وهذا لسانٌ عربيٌّ مُبِيْن!

د. عبدالله بن أحمد الفَيْفي

رُؤى ثقافيّة 60

أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي

[email protected]

-1- ونحن نناقش قضايا اللغة العربيّة والشِّعر اللهجي، وبعض المساعي لتوطيد أركان العامِّيَّات في ثقافاتنا المحليَّة والعربيَّة- وربما العالميَّة!- يجيء السؤال مُلِحًّا: تُرى لماذا نُصِرُّ، نحن العرب، على التمارض، ونشر وبائنا وتخليده، ولا يفعل الآخرون مثلما نفعل، مع أن بلواهم قد لا تكون كبلوانا؟  بل إننا نرى بعض الشعوب قد سعت إلى إحياء لغاتها القديمة الميِّتة، والمندثرة منذ عشرات القرون، فنجحت، ثم فرضتها على أجيالها في هذا العصر فرضًا، فنجحت، كما هو الحال في اللغة العبريَّة. مع أننا لا نكاد نعرف: ما هُويَّة هذه «العبريَّة»؟  أ هي «لسان كنعان»، كما جاء في (سِفر إشعيا)(1)؟  بل إننا، فوق ذلك، لا نعرف أ موسى نفسه عبرانيّ، كما جاء في انتساب قومه إلى «عابر» في (سِفر التكوين)(2)، أم هو آراميّ، كما جاء على لسانه في (سِفر التثنية)(3): «آرَامِيًّا تَائِهًا كَانَ أَبِي، فَانْحَدَرَ إِلَى مِصْرَ، وَتَغَرَّبَ هُنَاكَ فِي نَفَرٍ قَلِيل، فَصَارَ هُنَاكَ أُمَّةً كَبِيرَةً وَعَظِيمَةً وَكَثِيرَةً»؟ مَن هو؟ كلّ هذا لا يهمّ، ما يهمّ أن اللغة العبريّة صارت لغة أُمَّة وثقافة وتراث، ومِن هذا ينطلقون. فيما العرب يتفاخرون بالأنساب والأصول العِرقيَّة، ويُهمِلون الأهمّ، وهو مقوِّمات الانتماء الحقيقيّة والباقية، وفي مقدمتها اللغة العربيَّة.  وهنا فرق جوهري في الوعي الحضاري!  لا هذا فحسب، بل إن العرب كذلك- ويا للتخلّف!- يسعون إلى إهمال لغتهم الحيَّة، والعبث بها، والتنازل عن قوانينها، والسخريَّة من قواعدها، وتهويل صعوباتها، وتفتيتها إلى لهجات وعاميَّات وآداب، وبيعها بأبخس الأثمان في «بورصة» اللغات العالميَّة، حتى لتوشك الأُمم المتَّحدة على التخلِّي عن الاعتداد بالعربيَّة ضمن لغاتها الرسميَّة؛ لأنها اكتشفت أن العربان لا تعنيهم لغتهم في شيء، بل هم يُفضِّلون الرطانة بالإنجليزيَّة؛ لأنهم لا يتقنون استعمال لغتهم، وإذا استعملوها افتضحوا بين بني جِلدتهم، ناهيك عن سواهم!  

لكن لماذا يتفلسف بعض العرب اليوم، آخذين على عواتقهم تسويغ كلّ أمراضهم وأمراض لسانهم، وتبرير كلّ انحدار عن العربيَّة، والتمايع في النظر إلى ما خالف صحيحها، تحت شعارات ولافتات شتى؟ أ نقول: لماذا؟ أ وليس لأن العرب، باختصار شديد، أصبحوا بلا كرامة!  وهل الأمر يتعلَّق باللغة وحدها؟  إنها حالة مَرَضِيَّة عامَّة.  بل لم تَعُد القضيَّة فقدان الكرامة الإنسانيَّة فقط، بل التلذُّذ بالعبوديَّة والدونيَّة والهوان، وفي كلّ شأن.

-2-

لقد زعموا قديمًا، في جدليّات الدارسين حول نشأة الخطّ العربي: أن الكتابة العربية مشتقَّة من الخطّ النبطي، المطوَّر بدوره من الخطّ الآرامي(4). والخطّ النبطي نِسبة إلى الأنباط القدامَى، وهم من عرب الشمال قبل الميلاد. من آثارهم البتراء، ومدائن صالح (أو الحِجْر).  وقبل أولئك كان للفينيقيّين- وهم عربٌ كنعانيّون انطلقوا إلى شمال الجزيرة من جنوبها، ثم إلى حوض البحر الأبيض المتوسط في لبنان وسوريا- الدورُ التاريخي في اصطناع الأبجديَّة، قبل القرن الثالث عشر قبل الميلاد. وهي كتابة قفزت بتاريخ الكتابة من التصويريَّة الهيروغليفيَّة والمسماريَّة العراقيَّة إلى الرموز الأبجديَّة التي نستعملها الآن، ويَدين لها العالَم كافَّة بهذه التقنية الكتابيَّة. حَدَث ذلك في مدينة جبيل، أو (بي-بلوس)، كما سمَّاها اليونان، أي مدينة الكتابة، ثم انتشرت بتجارة الفينيقيّين وعُملتهم، التي تناثرت في المعمورة، من سيناء إلى قرطاجة، وصولًا إلى إيرلندة فالنروج وغيرهما.(5) ولقد كان قدماء العرب، إذن، أهل حضارة، وعمارة، وكتابة، ولم يكونوا كأحفادهم، جهلاء بُداة رُحَّلًا. بل إنهم أسَّسوا للحضارة الإنسانيَّة من بَعدهم، وإنْ أنكر المنكرون، جهلًا، أو تجاهلًا، أو عَمَالة. حتى لقد يَدهش الذهنُ- المغسول بالصورة النمطيَّة عن العرب- حين يقرأ عن التاريخ السياسي لهم، فيجد في نقوش الحضارات المجاورة للجزيرة العربيَّة حديثًا عن مَلِكات عربيَّات، كزبيبة، وشمس، ويطيعة، ويافا، وباسلة، وتِلخون، وتَبُؤَة، وعادية، وزنوبيا، والزبَّاء، فضلًا عن ملِكة سبأ، بِلقيس، المشهورة. ثم يَعلم أنهنَّ كُنَّ يَقُدْن الجيوش ويحاربن الروم والآشوريين وسواهم، وأنها كانت لبعضهن (المركبات الحربيَّة)، و(عربات النقل)!

(مركبات حربيَّة)، و(عربات نقل) لدى العرب، قبل الميلاد؟!

أجل! وهذه ليست من بنات خياليّ، بل هي ما شهدت به الأعداء. فقد جاء- مثلًا- في نقوش الدولة الآشوريَّة، من نصٍّ يعود إلى الملك الآشوري (سنحاريب، 705- 681ق.م)- وكان يفتخر فيه بحملته الحربيَّة في حوالَى 703 أو 702ق.م على العرب، ذاكرًا أَسْرَه شخصين، أحدهما اسمه (بسقان)، وهو أخٌ لامرأة اسمها (جَذِيْعَة/ جُذَيْعَة Iati'e)(6)، توصف بأنها «ملِكة بلاد العرب»، في إشارة إلى الجزيرة العربيَّة- أنه، كما ورد في (السطرين 28- 29) من النقش: أَسَرَ الأخوَين حَيَّيْن، مع جيشهما [أي جيش ملِكة العرب المذكورة وأخيها]، واستولى على المَرْكَبات الحربيَّة، وعربات النقل، والجياد، والبغال، والحمير، والجمال.(7) ومعنى هذا أن العرب كانت لديهم جيوشٌ غير تقليديَّة، وفي ذلك التاريخ السحيق، وكانت لهم مَرْكَباتٌ حربيَّةٌ وعربات نقل، ونحو ذلك من أسباب الحضارة! فأين كانوا، وإلى أين انحدروا؟! طبعًا، ذهبت (المَرْكَبات الحربيَّة)، و(عربات النقل) أدراج الرياح التاريخيَّة، وبقيت الجياد والبغال والحمير والإبل؛ لأنها تتناسل بالطبيعة، أمَّا الصناعات والحضارت فتندثر باندثار العقول! 

-3-

تُرى، إذن، أ لعلّ الشِّعر النبطي اليوم إنما يريد أن يعود حضاريًّا إلى مرحلة سحيقة، شفاهيّة نبطيّة، كالمشار إليها أعلاه؟! أي قبل الخطّ العربي والنبطي معًا، وقبل فصاحة اللغة وتعرّبها؟ أو قُل قبل المرحلة الحضاريَّة التي اشتُقّ فيها الخطّ العربي من النبطي، حسب تلك النظريّة؟ أ هو يؤسِّس لنبطيَّةٍ جديدةٍ لسانًا وكتابةً، استدراكًا على التاريخ؟ لأنه ما أن أصبح للعربيّة لسانها المكتوب وحضارتها، حتى أصبح الاعتزاز بهذا الرصيد العربي لا بغيره، وبلغة القرآن الكريم والأدب العربي والحضارة الإسلاميّة، لا بغيرها. ومن ثَمَّ أصبحت صفة «النبطي» حين تُطلق على الشِّعر لا تحمل أيَّ إيحاء حضاري، بل لا تعدو تسمية تنتقص من عروبة ما تُطلَق عليه، وذلك أيّام كان الاعتزاز بلسان العرب، فيما كان الوصف بـ«أعجمي» أو «نبطي» سُبَّة.  إن كثيرًا من الناس اليوم لا يدركون أن وصف ذلك الشِّعر بالنبطي هو تحقير له، إشارة إلى أنه طلاسم لهجيَّة بالية غير مفهومة، ولا مُبينة، ولا ذات قيمة أدبيَّة، ولا ينتمي إلى العرب بل إلى النَّبَط، ممَّن لا يَفهم لسانهم إلَّا بنو جلدتهم. ذلك أن مصطلحَي «النبطي» و«الأنباط» لا نكاد نجدهما في الشِّعر العربي منذ الجاهليَّة إلّا نَبْزًا، وفي الإشارة إلى غير عرب الجزيرة، من أهل سواد العراق ومن إليهم في شَمال الجزيرة وبادية الشام.  وهذا ما جاء عنهم في كتاب «العَين»، للخليل بن أحمد الفراهيدي: «النَّبَطُ والنَّبيطُ: كالحَبَشِ والحَبِيشِ في التَّقدير، وسُمُّوا به، لأنّهم أَوَّلُ من استنبط الأرض، والنِّسبةُ إليهم: نَبَطيٌّ، وهُمْ قومٌ ينزلون سَوادَ العراق، والجميع: الأنباط.»  وقد يأتي «النبطيّ» وصفًا بعدم عروبة الملقَّبين به مطلقًا، نحو قول المتنبي:

وماذا بمِصرَ مِن المُضحِكاتِ ** ولـكــنَّــهُ ضَحِــكٌ كـالـبـُـــكـــا

بِها نَبَطِيٌّ مِنَ اهـلِ السَّـــــــوادِ ** يُـدَرِّسُ أَنسابَ أَهلِ الفَلا!

  ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) انظر: الإصحاح 19، الآية 18.

(2) انظر: الإصحاح 11، الآية 14- 00.

(3) الإصحاح 26، الآية 5.

(4) الآراميّة- كما هو تعريفها في بعض المراجع- لغة ساميّة قديمة، لكنها ما زالت كثيرة الاستعمال من شعوب غير آراميّة في أنحاء من غرب آسيا، وهي في بعض بلدان الشام وجزيرة ابن عمر لغة متداولة اليوم، وقد تسمّى الكلدانيّة. ولذلك كانت- مثلًا- من ضمن اللغات الستين التي يُتَرْجَم إليها خطاب بابا الفاتيكان بمناسبة عيد الميلاد!

(5) انظر: ظاظا، حسن، (1990)، الساميُّون ولغاتهم: تعريفٌ بالقرابات اللغويَّة والحضاريَّة عند العرب، (دمشق: دار القلم- بيروت: الدار الشاميَّة)، ، 53- 57.

(6) يرد الاسم بصيغ مختلفة لدى الباحثين العرب: يطيعة/ ياتيعة/ يثعة.  وربما كان الأقرب أن اسمها: جَذِيْعَة، أو جُذَيْعَة، أي فتاة حديثة السن.  والعرب تُسمِّي جُذَيْع، وجِذْع، ونحوهما.  وفي المَثَل "خُذ من جِذْع ما أعطاك"!  أصله أن رجلًا اسمه جِذْع أعطى مَلِكًا سيفًا رهنًا، فرفضه المَلِك، وقال: «اجعل هذا في كذا من أُمِّك!»، فضربه جِذْع بالسيف فقتله. (انظر: ابن منطور، لسان العرب، (جذع)).   

(7) See: Eph'al, Esrael, (1982), The Ancient Arabs, (Jerusalem: The Hebrew University), p.40; Luckenbill, Daniel David, (1989), Ancient Records of Assyria and Babylonia, (USA: Histories & Mysteries of Man LTD), v.2: p.130. 

-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «وهذا لسانٌ عربيٌّ مُبِيْن!»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12412، الخميس 25 يونيو 2013، ص37].