تصرّف المحقِّق في نصوص المخطوطات

د. عبد الحكيم الأنيس

د. عبد الحكيم الأنيس

[email protected]

كبير باحثين أول في دائرة الشؤون الإسلامية بدبي

قد تعترضُ محقِّقَ كتب التراث ألفاظٌ أو آراء يراها غيرَ مناسبة في ظرفٍ زماني أو مكانيٍ معيّن فماذا يفعلُ؟

 هل مِن حقه حذفُ هذه الألفاظ أو الآراء؟

 وأراني مسارعاً إلى الجواب بعدم جواز مثل هذا التصرُّف, وأستدلُ على قولي بموقفٍ للحافظ ابن حجر العسقلاني فأقول:

 وقف الحافظُ ابن حجر العسقلاني في خزانة المدرسة المنكوتمرية في القاهرة على نسخةٍ من كتاب "الأغاني" لأبي الفرج الأصفهاني, ورأى في ترجمة الشاعر أبي العتاهية بياضاً تعمَّده الناسخُ, واعتذرَ بأنه ممّا لا يجوزُ كتابته.

فقال - أي ابن حجر-:

 "قوله ممّا لا يجوزُ كتابته" جهل من الكاتب, وحاكي الكفر ليس بكافر. وليس للناسخ أنْ يتصرف فيما ينسخه. والكلام الذي حذفه هو قولُ أبي العتاهية: قرأتُ البارحة عم يتساءلون ثم قلتُ قصيدة أحسن منها.

وفي السند إليه نظرٌ, فإنْ ثبتَ كان كافراً, لكن يُحتمل أن يكون هذا في شبيبته, ثم تنسّكَ بعد ذلك وتاب".

قال تلميذُه الحافظ السخاوي: "بل رأيت شيخنا في ترجمة أبي العتاهية أيضاً من الكتاب المذكور سدَّ بخطه ما بيّضَهُ الناسخُ, لكونه - في زعمه- ممّا لا تجوز كتابته, وهو أنَّ رجلاً شاور أبا العتاهية فيما ينقش على خاتمه, فقال له: انقش: لعنة الله على الناس"[1].

وفي هذا الخبر عدة فوائد:

منها: عناية الحافظ ابن حجر بكتاب "الأغاني" ونظره فيه.

ومنها: مراجعته نسخةً أخرى غير التي في "المنكوتمرية" ليسدَّ البياضَ الذي تعمّده الناسخُ.

ومنها: إفادته بأنّه ليس للناسخ أنْ يتصرف فيما ينسخه.

والواقع أنه لو سَمَحَ كلُّ ناسخٍ لنفسه أَنْ يحذف ما لا يعجبه أو يرضاه أو غير ذلك لفسدت الكتب, وغابت الحقائق, ونقصت المعلومات واختلت.

ومثالُ هذا ما نحنُ فيه، فما حذفه الناسخُ من الموضعين ضروريٌ لاستكمال الترجمة, ومعرفة حقيقة المترجَم, والموقفُ السليمُ هو النظر في السند كما فعل ابنُ حجر, ثم النظر في الاحتمالات الواردة على النصوص.

والناسخُ غيرُ المختصر, فالثاني- أعني المختصر- له أَنْ يحذف من الكتاب الذي يختصره ما يشاء وَفْق خطته ومنهجه, أمّا الناسخ فعليه أداءُ ما ينقله كاملاً, وإن كان فيما ينقله ما يُستقبح أو يُستهجن, وله أَنْ يُعلِّق في الحاشية ما يشاء ويُعلن رأيه في ذلك.

والمحقّق اليومَ حالُه حال الناسخ، فعليه أداءُ النص الذي يعمل في تحقيقه كما هو, وبإمكانه التعليق - وَفْق الضوابط- على ما لا يرتئيه أو يرتضيه.

على أنّه ليس مِن مهمة المحقّق محاكمةُ المؤلف فيما يقوله أو ينقله, فإنَّ هذا متروكٌ للدارس سواء كان هو المحقِّق نفسه, أو غيره.

ومن أمثلة ما فعله العلماءُ حال الاختصار تصرّفُ ابن هشام في "السيرة":

فقد أورد ابنُ إسحاق قصيدةً منسوبة إلى حمزة في بدر, وأنكرها ابنُ هشام, ثم قال: "وقد ذكر ابنُ إسحاق جوابَها من الحارث بن هشام تركناها عمداً"[2]

وكذلك نَسَبَ ابنُ إسحاق قصيدةً إلى علي، وأنكرها ابنُ هشام ثم قال: "وقد ذكر ابنُ إسحاق نقيضَها من الحارث بن هشام تركناها قصداً"[3]

وأيضاً قال ابنُ هشام بعد قصيدة حسان بن ثابت التي يذمُّ بها الحارثَ بن هشام على فراره يوم بدر: "تركنا في آخرها ثلاثةَ أبيات أقذع بها"[4]

وقال بعد قصيدة أمية بن أبي الصلت التي يرثي بها مَنْ قُتل من قريش يوم بدر: "تركنا منها بيتين نال فيهما من أصحابِ رسول الله صلى الله عليه وسلم"[5]

فالمختصِرُ يستطيع التصرُّف, فيأخذ ما يشاء ويدع ما يشاء, ويسوِّغُ له ذلك وجودُ الأصل وبقاؤه في أيدي الناس.

وأمّا الناسخ فلو فعل هذا لفوّتَ على العلماء ما يودون الوقوفَ عليه لا سيما الكتب التي لا يكثر نسخُها ولا تتداول نُسَخُها.

ومثلُ حال المختصِر المؤلِّفُ فإنه عند نقل نصٍّ ما يُمكنه التعبيرُ عنه بلفظه - بشرط الدقة- , أو حذفُ بعض جمله, فإنّه غير ملزم بالنقل النصي, ويَذكر أنه نقل بتصرُّفٍ واختصارٍ وما شابه ذلك. وقد وقع هذا من العلماء كثيراً.

هذا, وقد عدَّ الحافظُ ابن حجر التصرَّفَ في أقوال المؤلفين إتلافاً للنسخ, وأشرح هذا فأقول:

جاء في كتاب "الشفا" للقاضي عياض: "وأما تواضُعه صلى الله عليه وسلم على علوِّ منصبه, فكان أشدَّ الناس تواضعاً وأقلّهم كبراً".

وقد اعترض بعضُ الناس على هذا - أعني عبارة: وأقلهم كبراً- فإنه صلى الله عليه وسلم منتفٍ عنه الكِبْرُ أصلاً ورأساً, وصار هذا المعترضُ يتتبع نسخ "الشفا" فيمحو ذلك منها, فسُئل الحافظُ ابن حجر أهو مصيبٌ في ذلك؟

فأجاب "بأنَّ الاعتراضَ باطل"، وذَهَبَ - رحمه الله- يوجِّه هذا الكلام بما لو رآه المعترضُ لخجل من نفسه، ومن جرأتِهِ على التصرُّف. ثم ختم ابنُ حجر جوابَه بقوله: "ولا يجوز إتلافُ نسخ "الشفا" والله أعلم"[6]. فقد عدَّ هذا التصرَّف إتلافاً للنسخ.

واليومَ نجدُ في عدد من الكتب المحقَّقة حذفاً وتصرفاً, و تحت يدي الآن كتاب "مستوفي الدواوين" لمحمد بن عبد الله الأزهري (كان حياً سنة 886 هـ)

 وهذا الكتاب أخرجته دارُ الكتب والوثائق القومية بالقاهرة في ثلاثة مجلدات بتحقيق الباحثتين: زينب القوصي و وفاء الأعصر, وقد قال المشرفُ على الكتاب والمراجعُ له الأستاذ حسين نصّار:

"وأودُّ أن أشير إلى أنَّ المؤلف أورد أشعاراً وأخباراً ماجنة, ثم حذَفَ بعضها هو أو أحدُ ملاك الكتاب. وأشارت اللجنةُ العلميةُ المشرفةُ على مركز تحقيق الكتاب بحذف ما اشتدَّ مجونُه مما بقي"[7]

ويُلحظ أنَّ الحذف تمَّ من غير إشارة إلى موضعه, فلم يُعرَفْ موضعه، ولم تُعرف كميته!

وكان الشيخُ الفقيهُ الكبيرُ مصطفى الزرقا - رحمه الله- لا يؤيِّد التدخلَ والتصرَّف في الكتب القصصية الشعبية فما بالك بكتب العلم والدين , فقد حدَّثني الأستاذ عبد الله الطنطاوي أن الشيخ مصطفى الزرقا طلب منه تحصيلَ أربعة أشياء، منها: كتاب "ألف ليلة وليلة" في طبعته الأولى, وعلَّل طلبه للطبعة الأولى بأنَّه لا يريد الطبعات التي هُذِّبتْ - بزعم الناشرين-, وأنه يريد الكتابَ كما هو في أصل وضعه، وبألفاظه المنقولة المحكية.

وكان شيخُنا الأستاذُ الشيخُ عبد الكريم الدَّبَان التِّكريتي المعروف بورعه وزهده وصلاحه قد وضَعَ كتاباً سمّاه "المجموعة النفيسة" إذ جمع فيه ألفَ مادة علمية وأدبية, ورأيتُه يقول في مقدمتها:

 "ومَنْ يطّلع على هذه المجموعة قد يُشيحُ بوجهه عن بعض موادها إنْ كان من المتزمِّتين, وهؤلاء نسُوا أو تناسوا أنَّ كثيراً من سلفنا الصالح سمعوا ورووا حتى بعض الأدب المكشوف, ولم ينكروا ذلك, بل رووه لمَنْ بعدهم, وسجّله العلماءُ في كتبهم, وفي ثنايا شروحهم وتعليقاتهم. وهذه كتب اللغة والبلاغة والنحو, بل حتى كتب الفقه والتفسير فيها شواهد غير قليلة من هذا القبيل, ممّا لم أستطع أنْ أورد مثله هنا".

نخلص مِن هذا إلى أنَّ الموقفَ السليم هو أداء النصوص المحققة كما هي, ومَنْ ثقل عليه هذا أو عسر فأمامَه مخرجٌ وهو اختصار الكتاب, أو تهذيبه, ويُنشر على أنه مختصر أو مهذب، كما فعل محقق"سفينة الفرج فيما هبَّ ودبَّ ودرج" لمحمد سعيد القاسمي مثلاً.

 وإن اضُطر المحقِّق إلى الحذف بأمرٍ من جهة رقابية فليلجأ إلى طريقة تبرئُ ذمتَه بالإشارة إلى ذلك بأسلوبٍ ما، وهذا واجبٌ لا بد منه.

إنَّ التراثَ العلمي والأدبي أمانةٌ, وليس من الجائز التصرُّف في هذه الأمانة.

               

[1] _ الجواهر والدرر (1/386).

[2] _ انظر: البداية والنهاية (3/381).

[3] _ انظر: البداية والنهاية (3/382).

[4] _ انظر: البداية والنهاية (3/386).

[5] _ انظر: البداية والنهاية (3/392).

[6] _ انظر: الجواهر والدرر (2/951_953).

[7] _ مستوفي الدواوين, مقدمة المشرف (1/ج).