ترميم التراث السردي!!
ترميم التراث السردي!!
الجيلاني شرادة
تظهر مواهب الأدباء المبدعين عادة في سن الشباب المبكرة ، وهي سن التحصيل العلمي والمعرفي أو ما يعرف بمرحلة التمدرس ؛ وحينها يكون الشاب المبدع حريصا على إبراز موهبته الكتابية ، إذ يسارع إلى النشر متى تسنى له ذالك ، باحثا عن الثناء ، مركزا عن فرض وجوده كمبدع وكاتب موهوب مثله مثل الأدباء الآخرين الذين شقوا طريقهم نحو الإبداع ...
إن هذا الإحساس يعتبره البعض طبيعيا إذ يعكس روح التحفز عند الشباب ، إلا أن التسرع في تطبيقه ؛
وإن كان له ما يبرره ؛ غير أنه يأتي عادة على حساب الإبداع المنجز ؛ على اعتبار نقص التكوين المعرفي لدى المبتدئ وعدم إلمامه بمقومات الفن الذي يكتبه ؛ وهو ما سيبرز بعد فترة قصيرة ؛ عندما يكمل الكاتب الناشئ تكوينه وحينما يصبح على قدر من التجربة الإبداعية خاصة في مجال الكتابة السردية؛ حينها سيكون الكاتب أول الناقدين لكتاباته السابقة بل والأكثر انزعاجا من هفواتها ونقائصها ، سواء منها الأسلوبية المتعلقة بالشكل أو الفنية الخاصة بالمحتوى ...والسؤال الذي يطرح في هذه الحالة ؛ هو : هل يجوز للكاتب - الذي نشرت أعماله وتوزعت على شكل واسع وبعد فترة زمنية ما – أن يقوم بتنقيح وتصحيح وترميم إصداراته السابقة ؟. وهل يمكن أن نتصور رواية ما كتبت قبل عقدين أو أكثر يقدم كاتبها على تصحيحها بل والحذف منها أو الزيادة إليها ؟ ..وقبل الإجابة عن ذلك ينبغي أن نفكر أولا في مسار الكتب الأدبية(خاصة القصصية منها) بل ومآلها بعد صدورها ... وفي ذلك قد نحدد حالات مختلفة يمكن أن نذكر بعضا منها :
01- هناك من الكتب والأعمال السردية ما يتجه إلى القارئ العادي الذي يقتنيها لقراءتها ، أولا ، ثم
للاحتفاظ بها في المكتبات الخاصة ..
02- تتجه كتب أخرى نحوالمعارض المختلفة ( محليا ودوليا ) والمكتبات التجارية الخاصة والعمومية
بغرض التوزيع والتسويق..
03- مجموعة أخرى تتجه نحو المكتبات العمومية كالمكتبات الجامعية والمدرسية لتوضع في متناول
الطلبة والباحثين عموما ..
علينا أن نذكر بأن المصنف الإبداعي الأدبي هو إنتاج فني يعالج مصيره كمصير أي فن من الفنون الأخرى ، إذ بمجرد وصوله إلى المتلقي يتحول إلى ملكية عامة ، وهو حق للمجموعة العمومية التي تمتلكه وتستغله وفق النواميس الفنية المتعارف عليها ..
لذا فيمكن لهذا المنتج الأدبي أن يقع تحت طائلة إحدى أوجه الاستغلالات المشروعة ؛ نذكر منها الحالات التالية على وجه التمثيل لا الحصر:
- قد تتحول بعض النصوص الأدبية ، من هذا الكتاب أو ذاك ، إلى نماذج تعليمية في الكتب المدرسية
للدولة الأم أو لأي دولة أخرى تختار لها نصوص من ذلك ..
- بإمكان الطلبة والباحثين استغلال هذه الكتب كمراجع أو مصادر لبحوثهم المختلفة ؛ مستغلين
نصوص هذه المصنفات للاستشهاد بها والنسخ من صفحاتها ( كما وردت) كحجة للتدليل عن لغتها
أو أسلوبها أو محتواها ...
- قد يترجم النص الأدبي كله أو بعض نصوصه إلى لغات مختلفة انطلاقا. من النص الأصلي
- هناك بعض المؤلفات أو بعض النصوص قد يعاد نشرها في مجلات أو جرائد أو دوريات
متخصصة تعتمد هي الأخرى كمراجع للدراسات والبحوث..
للإجابة عن السؤال الأول الخاص بجواز التنقيح من عدمه ؛ يطرح سؤالا آخر نفسه وبإلحاح : كيف سيكون مصير هذه الاستغلالات النقدية والمعرفية العلمية التي انطلقت أساسا من النص الأصلي ؛ عندما يلحق بهذا النص (الأصلي) تغيير ما تحت أي تسمية كانت ؛ كأن يكون تنقيحا أو تحيينا أو ترميما كما يقول البعض.؟؟..
لذا نؤكد بان الأقرب إلى الصواب المنطقي والعلمي بل وإلى احترام الروح العلمية والأدبية هو الإبقاء على شكل النص الأصلي كما ورد في حلته الأولى ، على اعتبار انه مولود فني جديد جاء بهذه الصورة ؛ وأن أي تغيير فيه بعد ذلك يعتبر تشويها لصورته الحقيقية ؛ بل وخرقا للروح الأدبية والمواقف النقدية. ولا أدل على ذلك ما قام به سلفنا من الأدباء والنقاد في القرن الماضي ، وكمثال على ذلك ؛ عندما أعلن الدكتور طه حسين – عندما لم تقنعه تجربته الروائية – بأنه ليس مؤهلا لكتابتها وتوقف عن ذلك . في حين كان الروائي نجيب محفوظ – عندما لا تعجبه رواية ما – لا يقوم بتنقيحها بل يرفض إعادة طباعتها ؛ كما قرأنا لكاتبنا المرحوم الطاهر وطار ؛ عندما أقدم عن إعادة طبع مجموعته القصصية الأولى ( دخان من قلبي ) ؛ وعلى الرغم من امتعاضه من الأخطاء والهفوات التي احتوتها إلا أنه أكد بأنها لم تعد ملكا له وحده ، على اعتبار أن فيها من النصوص ما ترجم إلى لغات أجنبية وفيها ما برمجت في ثانويات بعض البلدان الشقيقة ، فالمجموعة – كما ذكر في مقدمة الطبعة الثانية - قد دخلت التاريخ بسلبياتها وبإيجابياتها ..
نؤكد في الأخير بأن هناك كتابا قد أجازوا لأنفسهم تنقيح مؤلفاتهم مراعين بعضا مما ذكرناه سابقا ؛
وقد يقبل هذا إلى حد ما ؛ عندما تكون أسباب التنقيح مقنعة ومنطقية ؛ على أن يشار إلى هذا التنقيح وأسبابه في الإصدار المنقح كأن يكتب على وجه الكتاب عبارة: النسخة المنقحة لكتاب : يليها العنوان الأصلي .؛ وتوضع مقدمة يعرض فيها للتنقيح وأسبابه ؛ كما قد يضع الكاتب فهرسا لكل التنقيحات في آخر الكتاب ؛ وبهذا نكون قد حافظنا على جهود الطلبة والباحثين الذين اعتمدوا على نص الكتاب الأصلي الذي طاله التنقيح .
ويبقى – بحسب اعتقادنا – أن الأصل في معالجة النصوص السردية هو أن نقوم بالتنقيح والتصحيح اللازمين لها قبل الطباعة لا بعدها ، مع أخذ الوقت الكافي للمراجعة ، قبل أن تتحول ملكية الإصدار إلى القراء والمتلقين عموما ...