الخطاب إلى الصدمة ومتن الخطاب

(قصص زياد أبولبن مقتربا)

يوسف يوسف

المقصود بالصدمة في هذه المقالة تلك التي تحدث عنها الألماني هانز روبرت يوس في بحوثه حول التوصيل ونظرياته وأطلق عليها تسمية صدمة التلقي . أما لماذا وقع عليها الاختيار لدراستها في قصص زياد أبولبن ، فذلك لأنها التي بدون تحققها على الوجه الأكمل ، فإن الخطاب (1) المرسل إلى المتلقي ، قصة قصيرة كان هذا الخطاب أو غيرها، لن تكون له أية قيمة حقيقية ، بصرف النظر عن اسم المؤلف ، أو عمره ، أو سوى ذلك من الأسباب . وأما لماذا المتن هو الآخر يقع عليه اختيارنا ، فذلك لأهميته البالغة ، ولأنه في النصّ الأدبي كمثل العامود الفقاري في جسم الانسان ، وحيث أن الخطاب إذا ما كان فارغا ، أو أن ما فيه من المفردات والصياغات والأبنية اللفظية لا تحمل أمرا ذا قيمة إلى المتلقي ، فإن القصة ستكون ضربا من العبث الذي لا طائل من ورائه ، ولن تحملها إلى برّ النجاح مفرداتها ، إن لم تكن هذه المفردات مرجعيات إلى ما ستحيل القارئ إليه من واقع اجتماعي أو سياسي ، أو سواهما مما يمهّد الطريق إلى المعرفة والاكتشاف وسبر أغوار الواقع في المكان والزمان ، حيث يمكن أن تدور الأحداث وتتحرك الشخصيات، وهو الهدف نفسه الذي توقف أمامه المفكر إدوارد سعيد طويلا في بحوثه حول علاقة النصّ بظرفيته ، وفي تلك التي تناول فيها ما أطلق عليه الوضع الدنيوي للنصّ ، وملابسات إنتاجه .

 هنا وعند التوقف أمام صدمة التلقي كما ترهص بها قصص زياد ، ليس من شأن المقالة ابتداء تقديم النصح . فالقاص ومثله الشاعر وسواهما ممن يكتبون نصوصا إبداعية، ليس من واجبهم أخذ النصح من أي كان ، تماما وكما أنه ليس من واجب الناقد هو الآخر أخذ الأوامر من أي كان ، ليكتب ما يرضي أو لا يرضي هذا المبدع أو ذاك ، وإن كنا نعتقد بأنه من الأفضل للناقد والقاص كليهما على حد سواء ، عدم النظر إلى النصّ في منأى عما سبقت الاشارة إليه مما توقف أمامه إدوارد سعيد الذي طرح على نفسه العديد من الأسئلة حول الطريقة الأفضل لقراءة النصّ ونقده. وهنا فإننا نلفت الانتباه إلى هذا الأمر ، لأنه ليس ثمة في صنعة الأدب ، ما هو ثابت ومستقر ، لتصاغ النصيحة على وفق ما هو عليه في وقت ما ، فالقصة القصيرة وهي مجال هذه المقالة ، وكما برهنت الأيام ، لون أدبي يستعصي على الثبوت والاستقرار ، فهو من أشدّ الصنوف الأدبية تغيرا وتطورا ، وأشكاله من أكثر الأشكال تعددا وتكاثرا ، وأساليبه تتنوع كلما اختلفت التجربة وتغيرت زاوية التركيز عند كاتب دون آخر(2).

 يعتبر العنوان في النصّ الأدبي من بين أبرز ما يجب الانتباه إليه عندما يتناول الحديث صدمة التلقي في هذا النصّ ، باعتباره العتبة التي يتم الدخول منها إلى ما في أعماق هذا النصّ . ولم تأت عبثا مماثلة العنوان بالعتبة التي هي الأخرى كمثل الممر الاجباري، إن لم يتم العبور منه فلن يكون هناك عبور على الاطلاق . والعتبة هي أول ما تقع عليه العين قبل الدخول في البيت ومعرفة أجزائه وما فيه من الموجودات ، وهي في حالة قيام الكاتب بالبحث عن عنوان مناسب لقصته ، من بين أكثر ما يتعبه ويثير تفكيره ، حتى لو تكوّن هذا العنوان من مفردة واحدة ، لأن العنوان وهذا ما يجب الانتباه إليه ، يمتلك القدرة على خلق الجاذبية أو النفور ، أحدهما وليس كليهما ، ليس بسبب طبيعته كمنحوتة في اللغة ، وإنما باعتباره البؤرة التي سيجتمع فيها مركز الثقل الدلالي في القصة ، وما يرهص به هذا المركز من الدالات إلى ما في الداخل من مغريات الجذب الفكرية ، بعد أن تكون المغريات الجمالية ذات الطابع اللغوي قد تركت آثارها في المتلقي ، الذي سرعان ما يتعرض للصدمة ، بمجرد وقوع نظراته على العنوان – العتبة .

 ومن الملاحظ على عنوانات القصص التي في المجموعتين (هذيان ميت)(3) و(أبي والشيخ)(4) أنها في الأكثرية منها تتكون من مفردة واحدة ، تنبئ بالفضاء الذي سيجد القارئ نفسه فيه. وهي مفردات يقدمها القاص ليس على وفق ما هي عليه في معانيها القاموسية المتعارف عليها وإنما بدلالات أوسع وكمثل ما نرى في قصص (الجوقة)و (المخيم) و(الوحل) و(الدوامة) و(الثلاجة) و(بقاء) و(الجنوبي) وسواها مما تأتي على هذا المنوال . وحتى في تلك القصص التي تتكون عنواناتها من أكثر من مفردة، فإن القصص لا تبتعد عما سبقت الاشارة إليه من الحرص على أن تكون هذه العنوانات مراكز لكل ما في القصص من الثقل الدلالي، وعلى غرار ما سنكتشفه في قصص ( أبي والشيخ) و( قبل عشرين عاما) و( بيت آخر) و(عالم آخر) و(صباح الجمعة) و( عصف الذكريات) وغيرها.

 هذه العتبات ستنبئ أيضا بسبب بنيتها المقتضبة ( مفردة أو ثلاث على الأكثر) بأن القصة هي الأخرى سيكون لها شكلها المقتضب . وهذا مما يغذي جماليات القصص ، وحيث يجب أن توضع عناصرها جميعها في نقطة واحدة- العتبة ، تشع لمعانا لتكون لحظات الحكاية كلها مستحمة في الضوء ، كيما تكون مرئية مثل إشراقة مضيئة(5).

 إننا إذا ما حاولنا اختبار صحة الربط بين العنوان وصدمة التلقي كما يبين أبعادها يوس في نظريته الشهيرة المسماة ( نظرية جمالية التقبل) ، سنجد بأن ما قال عنه أنه أفق الانتظار عند المتلقي – القارئ ، سوف يبدأ من هذه العنوانات ، التي من شأنها بحكم المحسوس الذي فيها والابتعاد عن التجريد ، تقصير المسافة التي تفصل القارئ عن مسألة الفهم الكامل لكل ما في النصّ . وهذه عملية تمتاز عادة بها النصوص الأدبية الناجحة ، التي من شأنها في الوقت نفسه الارتفاع بذائقة قارئها الفنية والفكرية كلتيهما معا .

 ويعدّ الشكل المقتضب هو الآخر مما يفيد في بلورة مفهوم الصدمة الناجحة وشروطها. وقد اقترنت فكرة القصة المقتضبة عند زياد بالتركيزوعدم الاسراف في استخدام مفردات تثقل ولا تضيف . إنه على سبيل التقريب لا يسهب في السرد ولا يطيل، ومن هنا فإن أغلب قصصه لا يتجاوز طول الواحدة منها الثلاث صفحات ، وإن كان من الضروري أن يفهم القارئ بأن مسألة الاقتضاب لا ترتبط بعدد صفحات القصة، وإنما بكيفية تقديم الحادثة وما تمربها الشخصية من الوقائع ، وبقدرة الكلمات على الإيحاء ، وبما يجعلنا نقول بأنه ليس في مقدور الواحد منا استخدام المقصّ لحذف هذه المفردة أو تلك .

 صحيح أن القصص تمتاز بقصر أطوالها وإن كان من غير الصحيح وضعها من حيث جنسها في خانة القصص القصيرة جدا ، إلا أنه مما يلفت الانتباه فيها ، انطواؤها كل واحدة منها على حدة وفي بنيتها على العالم الخاص بها ، الذي له حجمه ووزنه كما يقال أحيانا ، بعد أن يكون أبولبن قد قدمه إلينا في سطور قليلة ، لها إيقاع تمتاز فيه بسرعة الجريان ، التي يمكننا أن نعزوها إلى مهارة القاص، الذي أدرك كنه صنعة القصة القصيرة ، وكيفية الامساك بالقارئ ، لئلا يفلت منه فتخفت حدّة الصدمة وتأثيرها عليه خلال عملية التلقي . ومن هنا في اعتقادنا ، ومن أجل اقتياد هذا القارئ وإيصاله إلى حيث يريد ، استعمل زياد وفي كثرة واضحة ، الجمل الفعلية أكثر مما استعمل الجمل الاسمية ، على اعتبار أن الاولى تمنح القصة طاقة في الحركة لا تمنحها الجمل الاسمية ، وهو الأمر الذي نلاحظه في أغلب القصص، وليس في واحدة أواثنتين منها على وجه التحديد ، كمثل القول ( عدت إلى البيت . وجدت الشيخ واقفا ينظر إليّ بعينين مبصرتين . فتح فمه قال : أنت أنا وأنت أنا ، وسقط فمات . فأدركت حينها أن الشيخ لن يقوم)(6) و( مضى الوقت بطيئا. لاح الفجر وصاحت الديكة. جاءت خطوات الشيخ حسني قادما إلى المسجد ، فازدادوا خوفا ، وقرر ثلاثتهم الذهاب للمقبرة ، وبحثوا عنه في كل مكان ، وترددت صيحاتهم بين القبور ، وانتشروا في كل اتجاه)(7) و( عدت إلى البيت في المساء . كان ضوء القمر خافتا ، وضوء الكهرباء قد انقطع عن قريتي الساكنة على أطراف الصحراء . تعثرت بحجر كبير . سقطت فوق البئر اللعين .نهضت بسرعة. حملت الحجر وضربت به فم البئر ، وأنا أصرخ بأعلى صوتي : بشار.. بشار...((8) .

 وسوى ما سبق فإن قراءة قصص زياد لا تحتاج إلى جهد كبير ليصل المتلقي في نهايته إلى ما يريد إيصاله إليه من المتن . وهذه مسألة في قلب ما كان الفيلسوف غوته قد قاله : المؤلف الذي تحتاج قراءته إلى معجم لا يساوي شيئا . بيد أنه ينبغي أن لا تفهم هذه الحالة من عدم الحاجة إلى الجهد الكبير في مثل هكذا قراءات الفهم الخاطئ الذي يقلل من شأن القصص ، فتنعت بالتالي بما يطيب للناعتين قولها من النعوت التي ستكون في الغالب ظالمة ولا أساس منطقي لها ، كأن يقال بأنها قصص بسيطة ومباشرة ، وليست مما يبرز دور القاص ، فالعكس هو الصحيح تماما . إننا هنا نشير إلى الجماليات التي منها التماسك – تماسك القصة – والوضوح والابتعاد عما يثقل ويشتت ذهن القارئ. وهي في تعبير آخر جماليات البناء اللغوي الذي سيساهم في إيجاد وشائج قوية بينه وبين المتلقي ، وبما يؤثر إيجابا في صدمة التلقي التي نتوقف أمامها . وفي كلمات نوجز فيها ما سبق قوله ، فإن ما تحملنا الصدمة إليه ، والكيفية التي تحقق بها ذلك ، من شأنها المساعدة في إصدار الحكم النقدي الصحيح حول هذه القصة أو تلك ، وتحديد مدى النجاح أو الفشل ، وإن كانت قصص المجموعتين قد قالت الكثير من المعاني التي يأتي الكشف عنها في براعة ، نتبين من خلالها الجودة التي نبحث عنها عادة فيما نقرأ من القصص . فما الذي في هذه القصص من المعاني التي يرسلها إلينا أبو لبن ويحاول إقناعنا بوجوب التعاطف مع شخصياتها وهمومها ؟

 عند الاشارة إلى أن لكل قصة من قصص زياد عالمها الخاص ووزنها وحجمها كذلك ، فإننا نقصد هذا الذي نتساءل حوله من المعنى الذي في المتن هنا وهناك ، في هذه القصة وتلك . إنه الافتراض الطبيعي غير المستهجن بتاتا، وهذا مما يجب أن تقوم القصة به إن كان صاحبها ممن أدركوا الصنعة فأدركتهم هي الأخرى حقا . فلافري أوكونور تقول : القصة طريقة لقول شيء ما لا يمكن قوله بطريقة أخرى ، وعادة ما تستخدم كل كلمة فيها لتكشف المعنى(9) . ونحن في طريقنا لمعرفة هذا المعنى سوف نرى بأن الأفعال التي سبقت الاشارة إلى كثرة استخدامها في بنية القصص اللغوية ، هي التي من خلالها سيعمل القاص على تبديد ما في عالم الشخصيات من الغموض ، وهو الغموض الذي سوف يتلاشى بالتدريج مع كل صياغة جديدة .

 من بين أبرز الأمكنة التي تعيش فيها شخصيات زياد المخيم الفلسطيني ، سيان إن كان هذا المخيم في الأرض الفلسطينية المحتلة أو خارجها ، على الرغم من وجود فوارق بين الاثنين بحكم تباين الظروف . وسوى المخيم نرى ما يسمى بقاع المدينة ، حيث نلتقي بشخصيات تحيا بصعوبة وهي من الطبقة المسحوقة اقتصاديا . في قصص قليلة نطل على أمكنة أخرى تختلف في طبيعتها عما سبقت الاشارة إليها ، لكن علاقتنا التفاعلية معها سوف تضمحل ، ومثل ذلك أيضا ستكون علاقة شخصيات القصص بها ، وهي أمكنة لا يتآلف معها القارئ وشخصيات القصص على حدّ سواء . ومما نظنه أن زياد في تعامله مع الأمكنة الاولى أقدر منه في تعامله مع الأمكنة الثانية في رسم العلاقة بين الشخصية القصصية والمكان ، بالنظر إلى انتمائه الطبقي الذي أوجد بينه وبين هذه الأمكنة نوعا من العلاقة المتينة والروحية كلتيهما معا . يقول في القصة التي تحمل عنوان " المخيم" : جاءوا في المساء بجرافاتهم وسياراتهم العسكرية ، وجنود – يقصد الاسرائيليين – مدججون بالسلاح يقلعون البيوت الطينية الخالية من أهلها ، كما قلعوهم لأول مرة ، عندما جاءت طائراتهم تلقي علينا الرصاص والقنابل . لم يبقوا سوى بيوت قليلة في طرف المخيم (10). وإلى قاع المدينة وعالمه يقول في قصة " المسافات" : لم يكن العالم سوى سلة يحملها على ظهره ويجوب سوق الخضار المركزي . كان يسير من بيته إلى موقف السيارات مسافة طويلة . تعوّد على المسافات الطويلة . فكم من مرة حمل خضارا أوفاكهة في سلته من أول السوق إلى نهايته (11) .

 المثالان السابقان يشيران إلى أن شخصيات القصص في الغالب من الفئات المسحوقة الفقيرة المنهكة اجتماعيا واقتصاديا وحتى فإنها مسحوقة على المستوى النفسي. هي بهذا شخصيات تحاصرها الهموم والأحزان ومتاعب الحياة ، وإن رأيناها لا تخفي مقاومتها ورغبتها بتجاوز الواقع والانتصار في صراعها على ما ينغص عليها العيش . يقول في قصة " صباح الجمعة ": التقيا هذا الصباح . لم يكن مثل تلك الصباحات التي تعوّد عليها . فهي صباحات مملوءة بالملل والضجر . ففي هذه الساعة يغادران البيت إلى العمل ، وهما يلهثان وراء (باص) كي لا يتأخرا ، فصاحب العمل رجل لا يفرّق بين الصباح والمساء . يبدأه بالصياح والشتائم والتأفف(12) . وأيضا يقول في قصة " الثلاجة " التي تصور عذابات اللاجئ الفلسطيني وهو يزاحم سواه من اللاجئين للحصول على مساعدة من وكالة الغوث الأممية : ومدّ يده وأخرج من جيبه البطاقة الحمراء – يقصد بطاقة اللاجئ – ومزّقها ، وألقى بها تحت قدميه في الوحل . بدأ رأسه يغلي ، وقدماه تشتعلان . رأى شبانا مفتولي العضلات يدفعون بعضهم بقوة ، وآخر معلقا على باب الثلاجة يلقي بأكداس اللحم المجمد على الشبان ، ويطلبون المزيد . وبدأ يعدّ اللحم ، واحدة ، اثنتين ، ثلاثة ، عشرة ، عشرين .. طفق يبكي بشدة ، وأخذت الآرقام بالعدّ التنازلي ، وهو يهبط درجات المخيم (13) .

 في القصص السابقة وفي غيرها مما في المجموعتين ، علينا ما دمنا نبحث عما في متونها من المعاني الالتفات إلى مختلف ما فيها من التضمينات الاجتماعية والسياسية وغيرها ، والتي بغير معرفتها المعرفة التامة ، فإن المعاني ستبقى غائبة حتى وإن تبيّنا البعض منها ، ذلك لأن البعض الآخر سيظل مختفيا . وأما كيف يمكننا الوصول إليها ، فإنما بعدم الاكتفاء برؤية الظاهر وتفسيره واعتباره نهاية المطاف ، أو الغاية التي من أجلها كتبت القصة . إنها الدعوة للغوص في الأعماق، والعمل على تأويل ما يمكن تأويله من العبارات التي لا بدّ أن تكون لتشكيلاتها اللغوية أسباب يتوخاها القاص ، ومن هذه العبارات التي يمكننا التوقف أمامها ( كل الوساطات التي سعت في ركاب محمد عند المدير العام رجعت تجرّ ذيولها كجيش السادس من حزيران(14). فالمقايسة بين فشل الوسطاء وفشل جيش حزيران كما يسميه القاص في الحرب عام 1967 ، تشير إلى أن زياد أبولبن يحمل هما سياسيا يرى وجوب عدم إقصائه حتى وإن ابتعد الطرح عن المباشرة والاعلان الصريح . ومن ذلك أيضا ( مئات من الطلبة يحملون نعش معلم التاريخ وهو يهتفون عاليا : يحيا الوطن.. ولافتة كتب عليها : نحن من الجنوب ، والجنوب انتفاضة)(15) ، إذ التضمين هنا إنما يعني قيام القاص بتقديم صورة للجنوب وأهله ، تختلف عن تلك التي شاعت ويتم اعتمادها باعتبارها الصورة الواقعية لأناس متخلفين . وحسنا فعل القاص عندما ابتدأ برسم الصورة بالبدء من عملية تشييع معلم التاريخ وبما يعني تشييع الصورة المبتذلة المشار إليها . إنها عملية دفن للماضي ومفهوماته ، وبعث لحاضر تتجدد فيه المفهومات وترتقي . وباتجاه إكمال الصورة الجديدة ،فإن عبارة الجنوب انتفاضة ، تبشر بالتغيير، الذي سييستردّ الجنوب معه قيمته الحقيقية . وعلى ضوء هذا التصور ، سوف يكون في مقدور القارئ البحث عن المعنى أيضا في قول القاص ( ها هو ذا يعود إلى شوارع المخيم . يسير فيها غريبا . لم تعد تلك الوجوه التي رآها عندما كان صغيرا إلا في مقبرة المخيم . ولم تعد شوارع المخيم تغصّ بالوحل سوى طرقات اسفلتية سوداء . لم يعد للمخيم حتى اسمه القديم . سالت على خده دمعة ساخنة ، وهو ينطلق بسيارته مسرعا)(16) . وما سيصل إليه هذا القارئ انشغال القصة بموضوعة الذكريات ، التي تكون في الكثير منها شخصية ترتبط بالفرد وليس بالمجموع ، وهي سوى هذا ستكون آيلة للسقوط بمجرد أن تمر أعوام قليلة ، ويطرأ التغييرعلى الواقع والمكان ، وكمثل ما يكتشف البطل حينما يذهب إلى المخيم الذي كان قد ولد ونشأ فيه قبل انتقاله للعيش في أحد أحياء عمان الغربية التي تختلف اقتصاديا واجتماعيا عما عاشه في المخيم .

 ما سبق يعيدنا إلى السؤال عمن يصنع النصّ الأدبي. ولعل الاجابة الأوفر حظا في الوصول إلى ما يفي لفهم ماهية الكتابة والعناصر المؤسسة لها والعاكفة عليها ، تتمثل بتلك التي يرى فيها صاحبها بأن النصّ يصنعه الاثنان : الكاتب والقارئ كلاهما معا ، وإن كان الأول هو من يؤسس قواعد العمليةالكتابية ، التي على القارئ أن ينهيها على الوجه الأكمل ليكون النصّ قد نجح تماما في إيصال ما فيه من المتن إلى المتلقي . ففي قصة ( الجوقة ) على سبيل المثال يصبح من واجب المتلقي معرفة الرابط بين الناس الذين تصورهم القصة وبين مفهوم الجوقة . ولما كانت هذه المفردة مما يقع في عداد المفردات التي ترتبط بالموسيقى والعزف ، ومما تشير إلى المجموعة من الموسيقيين الذين يعزفون مع بعضهم في تناغم يوصل هذه المجموعة من الناس إلى ما يقترب من التماثل في العمل ، فإنها في القصة حيث يستخدمها القاص إنما تدفع القارئ للنظر إلى أهل القرية باعتبارهم كالجوقة ، في تناغم أفعالهم مع بعضها ، لكن في روتينية مميتة لا وجود لها في عمل الجوقة الموسيقية التي تقدم عادة معزوفات وإيقاعات جيدة ومثيرة للوجدان . إن الجوقة وعلى وفق هذا التوصيف لها ،الذي هو توصيف واقعي ووظائفي ، دالة إلى واقع معاش ، وإلى الناس فيما يقومون بها من الأعمال .

 إن عملية تأويل النصّ الأدبي وقراءته ، قصة قصيرة كان هذا النصّ أو غيرها ، إنما هي إنشاء لمعالم جديدة له ، فكرية هنا بالدرجة الأساس وليست جمالية . وهي بالنظر إلى ما يحدث فيها ، تأكيد لوجود قارئ من تصنيف ما ، ذكي كان هذا القارئ أو غير ذلك ممن يكون أقل قدرة على التفسير وسبر الأغوار البعيدة . هكذا يجب علينا تصور العلاقة بين النصّ والقارئ ، التي بسببها سوف يكون من الحماقة القول بأن عملية تأليف النصّ تنتهي بما يقوم به المؤلف الأول – الكاتب ، وبما تقع عليها عيوننا من المفردات وأبنيتها الفنية المختلفة . ونستطيع الجزم بمناسبة هذا فنضيف القول بأن مؤلف النصّ الأدبي ، ليس هو القاص وحده ، وإنما على القارئ هو الآخر أن يكون مؤلفا تاليا ، وإلا فإن النصّ بعكس هذا يكون قد مات فوق الورق ، بمجرد أن أنهى الكاتب بناءه على المستوى اللغوي .

 إن القارئ وهو يمضي باتجاه الكشف عن المعاني التي في متون القصص ، عليه واجب قياس مدى التأثير الذي ستتركه في داخله ، واتجاهات هذا التأثير . لربما يظن هذا القارئ بأنه في الحديث عن المخيم في قصص زياد يضع قدميه في الطريق لتقييم هذه القصص التقييم المنطقي ، ولكن تبقى هذه زاوية واحدة ، وثمة زوايا أخرى عليه النظر منها لاكتشاف عالم القاص بأكمله وليس عالم قصص بعينها ، ومن ذلك عالم السجن وما ستتعرض له الشخصيات في القصص التي تقدم للقارئ هذا العالم . والقصص التي على هذا المنوال من الانشغال ، سيكون فعل الصدمة الذي ستتركه في القارئ أقوى في الغالب من غيره مما تتركه القصص ذوات الانشغالات الأخرى. ومن هذه القصص (فراق)و(صوب الجدار) و(الدوامة) وغيرها . يقول القاص في قصة (صوب الجدار): زحف إلى طرف الغرفة الرطبة وهو يتحسس الجدار البارد وكأنه لأول مرة يكتشفه ، وكان يصرخ ويبصق قطعا من دم متخثر . في اليوم الثاني كان عادل قطعة لحم متجمدة)(17).

 إننا أيضا وخشية عدم الوصول إلى الأبعاد غير المرئية من القصص ، علينا الأخذ بمبدأ التفسير الدلالي لظاهرة الاكثار من استخدام القاص للجمل الفعلية ، في مقابل حرصه على النأي عن استخدام الجمل الاسمية . وفي اعتقادنا فإن هذا التفسير لكي يكون مقنعا يجب أن يبدأ من شخصيات القصص ، التي هي في معظمها مما سبقت الاشارة إلى بعض ملامحها الأساسية . إن الجملة الفعلية وكما معروف تعتمد في بنائها على فعل. وللفعل دوما مدى زمني يتحدد وقوعه به ، ولهذا فالجملة التي يتم بناؤها على هذا الأساس ،تكتنفها الصيرورة والتحول ، وهذه واحدة من أهم وأبرز غايات زياد ، الذي يحرص كفاعل إجتماعي هو الآخر ، على إحداث تغيير من نوع ما ، يفيد في إلقاء الأضواء على حركة المجتمع الذي ينتمي إليه بكل جوانحه وأحاسيسه . ونحن عندما نقول بأن الجملة الفعلية إنما تنطوي على حركة إيجابية ، فذلك لأنها في أغلب الحالات التي يتم فيها استخدام الأفعال ، لا بدّ من وجود مفعولات بها ، أو ما يشير إلى تبدّل من نوع ما ، يحرك الكون الساكن الذي ستجد الشخصية نفسها فيها قبل بدء تحولها وسعيها لتحريك هذا الساكن والثابت ، وكمثل ما نرى في الأقوال التالية التي تنبئ بالتغيير والفعل ( أخذ نفسا عميقا وجمع قوته في صدره . وشكل كرة من البصاق ، ونفثها باتجاه بيت تربّع على سفح جبل)(18) و ( بدأ يصرخ بشكل هستيري ، ويصيح بأعلى صوته ، وضرب المرآة بقبضة يده وهو يردّد : سأتخلص منك أيها السافل الذي لم أعد أتذكرك)(19) .

 لعلنا بهذا القدر نكون قد نجحنا في توضيح ولو جوانب محدودة مما يرتبط بفعل الصدمة في قصص زياد أبو لبن ، ومما يرتبط بما في متون هذه القصص التي على القارئ استجوابها من داخلها وعلى وفق قاعدة القراءة الحرة ، وهذه مما تحتملها أيضا .

               

الهوامش :

(1)  سمير شريف أستيتية ، اللغة وسيكولوجية الخطاب ، المؤسسة العربية للدراسات

والنشر ،بيروت 2002ص15

(2)  د. إبراهيم خليل ، القصة القصيرة في الأردن،عمان1994،ص16

(3)  زياد أبولبن ، هذيان ميت (قصص قصيرة)عمان2006

(4)  زياد أبو لبن ، أبي والشيخ(قصص قصيرة) ،دار اليازوري للنشر والتوزيع،

عمان2007

(5)  وليفرد ستون ، مقدمة في القصة القصيرة ، ترجمة رياض عبدالواحد، مجلة

الثقافة الجنبية ، بغداد 3/2000

(6)  أبي والشيخ ص9

(7)  أبي والشيخ ص83

(8)  هذيان ميت ص93

(9)  فلافري أوكرنور ، كتابة القصة القصيرة، ترجمة عقيل كاظم ، مجلة الثقافة

الأجنبية ، بغداد 3/2000

(10)  أبي والشيخ ص40

(11)  هذيان ميت ص61

(12)  هذيان ميت ص73

(13)  أبي والشيخ ص64

(14)  أبي والشيخ ص15

(15)  أبي والشيخ ص78

(16)  هذيان ميت ص87

(17)  أبي والشيخ ص26

(18)  هذيان ميت ص21

(19)  هذيان ميت ص42