سوريا: الاقتراع أم الرصاص؟
Syria - Ballots or Bullets?
مراجعة: حسام فتحي أبو جبارة *
تأليف: كارستين ويلاند Carsten Wieland
صدر هذا الكتاب المهم للمؤرخ والصحفي وأستاذ العلوم السياسية كارستين ويلاند، قبل الثورة السورية ضد نظام بشار الأسد، بعدة سنوات، ولكنه توقع إندلاعها قبل حدوثها فعلاً، بسبب الفساد والقمع الذي وصل حداً غير مسبوق في السنوات الأخيرة، وهو يسعى إلى تفسير الظروف التي رافقت تولي الأسد الابن لمقاليد السلطة، والخيط الرفيع الذي يصل بين علمانية الدولة وإسلامية شعبها.
في الباب الأول من الكتاب، يصف المؤلف الأوضاع في سوريا من وجهة نظر سكانها، فهي أحد البلدان الأكثر أماناً في العالم، ويعيش مواطنوها تحت السيطرة الصارمة لأجهزة الأمن العديدة، ومن الطبيعي أن تجد كلمة "ممنوع" في كل مكان، ونظاماً مستعد لتدمير أي مدينة يحاول سكانها الثوره ضده، كما حصل في حماة عام 1982.
ويقول المؤلف أن بشار الأسد، لم يكن يحلم بأن يتولى يوماً موقع أبيه في السلطة، فهو لم يستغل يوماً وضعه باعتباره ابناً للرئيس ليستعرض ثروته أو ينغمس في حياة من اللذة الجامحة، وإنما على العكس من ذلك، كان يستغل نفوذه ليحد من تجاوزات الآخرين وليكرس القانون والنظام. ففي تسعينيات القرن العشرين، على سبيل المثال، اقتص من بلطجية مراهقين ينتمون إلى الدوائر العلوية ذات النفوذ، كانوا ينشرون الرعب في شوارع اللاذقية ببنادقهم الآلية. وفي إحدى الحالات، أرسل الحارس الشخص لقريب له إلى السجن لأنه صرخ بالناس ببعض الكلمات المهينة. وفي عام 1996، طرد 13 أستاذاً علوياً في كلية الطب في جامعة تشرين في اللاذقية لأنهم كانوا متورطين في الفساد. فكانت تلك إشارة إلى رفضه للمحاباة، وإلى أنه لن يوفر حتى أبناء طائفته.
ويرى كارستين ويلاند أن بشار كان يعد نفسه لحياة مدنية، وكان أخوه الأكبر باسل هو الذي يلعب دور الربيب السياسي لأبيه. فعلى مدى سنوات، طور حافظ الأسد لابنه نفس طقوس الزعيم التي أحاط بها نفسه، لذلك كان والده في قمة الألم عندما انتهى الابن الذي علّقت عليه جميع الآمال نهاية مبكرة، فقد توفي باسل في حادث سير غامض عام 1994، وأصبح بشار بين ليلة وضحها ولي العهد في سوريا، في سابقة هي الأولى من نوعها في عهد الأنظمة الجمهورية الحاكمة في الوطن العربي. وعندما أدى بشار الأسد اليمين الدستورية رئيساً لسوريا في السابع عشر من يوليو عام 2000، لم يتبادر إلى ذهن الكثيرين أن هذا الشاب اليافع، طويل القامة، سيظل في السلطة لسنوات عدة. فهو من وجهة نظر الكثيرين، شخص ضعيف "يعتنق رأي آخر شخص تحدث إليه"، ويخشى من سطوة الحرس القديم المحافظ في النظام، أكثر من كونه زعيماً لبلد مجبول بالفساد والظلم الاجتماعي وغياب الحريات، وبحاجة إلى قفزات كبيرة في مجال الإصلاح.
ويرى المعارض السوري ميشيل كيلو، أن التطور الوحيد الذي حصل منذ تولي بشار الأسد مقاليد السلطة هو بعض الاصلاحات الاقتصادية، وبروز جو سياسي أكثر انفتاحاً. حيث تلاشى الخوف المتجذر الذي كان متجذراً لدى الناس في عهد الأسد الأب، وأصبحت النقاشات السياسية أكثر حرية، وصار النقد أكثر علانية. ويضيف الصحفي والكاتب حكم البابا، ملاحظة أخرى على حكم بشار الأسد بقوله: "في السابق كان واحد هو الذي يحكم، أما في عهد بشار فثمة كثيرون يحكمون".
ويعرض المؤلف أمثلة كثيرة على تخبط القيادة السياسية في سوريا، وعلى تعدد توجهات أصحاب القرار في النظام الحاكم، ومن هذه الأمثلة اعتقال 14 شخصية معارضة في مدينة حلب في نهاية شهر أغسطس 2003، كانت على وشك المشاركة في ندوة نقاشية حول إلغاء قانون الطوارىء في سوريا، حيث ألغيت المحاضرة، واتهم منظموها والمشاركون فيها بالانتماء إلى منظمة معادية. في حين أن نفس الندوة نظمت قبل ذلك بوقت قصير في دمشق والسويداء. ومثال آخر على هذا التخبط، هو تغيّب مندوب سوريا في الأمم المتحدة، لسبب غامض وغير مبرر، عن التصويت على القرار رقم 1483 المتعلق برفع العقوبات عن العراق في مايو 2003، حيث كان المندوب السوري غير قادر على الإدلاء بصوته في الوقت المناسب لأنه لم يفلح في الحصول على تعليمات واضحة من دمشق، فعد غيابه بمثابة امتناع، وتم تمرير القرار بغالبية 14 صوتاً من أصل 15.
وفي محاولته لتفسير أسباب العلاقة الوثيقة بين النظام السوري وحزب الله في لبنان، وإيران، يقول أن حافظ الأسد كان مديناً جداً للشيعة في تثبيت حكمه، فبعد قيامه بالانقلاب الذي سلّمه زمام السلطة عام 1971، تسلّم فتوىً شرعيةً دينية من المجلس الأعلى للشيعة، الذي كان يتزعمه موسى الصدر، تؤكد أن العلويين مسلمون. وقد كانت هذه الفتوى مهمة لأن العديد من السنة كانوا يعتبرون العلويين "زنادقة"، ولأن الدستور السوري يصر على أن يكون الرئيس مسلماً.
ويخصص المؤلف باباً كاملاً من كتابه، للحديث عن مقومات شرعية النظام، وهي المقومات التي جعلت سوريا تحافظ على استقرارها لأكثر من 10 سنوات، على الرغم من تناقضات النظام منذ وفاة حافظ الأسد، ومن أبرز مصادر الشرعية التي كان يستند إليها بشار الأسد في إحكام سيطرته على البلاد: الخطاب المناصر للقضية الفلسطينية، فالاحتلال الإسرائيلي لفلسطين ظل الموضوع الرئيسي الذي تغطيه وسائل الإعلام السورية كل يوم، كما بقي الهجوم الخطابي على "إسرائيل" وسيلة مرحباً بها للوصول إلى الاجماع الشعبي حول النظام. وهناك أيضاً الخطاب العروبي، حيث ظهرت سوريا بعد انهيار نظام البعث في العراق، وكأنها الحامي الوحيد للعروبة، والمعادي الأبرز في المنطقة للإمبريالية، لتصبح الإيديولوجية العروبية مصدراً بشرعية النظام.
ومن مصادر شرعية النظام الأخرى، وفقاً للمؤلف، هو تمسكه بالعلمانية، فالدولة لا تقبل إلا بحصر الدين في المساجد والكنائس، وتحارب "المتعصبين" من كافة الأديان. كما تحرص الدولة على تشجيع الأقليات الدينية، التي يربو عددها في سوريا على العشرين، على العيش معاً بسلام، والتسامح الديني بين الجميع، مع التأكيد على أن "الوطنية السورية" هي التي تجمع بين كافة أطياف الشعب. ويشكل الأمن المحلي الذي جعل سوريا واحدة من أقل دول العالم في نسب الجريمة، والتوازن الاجتماعي المستند على دعم الدولة لمعظم أسعار السلع ومجانية الصحة والتعليم، مصادر تعزيز أخرى لشرعية النظام.
ورغم ذلك، فقد بدأ النظام بمواجهة أزمة متنامية في مشروعيته منذ مطلع الألفية الثانية، قد تكون هي السبب الرئيسي في الثورة التي انطلقت في مارس 2011، وما زالت مشتعلة حتى الآن. وأحد مكونات هذه الأزمة هو "زوال الوهم السياسي"، ففي يونيو من العام 2000، أعلن بشار الأسد، في كلمة بثتها وكالة الأنباء السورية (سانا) أن "سوريا لا يمكنها تطبيق ديمقراطية الآخرين على شعبها. إذ يجب أن تكون لنا تجربتنا الديمقراطية الخاصة التي تعبر عن تاريخنا وثقافتنا وحضارتنا" الأمر الذي أكد ببساطة إصرار النظام على احتفاظ حزب البعث بالقيادة السياسية. فقد اتخذ بشار في السنوات اللاحقة عدة قرارات وإصلاحات مهمة، ولكنها ظلت غير مؤثرة، ولم تحدث التحوّل المطلوب في المجتمع، فقد ازداد ظهور الأصوات المعارضة في وسائل الاعلام والاجتماعات والمنتديات، ولكن ممارسات القمع والسطوة البوليسية للنظام وإحكام سيطرته على الحكم، لم تشهد أي تغيير.
ومن الأمور الأخرى التي عجلّت من الثورة على النظام، برأي كارستين ويلاند، هو الفساد الاقتصادي المستفحل في البلاد، الذي جعل كل العقود المهمة تذهب إلى كبرى العائلات الموالية للنظام، أو إلى أعضاء من عشيرة الرئيس. ومن الأمثلة على ذلك، تراخيص شبكات الهاتف النقال، ووكالات السيارات الأجنبية، والمصارف الخاصة، ووسائل الإعلام. وتكمن خطورة هذا الأمر في أن العوائد الناجمة عن هذه الاستثمارات تنتهي في جيوب أولئك الأفراد المتنفذين الذين يهربونها إلى مصارف خارج البلاد، بدلاً من إعادة استثمارها في دورة الاقتصاد.
أما انتهاكات حقوق الإنسان، التي تشمل الاعتقال التعسفي، والحجز، والتعذيب، والاختفاء القسري، فهي جزء من الحياة اليومية في سوريا، حيث تمتلك الأجهزة الأمنية حرية التصرف دون أي سلطة للقضاء. هذا الأمر عزز من الفساد، الذي بات يعم كل مناحي الحياة العامة، حيث يمتلك أدنى عضو في أحد الأجهزة الأمنية القدرة على الحصول على شهادة جامعية، على سبيل المثال، دون أن يعرف لمقاعد الدراسة طريقاً، ويمكن أن يصبح شاب لا يحمل شهادة ثانوية عامة مديراً عاماً في وزارة تتطلب خبرة طويلة في مجال معين.
وفي باب آخر، يخصصه المؤلف للحديث عن المعارضة، والإسلام، ونظام الحكم، يقول أن الرئيس الراحل حافظ الأسد عندما سيطر على الحكم في نهاية عام 1970 وبداية عام 1971، كان الشعب السوري مفعماً بالأمل، وخرج العديد من الناس فرحين في الشوارع، فقد كانوا مرتاحين للتخلص من حكم سلفه الاستبدادي. حيث قدم الرئيس الجديد، آنذاك، دفعة قوية للاقتصاد من خلال انفتاح البلاد على العالم، وحد من سلطات الأجهزة الأمنية، وخفف من استخدام قانون الطوارىء، وحرر كثيراً من السجناء السياسيين، وأجرى انتخابات محلية عادلة. وقد تكررت هذه الأمور، وإن كان بشكل ظاهري غير ملموس، في عام 2000، وهذه المرة كان بشار الأسد "أمل الشعب الواعد"، و"قائد مسيرة الإصلاح والتغيير". وفي كلتا الحالتين، سرعان ما بدأت خيبة الأمل، وبدا وكأن التاريخ يعيد نفسه.
ويقول المؤلف أن المعارضة السورية تنقسم إلى تيارين رئيسيين: الأول: يساري - علماني، والثاني: إسلامي أغلبه من الإخوان المسلمون. ويكمن ضعف المعارضة العلمانية قي افتقادها إلى لتماسك، والتنظيم، والمتابعة الشعبية الواسعة، رغم أن كثيراً من قادتها يقيمون في سوريا. على عكس حركة الإخوان المسلمون المتماسكة والمنظمة إلى حد كبير، مع العلم أن جميع قادتها وأفرادها الفاعلين يقيمون خارج الأراضي السورية. ورغم ذلك، فإن هناك تقارباً بين المعارضة العلمانية والإسلامية، في أربع قضايا أساسية: الدعوة لحقوق الإنسان، والتأكيد على المبادىء الإنسانية المتضمنة في الإسلام، واحترام التعددية السياسية والأيديولوجية، وضمان حرية التعبير، ويمكن إضافة قضية أساسية خامسة نتجت عن الثورة السورية الحالية وهي ضرورة رحيل بشار الأسد وتغيير النظام.
ويختم المؤلف بحقيقة أن الولايات المتحدة كان تؤيد صراحة التغيير القسري لنظام الحكم في دمشق، حتى قبل قيام الثورة الحالية، لكنها تخشى الفوضى التي ستقع فيها المنطقة بعد ذلك. فهي تدرك أن نظام البعث كان دائماً للاستقرار في سوريا، حتى قبل تسلّمه السلطة، حيث كانت سوريا أكثر دولة حصل فيها عدد من الانقلابات العسكرية في العالم العربي بين عامي 1949 و1970. مضيفاً أن سوريا لم تكن جزءاً من مشكلة الإرهاب الإسلامي، لكنها اليوم جزء أكيد من صراع الشرق الأوسط الواقعي السياسي، وكذلك قد تكون جزءاً من تيار إسلامي متنامٍ في عدد أفراده وسرعة إنتشاره.
* صحفي وكاتب فلسطيني مقيم في دبي