أشياء تتداعى..

سليمان عبد الله حمد

[email protected]

رائعة تشنوا آتشبيChinua Achebe))(1)

تمثّل رواية "أشياء تتداعى"(Things Fall Apart) لمؤلفها النيجيري تشنوا آتشبي (1930) واحدة من أروع الروايات الإفريقية المكتوبة بالإنجليزية، صدرت عام 1958، وتروي قصة صعود ثمّ انهيار حياة البطل أوكنكو ذلك الشاب الذي نشأ في عائلة فقيرة ضئيلة النسب، فقد كان أبوه إينوكا رجلا كسولا خاملا لا يدفعه طموح و لا يحرّكه أمل لذا مات مريضا وغارقا في الديون، وهذا ما شكّل عقدة في نفس ابنه أوكنكو الذي قرّر أن يكون عكس أبيه تماما ، فكره الموسيقى والفنّ لأنّ أباه أحبّهما وعشق الدم والقتل لأنّ أباه كان يخشاهما.

استطاع أوكنكو أن يصنع لنفسه مجدا و ثروة ولقبا ومكانة في القوم بسبب قوته البدنية حيث رفع شأن قبيلته بسبب مهارته في المصارعة وبسبب جدّه واجتهاده التي مكّنته من الحصول على أرض وتأسيس بيت وإنشاء عائلة تتكوّن من ثلاث زوجات وثمانية أولاد.

كان لأكونكو عيوب مميتة ـ على عادة الأبطال التراجيدية، فقد عرف عنه القسوة والغضب الشديد والاندفاع دون تبصّر أو رويّة مما أوقعه في مآزق كثيرة كان أعنفها قتله رجل من قبيلته خطأ مما استوجب معاقبته ـ حسب قوانين القبيلة ـ بمصادرة أمواله ونفيه خارج القبيلة سبع سنوات وخضع أوكنكو للأمر مكرها

وأثناء مقامه الجديد أحسّ أوكنكو بغربة شديدة وبضياع لا يطاق و تزامن ذلك مع بداية ظهور الرجل الأبيض إلى القارة السمراء رافعا بيده اليمنى الإنجيل وبيده اليسرى السلاح، وبدأت القبائل تتهاوى كالذباب أمام هذا الوافد الجديد الذي قضى على الأخضر واليابس.

عاد أوكنكو إلى قبيلته بعد انقضاء العقوبة لكنّه أحسّ بإحباط شديد حين قابله قومه ببرود وحماس فاتر وما زاد الطين بلّة ما شاهده بعينه من حضور طاغ للرجل الأبيض في كل مجالات حياة القبيلة ، وحين قتل واحدا من البيض لم يجد من قومه حماسا ونخوة لمحاربة هذا المستعمر فأحسّ أوكنكو بأنّ كلّ الأشياء تتداعى من حوله، فانتحر شنقا رغم علمه بأنّ ذلك يخالف تقاليد قبيلته..

إنّ الفكرة الأساسية التي ركّز عليها آتشبي في روايته هو إثبات وجود ثقافة إفريقية ما قبل الكولونيالية وذلك خلافا لما تزعمه الحضارة الأوروبية التي تدّعي أنّ أفريقيا قارة متوحّشة يسكنها مجموعة من البدائيين آكلي لحوم البشر، لذا حرص على الحديث على عادات قومه الاجتماعية (تعدد الزوجات، الأعياد، المهرجانات)  و الدينية (تقديم القرابين ، استشارة الكاهنة..) والاقتصادية (مواسم الحرث، والحصاد، ..) والرياضية ( منافسات في المصارعة..) والسياسية (معاهدات الصلح بين القبائل، قوانين الرهائن..)

كان آتشبي يتوجه بروايته إلى القراء الغربيين عموما وقراء (قلب الظلام) لجوزيف كونراد تحديدا لأنّ كونراد صوّر إفريقيا بشكل سلبي جدّا إلى درجة أنّ آتشبي يتهمه بأنه كاتب عنصري بامتياز

رغم أنّ الكاتب كتب روايته بالإنجليزية إلا أنّه ضمّنها الكثير من الألفاظ والأمثال والحكم الإفريقية تاركا لقارئه الغربي أجر الاجتهاد في البحث عن معانيهااليوم الاربعاء 22/5/2013م، وبذلك يكون قد مر شهران على وفاة الروائى النيجيرى الشهير ألبرت شينو الموجو أجيبي المشهور بتشينو أتشيبي صاحب رواية «الأشياء تتداعى» أشهر الروايات فى الادب الإفريقى فى القرن العشرين، حيث تُرجمت هذه الرواية الى اكثر من خمسين لغة ووُزع منها اكثر من إحدى عشرة مليون نسخة، ورغم مرور أكثر من ثلاثة وخمسين عاماً على صدورها «صدرت فى عام 1958م قبيل استقلال نيجيريا» إلا أنها مازالت تحظى باهتمام الادباء والنقاد والمثقفين من مختلف جنسيات العالم...

وحسناً فعلت وزارة التربية والتعليم فى السودان عندما جعلت كتاب «الاشياء تتداعى» احد كُتب الادب الانجليزى التى يقرأُها الطلاب السودانيون فى المرحلة الثانوية.

وتتناول رواية اتشيبى المخلفات المأساوية للإمبريـالية البريطانية وتوثق انهيار الحياة القبلية التقليدية في وجه الوجود الاستعمارى البريطانى فى نيجيريا، وهذا هو فى اعتقادى سبب حجب جائزة نوبل للآداب عن أتشيبى فهو يستحقها بجدارة لما تمتاز به كتاباته من لغة جزلة وتناول عميق للثقافة الافريقية.

وعكس أتشيبي فى هذه الرواية واقع الحياة الإفريقية وما يعتريها من قلق وعنف وأساطير، ونقل التراث الافريقى والثقافة الافريقية من الشفاهية الى التدوين بأقلام وطنية مخلصة وصادقة، فبعد أن كنا نقرأ فى صبانا الباكر عن الثقافة الافريقية من خلال الكتاب الغربيين الاستعماريين مثل كتاب ألن كوارتر مان ومناجم الملك سليمان وغيرها من الروايات والكتب التى صورت الرجل الابيض بطلاً ينتصر على الافارقة الضعفاء، ها نحن نقرأ من خلال «الأشياء تتداعى» لمبدعين افارقة أُدباء يصورون الحياة الافريقيه كما هى حسبما عايشوها أو روتها لهم جداتهم وكبار السن من أُسرهم، وانا ممن يقدر اهمية الرواية الشفهية ودورها فى ضبط التاريخ الوطنى الذى دونه مؤرخون فى الغالب اجانب، ويبدو ان أتشيبى اقتبس عنوان روايته من أحد المقاطع الشعرية من قصيدة «الحضور الثاني» للشاعر الأيرلندي وليم ياتس التي يقول فيها:

الأشياء تتداعى

المركز لم يعد في استطاعته التماسك

الفوضى الشاملة تعم العالم

إذ يلتف الصقر ويلتف بدولاب الأكوان

بحركات متباعدة في الدوران

تتداعى الأشياء

والمركز لا يقدر أن يمسك بزمام الأجزاء

فوضى صرف تنفلت على العالم

ينفلت المد الدموي وفي كل الأنحاء

يغرق طهر الإنسان

أخيار الناس يعوزهم الإيمان

وأراذلهم يتملكهم شغف الأهواء

ثمة وحي بالتأكيد وشيك

مجيء ثانٍ بالتأكيد وشيك

والقصيدة كما تبدو مستلهمة من الثقافة المسيحية التى تؤمن بعودة المسيح لكنها كذلك تقترب من الثقافة الإسلامية التى تؤمن بالمهدى المنتظر والإمام الغائب عند الشيعة.

فللحكاية بقية ... فهي تصوير لواقع الحياة عند الجماعات ذات اللون المخالف للون ثقافة البيض السائد في أفريقيا أيام الاستعمار الانجليزي لوأد الثقافة المحلية لتسود الثقافة الانجليزيةعوضاً عنها...

سليمان عبد الله حمد ـ الرياض

أشياء تتداعى..

رائعة تشنوا آتشبيChinua Achebe))(2)

طالعت رواية «الأشياء تتداعى» التى كتبها اتشيبى وهو فى الثامنة والعشرين من عمره أكثر من مرة، وأستمتعت بلغتها الرفيعة ودلالاتها العميقة، وقارنت ذلك مع وقائع وأحداث حدثت لأسلافى مع الاستعمار من أمثال قصة بقرة الهوى، ويتداول الرواة الشفاهيون أن الانجليز كانوا يفرضون ضرائب باهظة على الرعاة أصحاب الابقار، وإن كنت لا تملك ولا بقرة واحدة فُرض عليك ان تدفع ضريبة بقرة تسمى «بقرة الهوى» كما فرضُوا على النوبة ضريبة تسمى الدقنية تفرض على الأفراد، وصادف ان طلبوا من احد المعدمين البقارة ان يدفع هذه الضريبة «بقرة الهوى»، والبقرة غير الموجودة فى الحقيقة فقال هذا البقارى وكان داهية لشيخ الطُلبة «جابى الضرائب»: قل للمفتش انا تنازلت عن هذه البقرة التى يريد المفتش ضريبتها فليأخدها كلها، فقال الشيخ: لكنك لا تملك بقرة تدفعها للمفتش فقال الاعرابى ساخراً إذن كيف تطالبوننى بضريبة شئ غير موجود ولا املكه؟

وعندما قرأت نعي أتشيبى فى المواقع الإلكترونية حزنت جداً لموته، وطلبت من الأخ الزين ابراهيم حسين الدبلوماسى الاديب واسع الإطلاع الذى يعمل فى سفارتنا بتشاد، ان يتفضل على بإرسال أعمال أتشيبى الكاملة ومنها: «سهام الرب، كثبان السافنا، لم يعد مطمئناً.. الأخ»، لأنى شعرت بحاجة ماسة للاقتراب من الادب الافريقى كما رواه ابناء افريقيا المبدعون مثل اتشيبى وسوينكا وليبور سنقور وغيرهم...

 فمثل ما فتح الطيب صالح نافدة عالمية للثقافة السودانية واصبح رسولها فى الغرب، فقد فعل اتشيبى الشيء نفسه بالنسبة للثقافة النيجيرية. وبالمناسبة الاخ محمد هارون كافى من أبناء جنوب كردفان من الكتاب المبدعين فى مجال الادب والثقافة الإفريقية، وسرقته السياسة ويشهد على ذلك كتابه (الكجور) والذى يتأمل الأوضاع فى السودان الآن ويسترجع تاريخه القديم، الحياة الاجتماعية والاقتصادية، العلاقات بين القبائل، التعايش والمساكنة، احترام والآخر وقبوله، احترام العهود والمواثيق التى تنظم حياة الناس ومعاشهم، الذى يتأمل ذلك كله ثم يقارنه بما يجرى اليوم، يدرك أن الاشياء فى السودان هى ايضا تتداعى وتتغير وتتبدل،

أشياء تتداعى..

رائعة تشنوا آتشبيChinua Achebe))(3)

ويلاحظ انه بدل تحالف الغابة والصحراء نشأ صراع الغابة والصحراء، ونخرت السياسة والاطماع الذاتية فى كل الإرث القديم الذى بناه عمارة دنقس وعبد الله جماع من خلال دولة سنار الإسلامية وإرث دولة تقلى الإسلامية، والتحالف بين الاثنيات المختلفة فى جبال النوبة والمناطق الاخرى، ونخاف ان تنجح سياسات جون مقى وانجس جيلان فى تمزيق الوجدان السودانى حتى بعد ان رحل الاستعمار ويئس من نجاحها.

وقد تحدثنا عن الأحوال فى العاصمة أم درمان قبيل سقوط المهدية وقبل معركة كررى الفاصلة فى مقال سابق بعنوان «إهدار الفرص وتكرار الأخطاء»، وقلنا ان تفكك الجبهة الداخلية فى المهدية لا يمكن قياسه فقط بتمرد الاشراف واولاد البحر على الخليفة عبد الله، والذى انطلق فى ام درمان يوم 23/11/1891م، بل سبقه تمرد الشيخ مادبو فى دارفور فى فبراير 1887م، والشيخ صالح الكباشى في مايو 1887م، والامير يوسف بن السلطان ابراهيم في عام 1888م، وابو جميرة في عام 1889م، وامتد عدم الثقة فى دولة المهدية ليشمل قادة من المهدية بارزين مثل ابو قرجة وزقل وود جار النبى والزاكى طمل، ومازالت الرسالة الحزينة التى بعث بها الزاكى طمل من سجنه ومنفاه الى يعقوب جراب الرأي قائد جيوش المهدية ووزير دفاع الخليفة راسخة فى اذهاننا، فقد قال الزاكى فى رسالته الحزينة القصيرة من السجن: «قل ليعقوب سيأتى اليوم الذى تحتاجون فيه لأمثالى من الرجال ولن تجدوهم»، واعتقد ان رسالة الزاكي ومثلها قد بعث بها الكثيرون اليوم، ولم يبعثوا بها من السجون فقط، لكنهم بعثوها وهم احرار يمارسون حياتهم العادية وإن كانوا محبطين واقفين على الرصيف، مع ان الموقف لا يحتمل الإحباط او الوقوف السلبى فى الرصيف ومراقبة ما يدور فى الساحة الآن، ومن المحاسن ان الخليفة عبد الله واجه الموقف بشجاعة يحسد عليها، فقد روي عنه انه كان قد رفض بشدة الإنكفاء غربا وترك زمام المبادرة للعدو. فقد روت كتب التاريخ أن الخليفة عبد الله اشتاط غضباً عندما أشار اليه احد أعضاء مجلس الشورى بالانكفاء فى الغرب والانتظار لمواجهة العدو هناك، وروت كتب التاريخ انه فى آخر مجلس شورى عقده الخليفة عبد الله قبيل كررى قام الأمير الزاكى عثمان عضو مجلس شورى الخليفة وقال: «إن الجيش الذى واجهناه فى اتبره لا طاقة لنا فى حربه، فإذا وقفنا له هنا تغلب علينا لا محالة، وام درمان يا مولاى ليست بلادنا حتى نقف فيها وندافع عنها، فالاولى بنا ان نأخد رجالنا وأسلحتنا الى كردفان، فإذا لحقنا جيش الحكومة اليها وهو لا يفعل ذلك الا بعد استعداد كثير وزمن طويل، هجرناها الى شكا وهى دارنا، فإذا جاءنا اليها قاتلناه ودافعنا عن وطننا حتى انتصرنا او متنا». وغضب الخليفة غضباً شديداً من هذا الرأي وامر بلطم صاحبه وإخراجه من المجلس. واعتقد ان هذا الرأى يراود البعض الآن، ويظننون انه من الاولى تركيز الجهود للدفاع عن الخرطوم دون غيرها، ولكنا ندعو لأخذ زمام المبادرة ومهاجمة التمرد فى معاقله وانتزاع المبادرة منه.

Things fall apart هى عنوان رواية أتشيبى، ونحن نستلهمه لنبين تداعى الاحداث فى السودان من خلال المقالات القادمة.

همسة

يذكرنى المساء بطيفك ....

ويمنحنى فيضا من الفرح النبيل ....

يأخذنى الى ليلات الهوى في ذاك المساء الجميل ...

كلما اخذت الشمس الطريق  الى المغيب ......