في التراث والتحقيق (3/3)
رُؤى ثقافيّة 58
أ. د. عبد الله بن أحمد الفَيْفي
تطرَّقنا في المقال السابق وسابقه إلى كتاب «التِّبر المسبوك في تاريخ معرفة الملوك»، لعمر بن أحمد الهاشمي، الذي اشتغل بتحقيقه: عبدالرحمن الرفاعي، (من إصدار: دارة الملك عبدالعزيز بالرياض، 1434هـ). وأشرنا إلى ما ورد فيه حول فتنة «المخلدي، ابن مسلية»، الذي أبرزه «المحقِّق» تحت عنوانٍ ذكرنا أن قرائن التاريخ والجغرافيا والأسماء والأنساب تتنافى معه، وإنْ أثبته «المحقِّق» في المتن، والحاشية، والعنونات، والفهارس. وتبيّن في ذلك المقال أن ما كتبه «المحقِّق» في «التِّبر المسبوك» برسم «الفيفي»، هو: «الحبيبي»، في المصدر الذي ينقل عنه الهاشمي، وهو كتاب «خلاصة العسجد» للبهكلي؛ فقد جاء في المخطوط الذي رجعنا إليه النصُّ على وقوع ثورة في المخلاف السليماني من قِبَل «عرب من البدوان على يد رجل من (آل حبيب) يسمى المخلدي، ومن الناس من يسميه ابن مسلية». مشيرين إلى أن مؤلِّف «التِّبر المسبوك» إنما كان يستنسخ كلامه من «الخلاصة»؛ فهو ناقل متأخِّر، بل مضطرب النقل جدًّا. ولذلك فإن كتابه يُعَدّ زهيد القيمة في هذا القسم المتعلق بالتاريخ السابق على ما عاصر.(*)
ومن الملحوظات الأخرى على هذا الكتاب نورد ما يأتي، على سبيل التمثيل لا الاستقصاء:
1- يحدِّثنا «المحقّق» في المقدمة عن مناصب المؤلِّف، قائلًا: «كان السيّد عمر بن أحمد بن صالح الهاشمي يحضر كل اجتماعات والده السيّد أحمد عمر الهاشمي»!(1) في حين يورد اسمَ المؤلِّف على الغلاف هكذا «عمر بن أحمد بن محمد بن صالح الجيزاني الهاشمي». فكيف صار اسمه «عمر بن أحمد بن صالح»، لا «عمر بن أحمد بن محمد بن صالح»؟! وكيف صار اسم أبيه «أحمد عمر»، لا «أحمد بن محمد»؟! بل قد يسميه في مواطن أخرى باسم آخر، هو: «عمر هاشم»! (ص92).
2- يُضيف «المحقِّق» إلى المؤلِّف لقب: «الجيزاني»، مع أن المؤلِّف نفسه لا يُلقِّب نفسه بهذا اللقب، كما جاء في مقدّمة مخطوطه، بل بلقب «الهاشمي» فقط. وكأن إضافة هذا اللقب ليس إلّا لاستعمال لقب «الجيزاني»، لا «الجازاني»؛ لرأي «المحقِّق» في صحَّته. وتلك مسألة أخرى. غير أنه جدير بالإشارة هنا أن الاسم التاريخي منذ القِدَم: «جازان»، لا «جيزان». والبهكلي- القريب تاريخًا- يسميها «بندر جازان»، كما رأينا في المقال السابق. واسم المنطقة الرسمي اليوم: «جازان». وكل ما يُقال عن صحَّة اسم «جيزان» فيه نظر. وحتى لو صحَّ من بعض الوجوه، فلقد آن توحيد التسمية، وفق اسم المنطقة الإداري الرسمي، بعيدًا عن هذا الازدواج المفتعل الملبس، وبلا معنى.(2) حتى إن المؤلِّف نفسه قد يستعمل الصيغتين معًا في سطر واحد. (ص92).
3- لم يُدرج «المحقِّق» صُوَرًا من صفحات المخطوط في مقدّمته، كالمعمول به في مقدّمات التحقيق. وإنما نُشرت صورةٌ صغيرة باهتة للصفحة الأولى من المخطوط على غلاف الكتاب.
4- منذ السطر الأول يظهر اضطراب النصّ. فقد استُهلّ بالقول: «الحمد لله الذي جعل علم التاريخ عَلَمًا شامخًا منارُ أعلامِه، وعنوانًا على جبهات... وأيامه».(3) فجاء ضبط «منارُ» هكذا، خطأ، ولعلها «مُنارَ». والكلمة التي ذُكر أنها غير واضحة في الأصل، هي واضحة على صورة الصفحة الأولى من المخطوط التي جُعلت على الغلاف، وهي لفظ الجلالة: «الله». وبذا فصواب النص: «الحمد لله الذي جعل علم التاريخ عَلَمًا شامخًا، مُنارَ أعلامِه، وعنوانًا على جبهات اللهِ وأيامِه».
5- يرد تعبير غريب في أول المخطوط هو «أمّا بعد: فقد طلب مني الأخ ... الفاروق لقبًا، الهاشمي نسبًا: عمر بن أحمد بن محمد بن صالح- وفقه الله للعمل الصالح- أن أسرح طرفي الكليل في تاريخه...»!(4) فمَن المتحدث هنا؟ لا يمكن أن يكون المؤلِّف نفسه. وكيف يطلب نفسُه من نفسِه؟! مخاطِبًا المطلوب منه بـ«الأخ»؟! إنه إشكال كان جديرًا بالإيضاح!
6- يورد «المحقِّق» متن الكتاب بكامل أخطائه اللغوية والنحوية الكثيرة الشائهة، ثم يعلِّق مصحِّحًا في الحواشي بعضها. وكان الصواب أن يُصحِّح المتن، ثم يبيّن ما ورد في الأصل في حواشيه.
7- قال المؤلِّف: «وسميته: التِّبر المسبوك في تاريخ معرفة الملوك». فجاء التعليق في الحاشية: «لعله قصد: في معرفة تاريخ الملوك، فانقلبت عليه العبارة سهوًا».(5) فكيف يقال هذا وقد أُثبت عنوان الكتاب كما صاغه المؤلّف هنا: «التبر المسبوك في تاريخ معرفة الملوك»، منذ غلافه إلى آخر صفحة فيه؟!
8- أورد المؤلِّف أبياتًا لابن هتيمل، منها:
لولا النبوة في أيّامه ختمت ** بجَدِّه ما شككنا في تـنـبِّيْهِ
هكذا: «...ما شككنا في تبنيهِ»(6)! والصواب «في تـنـبِّيْهِ»، أي «في تنبُّئِهِ» من «النُّبُوَّة»!
9- ورد صدر أحد الأبيات هكذا: «رب صدع كاد أعيا شعبه»(7)، وصوابه: «كان أعيا».
10- ذكر المؤلِّف أن القاسم بن علي الذروي «تجلَّل خيلًا وحثّ السير عليها». فعلّق «المحقِّق» على كلمة تجلَّلها: «لم نتبين معناها هنا»(8)! ومعناها واضح، أي: علاها ومضى بها.
11- ذكر المؤلِّف أن «مدينة ضَمَد تَسمَّى بها الوادي»(9). والعكس هو الصحيح، فالوادي اسمه وادي ضَمَد منذ القِدَم.
12- البيت: فحقيق أن يصبح الدين ولها ** ن وأهله ذاهلين حيارَى(10)
صوابه: «وأهلوه».
13- البيت: ترجمان القرآنِ فسر القرآن ** حقًّا وفسر الآثارا(11)
صوابه: «ترجمان القرآنِ مَن فسَّر القرآن...».
14- البيتان: ليس قلب امرء يقابل إلا ** كقلب العصفور يصفو حذارا
رعدة لا يطيق بسترها المر ** ءُ ولو كان حازمًا جبارا(12)
صوابهما: «ليس قلب امرئٍ يقابل إلا مثل قلب...»، «رعدة لا يطيق يسترها...».
15- علّق «المحقِّق» بأن الأبيات السابقة من «بحر المديد».(13) والصحيح أنها من «الخفيف».
لعله يكفي من القلادة ما أحاط بالعُنق. مكتفين بهذه الأمثلة؛ فالكتاب كلّه في حاجة إلى مراجعة وتدقيق.
على أنها لا تغضّ هذه الملحوظات من واجب الشكر لجهد (الرفاعي) المقدَّر في نشر «التِّبر المسبوك»، وإنْ كان ما يزال في حاجةٍ إلى إعادة نظر ومزيد تمحيص.
(*) الحلقة الأولى من الموضوع على الرابط:
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/EF361991-0BFE-48DA-840E-4EF38B1FF5C5/P36.pdf
الحلقة الثانية من الموضوع على الرابط:
http://www.alraimedia.com/Resources/PdfPages/AlRAI/EEC70082-A120-4ED4-A85C-70677853861D/P37.pdf
(1) التبر المسبوك، 39.
(2) يُنظر بحثنا بعنوان: «الحركة الثقافية في منطقة جازان»، (1428هـ)، ضمن «موسوعة المملكة العربيّة السعوديّة»، (الرياض: مكتبة الملك عبدالعزيز)، 11: 379.
(3) التبر المسبوك، 53.
(4) م.ن، 54.
(5) م.ن، 56.
(6) م.ن، 69.
(7) (8) م.ن، 98.
(9) م.ن، 99.
(10) (11) م.ن، 131.
(12) (13) م.ن، 132.-[الكاتب: أ.د/عبدالله بن أحمد الفيفي، عنوان الموضوع: «في التراث والتحقيق (3/ 3)»، المصدر: صحيفة «الراي» الكويتية، العدد 12398، الثلاثاء 11 يونيو 2013، ص40].