القصيدة الناتجة عن تراكم تغيرات حضارية اجتماعية اقتصادية وسياسية مغرقة في الصمت والتعقيد جعلت من شعر الرفض طعما ادبيا فنيا مبدعا شعرا رافضا للسكون في حركية تصور واقع المأساة حيث امتد مع تغيرات انعكاساتها واحاط بها احاطة واعية شاملة فكان في جملته نتاجا ملتزما بالقضية الوطنية والقومية وقضية الانسان بشكل عام. وشعر المقاومة الرافض للسكون/ التراجع حالة معرفية توعوية كون هذا قيمة كشفية تجسد بشاعة الجريمة والوحشية التي ارتكبها الاستعمار والصمت العربي ودور كل ذلك في قهر الانسان وامتداد ذلك الى الجوانب الاجتماعية وحتى صياغة الشوق الجماهيري النابض:

(هكذا كسروا اقفال بيتك

كي يعيش به الغزاة

واعيش محروما وصالك

وتظل ليلى في العراق مريضة

وانا اداويها وان طال الفراق) ص ١٠٣ 

استحضار ليلى المريضة بالعراق يمكننا من استكناه معرفة وفيرة بآراء الشاعر لقضاياه السياسية والمعرفية ومن هنا يبدو الالتصاق بالتصوف السياسي امر لا بد منه لإيصال ما يريد وبالذات كون ذلك يسعفنا لإضاءة النص من خارجه فالتواريخ اللفظية واستحضار المدن والاماكن العربية (بغداد   الشام.   الجزائر.  عدن) / بردى. الفرات.  النيل/ تستثير في اذهاننا احداثا تاريخية مهمة تجعل من فهم النص وتأويله امرا يطمئن المرء اليه ظهر ذلك في قوله

(ويقول لي المخبوء في سر الرواية: اننا عرب كرام

ام المعارك يا مناذرة العراق ليست بأرض السند او بحر الظلام

هذي الخيول تقطعت ارسانها ما بين صحوك والمنام

وإذا بأطناب القبيلة كلها

بيت غربان ويعجزني الكلام).  ص١٢٦

استحضار حالة صارخة ومتناقضة من التاريخ القريب في بوتقة سياسية ليس عاديا. انه يحاول ردم الهوة بين التفاعل وتفاعله متجاوزا الانشقاق التفكيكي اي مجاولة صياغة الوعي التاريخي ثانية كضرورة تهز الصدفة وتشعل المراحل لتطوع التاريخ بالجغرافيا عبر تدال التاريخ بالجغرافيا/الجيوبولتيك/ وعبر وعي مطلق يخلق المعرفة التاريخية المبتغاة وعل كل حال يبدو للمتسرع في رؤيته وكان الشاعر هنا بكاء وان كان غير ذلك:

(هذي الخيول تقطعت ارسانها ما بين صحوك والمنام

وإذا بأطناب القبيلة كلها

بيت غربان ويعجزني الكلام).    ص١٢٦

الشاعر هنا يشعر بالألم القارس لغياب قطعة من الجسد العربي مؤثرة والتي هي ليست في السند او المحيط الاطلسيً، وهي ترفع وجده العروبي الرافض الحاقية العراق بغيرها مستحضرا الصراع الفارسي/ المناذرة/ والرومي/ الغساسنة) كنقد صارم لمن التفوا على الوطن وهكذا تتضح حيوية شعر الزبيدي   يؤكد ذلك عدم ابتعاده عن استحضار التاريخ البعيد وانسحابه عبر تطويعه على تاريخ المنطقة المعاصر  حيث الكشف عن الروح المعنوية لدى افرادها لان وظيفة الادب هي التعبير عما في الانسان من روح وكرامة عبر جبرية غامضة واضحة تكمن في اللاوعي المعرفي والوعي اللامعرفي لهذا يحذر اعداء الشعب وكل ما هو صامت تجاه قضايا الامة وبالذات فلسطين لان الثوار قادمون وما يحدث في بقعة من ارض الامة ينعكس على بقية اجزائها ورغم كل شيء فان الثورة منتصرة

( اسمعيني ما تغنيه الصبايا/ فارس تتلوه عاصفة ويملا نورها قلب الجميلة

اتون من كل المنافي/ مطرا ربيعيا وصيفا

ونقول للغازي تمهل لسوف ترحل لما جئت وتند

انت الغريب ن الديار وانت ينكرك المكان فهذه داري وانا سوف نكتب

فوق عين الشمس انا عائدون.  146ً

تداخل التداخل

نصوص الشاعر جملة معايير متداخلة ذات فضاء واحد واسع هو الثائر الصوفي الثورة سر حياته ولكن بمفهومها الثوري وليس البوروخوفي الذي يتنافى مع طهارة الموقف وسلامة القصد

ونقاء الهدف يرحل الى صخرة الحلم. يتكئ عليها ويحدق في الم التجربة لقد غطس في مدنه العربية دون غرق وهو يتنفس رياح الذكرات وما ارتبط بها من مخاضات متباينة هكذا نقبض على قصائده من تلابيبها دون ان لهث خلفها.  كونه تواق الى البوح لا ينسى فلسطينه، او عروبته ولا امته، بل يراهن على النفير القادم من كل العواصم في محاولة منه لفرض شراكة حقيقية وجادة مع المتلقي ما يؤكد(ان القصيدة اذا كانت قراءة للعالم فان قراءات قصائده كناية لهذا العالم العربي افتراضا وشعره لا يتكون من الفاظ ذات معنى فقط بل الفاظ ذات نوايا كتأصيل لحالة مؤمن يجنح بها الى حد الغرام وهو يقبض على نبضه جيدا ويعانق نصوصا معالمها واضحة غامضة وواضحة

من جانب اخرً يبرز هنا عمق البعد الصوفي المتوحد بين ذات الشاعر وذات الأرض -القضية تصل المتناهي بالمتناهي كتجربة لا تخضع لمنطق العقل الواعي وقوانينه وانما هي حالة من حالات الوجد الباطن رموزها الخاصة ومن ثم فهي غربة روحية واعتزال للعالم البشري دون مناورات لغوية وهكذا خلقت هذه النصوص تداخل التداخل وجدل الاسئلة وبقوة لافتة

هكذا يتضح لنا ان الوعي التاريخي والهم الجدلي للأشياء ضروري عند الشاعر فبقدر ما يحمل من وعي تاريخي بقدر ما يحرك ويحرض ويتنبأ بالحرية ان الصرخات ضد الظلم هي التي وجدت طريقها ضد الذات وتنتقل من لحظات التوتر السياسي المؤقت الى لحظات التوتر الحضاري الشامل

( اهلوك يا ليلى تبعثر عقدهم وانا المشرد في بوادي التيه مفتون بجرحك والعذاب

فحملت احزاني.         امعن الترحال.    طارقا بابا فباب

اواه من جرح تمدد بين عينيك وفاتحة الكتاب          تمضي به الايام كالحة.     يقتلني ظماي اليك.            ولا ارى الا السراب)           ص   ٩٣.     ٩٤

استطيع التأكيد ان هذا النص تأصيل لملامح الشاعر الثورية اكد ذلك قدرة فائقة على التقاط الكلمات المناسبة و وضعها في سياقها اللائق المعبر

" انا المشرد في بوادي التيه، طارق باباً فباب /يغتلي ظمئي اليك"  ص ٩٥

اذ انخرط شاعرنا في صفوف الثورة الفلسطينية كغيره من العديد من الشعراء الذين ركزوا على ضرورة بل و حتمية استرجاع الارض، مؤكدين ان الطليعة هي القادرة على التوجيه و التحرير و حل كل القضايا في المجتمع عبر جملة اديولوجيات ( قومية، ماركسية، وطنية) شاعرنا التقط الاولى منها مازجًا اياها بالخصوصية الوطنية عبر شوق معرفي تفتحت به اللغة الشعرية لتحقيق شوقها و اندفاعها المستمر لتجاوز  المعطى و السائد، و رغم ما يراه البعض من تأويلات متبانية لتأويل النص و تفسيره تفسيراً رمزياً ضرباً من التعسف، و اسقاطا لما في ذهن الناقد عن النص الذي يقرأ افكار نفسه اكثر مما يقرأ النص ويستنطقه استنتاقا صحيحا يشي بالكثير من المخفي الذي يربط بين الحرية (بهجة الصبح) و الارض ( خارطة الوطن) ص ١٤٤

و هكذا فانا رفض اشكاله الكامنة في الخارج سوف ينعكس على الذات ليصير الى معانات تجربة الكارثة في ذات الشاعر و ذوات الآخرين.

" تبكي و يقتلك البكاء  ما بين مكة و الحجون، و الجرح مسود السريرة، من الشمال الى الجنوب بغداد في شدق الذئاب، اما الكنانة ارضنا فلا حراك ولا سكون يا يونس البحري وحدك و الحوت موت قد يكون و انت تعتصم الدعاء وعد الجميلة لا تخون فارحل و انت عشيقها و العشق شيء من جنون" ص ١٠

رغم بساطة الدعاء اللفظي الذي احتضن كل هذه الافكار و ايديولوجية الشاعر فالموضوع المطروق هنا ليس سطحيا، ولا المعاني هشة، فليست الألفاظ ببساطتها او جلالها هي المحك. ولكن الطاقة او العاطفة او الحركة التي يسبقها الشاعر هي التي تحدد قيمتها، خاصة و انها جماع الاحاسيس التي تستيقظ و تساهم مع تأملات الشاعر، و التي لا تتعدى كونها ( ابتكار تم بدفق واحد) و لا يحجب عنا كينونة الوحي لا بل نتلقفه ليعيشه من جديد عبر تأملات و احلام كبيرة هي رسالة الشاعر، توازن بين الالهام، و اعادة انتاج الالهام. الامر الذي يؤكد لنا بجلاء ان الشاعر يصر على ان زمانه زمان البطولة، رغم كل الانتكاسات وان الوصول الى الارض ليس بمعجزة لانه غير بمعجز لاصحاب الارادة. 

و على كل حال من تلمسنا قصائد الزبيدي و الغوص في احشائها استطعنا التقاط ابعاد ثلاثة: 

١- البعد الذاتي و الذاكرة الجمعية: 

و هو ما يرتبط بالحالة الذاتية في وعيها الخاص المستمد من الموقف السلوكي و الواقع المكاني. 

يرى احمد دحبور ان لكل شاعر بيئتين: عامة تشتمل على منظومات من القيم و الاسئلة الثقافية و الاجتماعية و السياسية و ما الى ذلك. و بيئة ضيقة تؤثر فيه و بقوة ما يؤكد عمق حلمه بوطن دون ذاكرة مثقوبة. 

٢- البعد الوطني الموضوعي ( الحلولي) : 

و يرتبط هذا المفهوم بفكرة الحلول بين الانسان و الارض في اطار الوضع المتميز الذي تخطى من قضية فلسطينية فتصبح الارض عند الشاعر (الحبيبة) التي لا يصل اليها الا بالدماء و الشهادة و الذوبان فيها، كاستجابة ضرورية لمتطلبات المرحلة. 

كان درويش و معين قد استعارا مقولة (ناظم حكمت) ادخلوني الى الجنة الضائعة، لكن شاعرنا الزبيدي كما نرى في نصوصه يريد الدخول الى جنة غير ضائعة. و هكذا يتضح البعد الالتحامي الحلولي في و جدان الشاعر فكانت اغنياته. 

٣- البعد القومي و الديني: 

لا ينسى شاعرنا ان يسلط الضوء في العديد من قصائده على واقع التمزق للشعب الواحد و الأمة الواحدة فالأمة عنده بيت لأسرة واحدة تمتلك العديد من المقدرات الثمينة اهمها المادة الانسانية التي ان هي نظمت كانت ابرز مداميك النصر عبر تداخل التاريخ بالجغرافيا. و التاريخ في نصوص شاعرنا لا يخضع لعلاقات آنية بل تتجلى آلياته، تفرد الحدث و الضرورة التي تهز الصدمة فيتحقق النمو و الامتلاء عبر نهوض الارض الحتم التي رغم المنافي و التشرذم شحنت الروح و شحدتها بالاتقاد. فالارض اولا و أخيراً. فالأرض اولاً و أخيراً، و هو حالة صراعية اساسها الارض قبل كل شيء، و مهما طال الزمن. 

هكذا نسطيع الادّعاء بان شاعرنا توزع في ديوانه بين عدة محاور: 

- غنائية ثورية ملتهبة عبرت عنها معظم قصائد الديوان لتشكل حالة بارزة من جينيالوجيا المعرفة في علاقة اشياء القصيدة باشيائها. 

- يومية سياسية مغلفة بالحماسة : 

و هذه تتمثل بالعلاقة الدافعة للفعل و البناء، الاحتمالات هنا بهدف الوصول الى الثبات و التوازن 

- سيكولوجية اخلاقية: 

و هذه حكمتها دروب النضال الطويل، انفت فيها الهلامية و تمركز الثابت الاستاتيكي عبر جمالية خطابية محببة دون ان تكون منشور سياسي. 

- براءة الوعي به و تفتح الوعي من اجله: 

و ذلك بإبراز حميمية القصائد المتماوجة بين جحيم المبارزة و سلطة النصوص. 

و أخيراً شاعرنا الزبيدي هذا الطفل الطالع من رحم المعاناة المتشعلق بشبق اللحظة و عبق الالوان، اللاهث وراء التطهر و التطهير عبر قصائده ليعيد انتاج ذاته و في كل مرة تشكل كل لوحة عنده استجابة بدئية اولى اتجاه الشعر المغموس بفلسفة الحلم دون مواربة فجعلنا نفكر اتجاه كل لوحة بعمق باعتبارها حالة فلسفية نابضة، لان الشعر الحقيقي هو الشعر الطامح لخلق من يتأمل بهدف ان يعيش. حالة من البذل القصوى عبر التعايش مع القصيدة في مناخها المعرفي المعمق الذي يراهن على مستوى من مستويات التلقي حتى و ان كانت صعبة المنال في مجتمع الكفاف معرفياً و موقفياً. 

حالة التموضع هذه تمثل برجماتي يصفع السكون عبر استاتيكا حملية تدفع بالمهمات التاريخية و الانسانية عبر افق اديولوجي يصفع الصمت السيئ القصمات المنبثقة امّا عن حالة عدم الوعي به او الوعي به عبر ورم نرجسي يصفد الفعل و التفاعل لتصبح قصائد الشاعر قصائد طهر و نضال حميمي لشاعر يفكر بالصور معبر عن الحقيقة (الارض) التي تحمل وحدها شروطها الجمالية (الارض ايضاً) التي عانقت مرحلة مهمة من تاريخ النضال الوطني الفلسطيني المعاصر. ديوان "النوارس تهاجر نحو الشمال" دون مغالا، موقف و رؤية يحتاج لأكثر من قراءة.