التفسير والتعبير بين الفلسفة والأدب
عبد الستار الإسماعيلي
لأجل تكوين رؤية واضحة عن العلاقة بين الفلسفة والأدب لابد أن نلتفت الي حقيقة مهمة تمثل نقطة انطلاق نحو اكتشاف هذه العلاقة وهي إن الإنسان يتفاعل مع واقعه من خلال محيطه الاجتماعي وبيئته وخواص الفترة الزمنية التي يعيش فيها والمساحة المعرفية التي يتقوم بها فهمه لواقعه..الخ من العوامل الأخرى... وهذا التفاعل يجعل الإنسان متأثراً ومؤثراً بفعل المدركات العقلية والمعطيات الحسية وبما تثيره مواقف الحياة المختلفة من شعور وجداني، وحاصل هذا التفاعل مانجدهُ اليوم من إرث فكري هائل بلغته الإنسانية في شتي جوانب المعرفه.
وبناءاً علي ماتقدم فأن الفلسفة والأدب والفن والعلم..الخ من مجالات الفكر الإنساني إنما تصدر عن ذلك التفاعل وإذا أردنا أن نقف علي طبيعة العلاقة بين الأدب والفلسفة لابد من الإشارة إجمالاً الى وظيفة كل من المجالين:
الفلسفة بدأت تساؤلاً، وتأملا في طبائع الأشياء وبحثاً عن أجوبة لظواهر وحوادث واجهت الإنسان ومحاولات ربط الأسباب بالنتائج حتى اذا وصل إلي قناعه أطمئن وراح يبحث في ظاهرة أخرى وهكذا نشأت الفلسفة واتسعت وتفرعت نظريات ومدارس وبحوث لاإنتهاء لها، والفلسفة بعد ذلك موقف عقلي إزاء تفسيرات معينة أو نظريات كانت محل جدال ونقاش. وهي تفسير وتحليل للإشكاليات التي مرت في حياة الإنسانية..وهي كذلك تمثل الإطار المعرفي والأساس المبدئي للقوانين والنظم السياسية والإجتماعية والإقتصادية...الخ وبهذا فأن الفلسفة كانت ولازالت ميداناً عقلياً تتصارع فيه النظريات وتزدحم الأفكار في معركة اسلحتها الدليل والاستنتاج ومقارعة الحجة بالحجة فتقوم نظرية وتسقط اخري وتظهر ثالثة وهذا هو تاريخ الفلسفة بين ايدينا عبارة عن محاولات أراد المفكرون من خلالها الوصول الي تفسيرات دقيقة لما يكتنف العالم من اشكاليات.
أما الادب بكل أشكالهِ فلم يكن تساؤلاً كما في الفلسفة بل كان تعبيراً عن إحساس الإنسان بما حوله من الأشياء وعن شعوره وعاطفته وأحزانه وأفراحه..الخ..والشكل الأدبي ليس بالضرورة يتجه نحو تفسير إشكالية أو تحليل ظاهرة بل هو في أغلب مضامينه صورة للواقع،أو نسج خيال أو تعبير عن رؤية.ومن ذلك يتضح لنا ان الفلسفة تفسير والأدب تعبير،والفلسفة تتدخل في تفسير الظاهرة الأدبية وتكتشف المسارات التي تسير بموجبها والعوامل المؤثرة فيها،بل إن كل ظاهرة أدبية إذا مادققنا في أصول نشأتها لابد أن تستند الي خلفية فلسفية تمثل الإطار العام الذي يعطي لهذهِ الظاهرة إتجاهها الخاص في معالجة شتي القضايا والمواقف، فلايمكن للصياغة الأدبية إلا أن تنطلق من رؤية فكرية معينة تستند اليها تمثل الأساس الفلسفي الذي تقوم عليه تلك الصياغة.
وإذا مانظرنا من زاوية الأدب فمن المؤكد أنه يعبر من خلال وسائله المعروفة عن فلسفة تتجه نحو غايات إنسانية مختلفة قد يكون ليس بمقدور الفلسفة أن تعبر عنها بذات البساطة وسهولة الفهم والإنتشار التي تتوفر في الصياغه الأدبية، بما لديها من مرونه وقدره علي نقل وتركيب الصور الذهنية المختلفة، وإذا كانت الفلسفة مجالاً كان ولازال موضع إهتمام المختصين ومن توافرت لديهم خلفية ثقافية بمستوي يؤهلهم من فهم أغراض الفلسفة فأن النص الأدبي ليس بالضرورة أن يكون محدداً بمستوي معين من الفهم، وهذا يتضح بشكل جلي إذا مابحثنا الموضوع من زاوية الشكل والمضمون في كلا المجالين –الفلسفة والأدب ــ ففي الوقت الذي يكاد يكون الشكل ملتصقاً بالمضمون في النصوص الفلسفية حيث أن الفاظ هذه النصوص ومعانيها معبره بشكل مباشر عن المضمون الفلسفي حيث تكون الصور الذهنية التي تثيرها هذه النصوص صور جامدة يعتمد فهمها وتأويلها وتفسيرها علي مستوي فهم المتلقي فأن بين الشكل والمضمون في النص الأدبي مساحه كافية تسمح بتكوين مختلف الصور الذهنية وإيصالها الي المتلقي من خلال الاساليب الرمزية والتصويرية يساعد علي ذلك تنوع النشاط الأدبي شعراً، ونثراً، ورواية.. الخ، وبذلك نصل الي أن بين الفلسفة والأدب تنافذ وتداخل لأن الظاهرة الأدبية بماتحتويه من أنشطة فكرية تصبح جزئيات مبعثرة إذا لم تكن محكومة بإطار يحدد إتجاهها وأغراضها ويضفي عليها طابعها الفكري المميز وذلك الإطار هو الفلسفة التي تقوم عليها تلك الظاهرة، وكذلك الفلسفة فأنها تبقي كتلة فكرية جامده حكراً علي أصحابها مالم تجد الوسائل والأدوات التي تخرجها من قمقمها الخاص الي فضاءات أوسع وهذه الوسائل هي الصياغه الأدبية التي تبرز الأفكار الفلسفية وتقدمها بشكل أطباق شهية تستهوي ذائقة المتلقي، وعلي سبيل المثال لفلسفة الشك عند ديكارت مقولات ومفاهيم قد لايقدم علي الخوض فيها الا المختصين ومن لديهم اهتمام بهذه الجوانب المعرفية بينما نجد تساؤلات أيليا ابي ماضي وشكوكه قد تغلغلت الي فكر كل من قرأ أشعاره دون شروح أو تعقيد في الألفاظ حيث يظهر لنا إن الصياغة الأدبية من خلال إشعار إيليا ابي ماضي كانت أكثر قدره علي التعبير وفي نفس الوقت فأن هذه الصياغة كانت محكومة بطابع فلسفي أضفي عليها صبغتها الخاصة. إن الطابع الجمالي والفني كان ولازال سمه ملازمة لكل نص أدبي وهذهِ السمه من أهم المقومات التي تضفي عليه صفة الإبداع، وإذا أردنا للنص الأدبي أن يعبر عن الأسئلة أو الأفكار الفلسفية هل بمقدور أن يقوم بهذهِ المهمة دون أن يفقد جماليته وفنيته ؟ وللإجابة علي ذلك لابد لنا من إستقراء بعض النصوص الأدبية التي عالجت جوانب فلسفية وعدت فيما بعد –أدباً فلسفياً ــ ومن النصوص الشعرية لأبي العلا المعري وعمر الخيام وغيرهم فهذهِ النصوص مع معالجاتها الفلسفية الا إنها لم تفقد جماليتها وفنيتها،وهذا يعتمد بالأساس علي إبداع الأديب شاعراً أو قاصاً ومقدار تفاعله مع الفكرة التي يريد ايصالها فقد تبدو الأسئلة الفلسفية في لغتها المعتادة جامدة ألا أن الصياغة الأدبية لها هو الذي يكسبها طابعاً جمالياً وفنياً كما هو واضح عندما نرجع الي نصوص تر اثنا الأدبي،وبهذا فأن الطابع الفلسفي للنص الأدبي لايفقده جماليته لأنه ولد ونشأ وتمازجت فكرته منذ البداية فلسفةً وأدباً وليس هو تحميل النص الأدبي أفكاراً أو أسئلة فلسفية في وقت متخلف عن لحظة كتابته،حيث أن النص الأدبي عندما يُكتب كان المضمون فكرة جالت في ذهن الأديب وعند حولها الي الفاظ أكتسبت شكلاً فأصبحت شكلاً ومضموناً، وعندما تكون الفكرة فلسفية فأنها تشغل مضمون النص الأدبي بدلاً من الأفكار الأخرى المعتادة المستخدمة في الأغراض الأدبية العامة.ومهما كان من علاقة بين الفلسفة والأدب فأننا لابد أن نعترف بأن الفلسفة عالجت وتعالج قضايا حاسمة في حياة الإنسانية بينما الأدب يبقي ترفاً فكرياً مهمتهُ التعبير عن حياة الشعوب وتبقي الفلسفة أبعد غاية من الأدب ويبقي الاثنان مع بقية جوانب المعرفة الإنسانية نوافذ اساسيه يطل منها الفكر الانساني على اشكاليات وقضايا الحياة المتنوعة,والله الموفق.