قراءة في نص "ضجر" للشاعر امير ناصر

قراءة في نص "ضجر"

للشاعر امير ناصر

جوتيار تمر

ضجر

الشاعر: امير ناصر

لنقف ريثما تعبر الماشية ثقيلة الرائحة

كي نراقب الفتيات

العايدات من المدرسة

او نلوح بالتحية

للحلاق وصاحب المقهى

امام الصبية ال... يتقاذفون بالروث

القراءة: جوتيار تمر

قيمة العنوان تبرز من خلال قراءة النص، وذلك لان المتلقي يتوجه الى النص وقد علقت في ذهنه ايحاءات العنوان ورموزه، وهو يقوم بربط كل ذلك بما يلاقيه اثناء عملية قراءة النص وتأويله، وذلك ما يجعل من اهمية العنوان تتعدى الى افاق ابعد، لاسيما في نصوص الومضة وذلك لاتخاذه طبقات من المعنى اكثر عمقا في سياق ثيمات القصيدة المتعددة فضلا الى ان العنوان في حالات كثيرة يمكنه اعادة خلق قطعة ادبية بحجم الومضة نفسها، وهذا ما يحيلنا دائما الى البحث في مكنونات العنوان ضمن جميع مستوياته، لاسيما في هذه الومضة التي وجدت بأن العنوان متماهي بشكل مغاير مع نفسية الشاعر اثناء ممارسة فعل الكتابة، وكأن الضجر نفسه اراد من الشاعر ان يحول ما تلتقطه عينه الى كلمات هي اشبه في مسارها ونسقها الى فعل درامي.

اما المضمون فيمكن البت في الومضة من خلال مستويات متعددة، وذلك لكونها هي بموضوعيتها ارست قواعد متعددة الرؤى، فمن جهة نراها تؤثث لعوالم البيئة الريفية البحتة والتي تتمخض من خلال مظاهرها البينة والتي هي الاخرى تحاول رصد ديناميكية الحياة في الريف ورصد بعض جوانب هذه الحياة سواء على المستوى المعيشي والمتعلق بالموجودات التي تعتبر مصدر رزق لهم من تربية الماشية، ودكان الحلاق، والمقهى، حيث هذه المظاهر تعد من اساسيات القرى والارياف عندنا، بل تعتبر علامة اجتماعية ايضاً في بعض الاحيان، ام من خلال المستوى الاجتماعي والمتمثل بسلوكيات الشباب في سن المراهقة ومابعدها وتلك الظاهرة التي تتميز بها اغلب الارياف والتي تتمثل بالوقوف على مفترق الطرق لمراقبة الفتيات العائدات من مدراسهن،  في اشارة ذكية الى الواعز النفسي الجنسي كمدخل لقراءة سسيولوجية للرغبة لدى هولاء في اشباع بعض حاجياتهم الجوانية ولو عن طريق المراقبة والمعاكسة حتى وان كانت عرضية وذلك لطبيعة المجتمع الريفي.

اما المدخل او المستوى الثالث فهو يظهر التفاعل الحيثي والذهني والعاطفي للشاعر مع شريحة تعد من جماليات الوجود البشري على هذا الخراب المسمى الارض، الطفولة في الريف..ملامح حياتهم وميولهم وتطلعاتهم ليست مثل غيرها في اماكن اخرى، ولعل تعمد الشاعر في اظهار مادة اللعب لديهم هنا لم تكن عرضية ولا عبثية انما هي حقيقة وواقع من جهة، ومن جهة اخرى صرخة ونداء باطني يطلقه الشاعر للبحث في تلك المعضلة التي تترتب عليها مشاكل نفسية صحية اجتماعية جمة، فاللعب بالروث لايعد امراً اعتباطياً هنا، لكنه رصد للحالة المعيشية والاجتماعية في الريف بحيث يفتقر الى ابسط معطيات الحياة الجيدة حتى للاطفال، وهذا النداء الخفي يظهر في مداياته مقارنة مضمرة لحياة الاطفال في مدن الملاهي، وحياتهم في الريف.

ومن خلال ذلك نرى مدى تأثير البيئة على مستويات اللغة لدى الشاعر الذي بدأ ومضته ب" فعل " جامد "نقف"  مسبوقة باللام الجمعية، وهو فعل مقيد للحركة في مفوهمه الظاهري، لكنه في مضمونه فعل راصد ذا حراك عميق من خلال الرؤية التي قدمها الشاعر لسبب" لنقف".. اما المشهد الذي استوجب التوقف هو مشاهدة الماشية وهي تعبر امامهم وتترك رائحة " ثقيلة" ولعل تعمد الشاعر في كتابة " ثقيلة " بدون الالف واللام ذكاء منه وتأكيد لحجم الرائحة نفسها ومدى تأثيرها على الواقفين والمارين والساكنين ايضاً.

ومن يتمعن النظر في الومضة يجد بأن العنوان" ضجر"  هو مدخل الفعل الاساس للعملية النصية،  باعتباره الدافع للخروج والوقفة والمشاهدة، والوقفة تلك هي الواعز والصورة الاستعارية التي تتمخض وتترتب عليها باقي الحدث الشعري، فالوقفة تلك ترتب عليها اظهار الملامح المكانية باعتبار ان البيئة تشكل معلماً ريفياً من جهة، والثانية انها اظهرت زمنية مضمرة، فعودة الماشية غالباً ما تكون في ساعات المساء وهو نفس الوقت الذي غالباً ما ينتهي فيه دوام المدارس، وفي ذلك اظهار لقدرة الشاعر في رصد الموقف الزمني بلغة مكثفة مختزلة للكثير من التفاصيل، ومن ثم تمخض عن الوقفة تلك اظهار  بعض ملامح ومكونات المجتمع الريفي وبعض سلوكياته، فمشاهدة الفتيات دالة سلوكية واضحة وغير مخفية على المتابعين للحياة الريفية، على الرغم من ان البعض قد يقول بأن الحياة في الريف بسيطة وانها نقية خالية من الشوائب والى غير ذلك، لكن لااظن بانهم قد يختلفون معي في كون الشباب غالباً ما يقفون بتلك الصورة ويراقبون عودة الفتيات من المدارس وسبق وان ذكرنا بان الرؤية نابعة من طبعية المجتمع الريفي والواعز الجنسي المخفي المكبوت، وختمها الشاعر بعنصر حروك في المجتمع الريفي وذا تاثير مجمل على طبيعة الاجتماع ورونقه ونقائه "الطفولة".

        ولذلك نلامس بان البيئة لها أثرٌ ومقال في مجمل حراك النص، بل إنها التي تترك بصماتها على ذات الشاعر ورؤاه ونفسيته وذوقه، وهي مصفاة لغوية له، بل هي مختبر جمالي يمنح تمنحه البصيرة وتذوق الموجودات وفق معطيات تنقل لنا الصورة من جهة، وتبث لنا الرؤيا المنشودة والهادفة من جهة اخرى، وذلك عبر تحولات ملحوظة عابثة متحولة الى نهج ومخطط جمالي للبيئة والانسان معاً.