جماليات المبنى والمعنى في مسرحية "أنا الملك أتيت"

جماليات المبنى والمعنى

في مسرحية "أنا الملك أتيت"

د.رانيا مشعل(مصر)

لا أريد أن أدع المناسبة تبتعد كثيراً دون أن أقول كلمة في أنا الملك أتيت. تلك المسرحية الجميلة التي كتبها الأديب ياسين سليماني و قرأناها في صحيفة كبيرة مثل "مسرحنا" المصرية منذ أمد غير بعيد. فليس أمراً كثير الحدوث في أيامنا هذه أن يخرج علينا كاتب بنص مسرحي جميل.

وإذا كان من بواعث الغبطة أن نكسب في شخص ياسين سليماني كاتباً مسرحياً موهوباً يسد بعض ما نعانيه من فقر في هذا الجانب من حياتنا الثقافية، فإن مما يضاعف الغبطة أن مسرحية سليماني الجديدة جاءت على قدر ملحوظ من النضج والاستواء، ودلت دلالة لا تقبل الشك على أن لمؤلفها عدا الموهبة إحاطة جيدة بقواعد التأليف الدرامي.

صحيح أن أنا الملك أتيت بسيطة في حبكتها وليس فيها إلا القليل من الشخصيات والفعل الخارجي. ولكن ما كشفت عنه من حس درامي دقيق يعزز علينا الأمل بأن المؤلف سيكون قادراً على معالجة موضوعات أكثر تشابكاً وتعقيداً في المستقبل.

أين تكمن مزايا هذه المسرحية؟ لعل أول ما تجدر الإشارة إليه أن شخصيات "أنا الملك أتيت" ـ خلافاً للكثير مما يكتب عندنا للمسرح ـ ليست دمى يحركها المؤلف ويضع على لسانها ما يشاء من أفكار، بل هي كائنات حية من لحم ودم وأعصاب، تعيش معاناة حقيقية وتصدر في تصرفاتها وأقوالها عن دوافع واضحة مقنعة، فليس ثمة فعل لا تدعو إليه ضرورة ولا ثرثرة في غير محلها، لا مواقف فكرية معزولة، عن مجرى الصراع في المسرحية. إن كل شيء هنا ينبثق ببساطة وتلقائية عن المواقف الدرامية التي تمر بها الشخصيات، ويفضي بصورة منطقية إلى ردود الفعل التي تليه. وهذا، بالطبع، شرط أولي من شروط البناء الدرامي، ولكن غيابه عن الكثير من النصوص المسرحية المحلية يجعله مزية تحتسب لهذه المسرحية.

ومن المزايا الأخرى التي تستحق التنويه في مسرحية "أنا الملك أتيت" سياقها الدرامي الذي يتميز بالتوازن والإحكام، فمع أن المؤلف لم يقسم مسرحيته إلى فصول ومشاهد ـ كما جرت العادة ـ فإن المسرحية  تتألف عملياً من خمس لوحات تتطابق مع التقسيم الكلاسيكي المعروف الذي يشترط لكل عمل درامي عرضاً وعقدة وحلاً، ويتمثل "العرض" في المعاناة النفسية لبطل المسرحية. بينما تبدأ "العقدة" باكتشافه للعالم الخارجي وتصل إلى ذروتها عندما ينتبه إلى "الموت" كموجود حتمي وأزلي كان غائبا عن إدراكه بسبب إحاطته من قبل والده بكلّ الملذات المادية. أما مرحلة الحل فهي تتم ببلوغه العلم اللدني أو "النيرفانا" بعد معاناة طويلة ومقاساة لشهوات النفس وضراوة المادة وتنتهي باللقاء الذي يتم بين الحكيم الذي خرج ذات يوم هائما على وجهه ابتغاء المطلق، وبين والده الحاكم الذي يموت على ذراعه بعد أن يؤمن بما يقوله ولده بعدما وصل إلى ما ابتغاه مستدركا خطأه عندما حاول منعه من الذهاب نحو طريقه.

وقد أعطى المؤلف كلاً من هذه المراحل الثلاث في مسرحيته مداها الكافي دون ترهل أو ابتسار. ورغم أن المناجاة الذاتية التي انخرط فيها بطل المسرحية حين وجد نفسه وحيداً وجها لوجه أمام ضآلة الإنسان ومحدوديته كمادة فانية مقابل الروح اللانهائية أو المطلقة كانت طويلة إلى حد ما فلا مناص من القول أنها بلغت من الروعة والتوهج ومن التوتر والامتلاء ما جعلها ترتفع إلى مستوى التجربة الرهيبة التي عاشها بطل المسرحية. وأرجو ألا أكون مغالياً  إذا قلت إن ياسين سليماني اجترح في هذا الفصل مأثرة شعرية جديرة بالإعجاب.

و لابد لنا، ونحن نتحدث عن القيمة الفنية لهذا النص، من الإشارة، بنحو خاص، إلى اللغة الدرامية الرشيقة، المرنة، التي كتب بها. وليس كثيراً على كاتب كياسين سليماني أن يستخدم اللغة هذا  الاستخدام الحاذق، ولكن من دواعي الارتياح حقاً أن يوفق إلى هذا  الحد في الموازنة بين شاعرية اللغة وواقعيتها، فلا يأخذه الشعر بعيداً  عن بساطة الحديث اليومي وعفويته، ولا تسلبه الواقعية قدرته على الأداء الشعري الخالي من الابتذال….

ويمكن القول بأن لغة "أنا الملك أتيت"  هي تسفيه عملي لنمطين سائدين في الكتابة المسرحية: النمط الذي يلجأ إلى الجعجعة اللفظية واصطناع البلاغة ليوحي للقارئ والمتفرج بامتلاء فكري مزعوم، والنمط الآخر، الذي يقرن الواقعية بسوقية الفكر وفجاجة التعبير…

هكذا يمكننا  أن نقول أن ياسين سليماني صمم عمارته الدرامية الأولى تصميم المهندس الحاذق، ولكن الدراما ليست عمارة وحسب، بل هي ـ بالقدر نفسه ـ فكر وموقف.. فهل وفق سليماني في رسالته الفكرية توفيقه في صياغته الفنية، وهل جاء مضمون مسرحيته معادلاً لشكلها في القوة والإقناع؟

هنا أجدني اختلفت مع مؤلف "أنا الملك أتيت" اختلافاً جوهرياً، لأن "الرسالة" الأخلاقية التي تنطوي عليها هذه المسرحية مما يتعذر علي هضمه. و الواقع أن مما يضاعف الاهتمام بمسرحيته "أنا الملك أتيت" أنها تطرح للبحث قضية أخلاقية بالغة الخطورة، يمكن تلخيصها بالسؤال التالي:

ـ هل يتوجب على المرء أن يواجه مسؤولية اختياره الحر بصلابة، ولو كان ذلك يعني التضحية بالحياة ذاتها؟ (يظهر هذا في موقف البطل الذي يترك ولاية العهد ويلبس ثياب الرهبان ويأخذ سلّة يطلب الصدقة، هذه المفارقة التي تجعل من الأمير متسولا) وليس هذا ـ قطعاً ـ السؤال الجديد، فقد طرحه كتاب المسرح التراجيدي وأجابوا عليه مرات كثيرة، ولا أظننا نقع في تعميم تنقصه الدقة إذا ذهبنا إلى أن جوهر التراجيديا نفسه يتمثل ـ أساساً ـ في الصلابة الأخلاقية التي تجعل بعض الناس يتحملون مسؤولية الموقف الذي اتخذوه عن قناعة، وإن قادهم ذلك إلى التصادم مع المؤسسة السياسية (سلطة الأب الحاكم) أو سلطة المجتمع (أب وزوج يتخلى عن بيته) أو أي قوة أخرى من القوى الكبرى التي لا قبل للفرد  بمواجهتها. ويحسن في هذا الصدد أن نعود بالذاكرة إلى انتيغونا بطلة مسرحية سوفوكليس الشهيرة، فقد حكم عليها هي الأخرى  بالدفن حية، فبطل مسرحية ياسين سليماني لم يدفن حيّا، ولكنه قام بدفن حياته ابنا وزوجا وأبا،وأميرا ذا سلطة وشابا له هوسه بالحياة وللحياة هوسها به، تقبلت أنتيغونا مصيرها الرهيب بشجاعة لأنه كان من اختيارها أصلاً.لقد أقدمت  انتيغونا على دفن  جثة أخيها بولنكس وهي تعلم جيداً أنها تتحدى  بذلك سلطة الطاغية كريون، الذي أمر بترك الجثة في العراء، وعندما قبض عليها وجيء بها إلى الحاكم الذي تحدت إرادته، لم تحاول التنصل من فعلتها ولم تلتمس الصفح، فقد كانت مقتنعة بأنها أدت واجبها، وأن عليها أن تتحمل كل مايترتب على ذلك من نتائج.

ولم تكن انتيغونا أقل شغفاً بالحياة من بطل مسرحية ياسين سليماني، فقد كانت شابة في مقتبل العمر ولها خطيب يحبها وتحبه، ولكنها كانت تواجه امتحاناً مأساوياً: كان عليها أن تختار بين التخلي عن واجبها الأخلاقي وبين الموت. وقد اختارت الأخير لأنها كانت من ذلك المعدن الإنساني النبيل الذي يؤثر الموت على السقوط.

ولم تكن انتيغونا تجهل أن من الناس من يغتفر السقوط الأخلاقي ويلتمس له المبررات، وهي لذلك تقول لأختها الخائفة اسمينا:

ـ كان خيارك أن تعيشي، وكان خياري أن أموت.. وكان لحكمتك عالم يؤيدها، ولحكمتي عالم آخر..

على هذا النحو أجاب سوفوكليس، بلسان انتيغونا، عن هذا السؤال الخطير، وهكذا كان منطق التراجيديا عموماً، ولمنطق مؤلف أنا الملك أتيت الرأي ذاته، لكن يضاف إليه أنه أقرب إلى روح عصرنا المفتقر إلى المثل العليا، وهو معالجة جيّدة و ردّ مثالي على هذا الافتقار ،فهو يجبر بطله أن يكون وفيّاً لالتزامه الأخلاقي لمجرد أن تعلقه  بفكرته ونهمه إلى ملذاتها الروحية أقوى عنده من كل دواعي الملذات الأخرى.

وينبغي الاعتراف أن منطق بطل المسرحية يبدو مقنعاً للوهلة الأولى… فما الذي يدعو إنساناً عاقلاً إلى البقاء في الحياة المادية بين أفخاذ العاهرات وأمام موائد الآكال والمشارب بينما القلب يشعر بخواء  فشل في ملئه وهو في عيشته الأولى ثم يعيش رغبة جارفة للخروج من بوتقة هذا السجن/الجسد، الذي كالنار كلما أطعمته ازداد جوعا.

إنّ قليلاً من التأمل في هذا النص المسرحي الجيد يقودنا إلى اكتشاف شيء من الزيف في هذا المنطق، فبطل المسرحية لم يتمرد على مشيئة ظالمة فرضت عليه فرضاً وحسب، وإنما تنصل أيضا من قرار حر اتخذه بملء إرادته، غير جاهل بما يترتب عليه من تبعات. ومما له دلالته أن صاحبنا لم يفكر قط في التراجع عن قراره رغم تهديد السلطة الحاكمة (الحاكم الذي هو الوالد في الوقت نفسه) نقرأ ذلك في اللوحة الأولى:

الحاكم: ظننتك واعيا بمكانتك أيها الأمير... ولكنّ الذي فعلته عند ميلاد ابنك لا أفهم منه إلا عصيانا وتمرّدا... أنا لم أعطك ولاية العهد لتتخذها هزؤا... وغيابك عن الحفل التي أقمناه سبب لنا حرجا مفرطا ... لم أعتقد أنّ طيش الشباب قد حلّ بك بعدما غدوتَ في مكانتك هذه...ولاية العهد ليست ملهاة تلهو بها وترميها متى شئت...(ص 24).....

الحاكم: لن أجادلك في هذا كثيرا... ولكني أطلب إليك أمرا لا أقبل بغير تنفيذه... أصلح ما أفسدته... اهتم بمكانتك في الحكم ولا تنسَ مقامك زوجا ووالدا...(ص 24)

ولم يتراجع رغم السلطة العاطفية التي يمارسها مقام الزوجية والأبوة

الأمير: يا سيدتي... ألستِ تؤمنين بأن السعادة الحقة في الفضيلة وفي المحبة                ونكران الذات وليست في اللذة وإشباع الشهوات؟               

الأميرة (ساخرة): بل لنفسك قل هذا الكلام يا أمير الزمان... فأنت الذي ما                  أحببتني ...وما أحببتَ ولدنا...(غاضبة) إنني صبرت على عواطفك المتثلجة صبرا كتم أنفاس الحياة عني..ولكنني..أؤكد لك أيها الأمير..لن أسمح أن يعيش راهولا تعاستي. (ص 22)

إنّ هذا يعني، ببساطة، أن للمرء أن يلتزم عندما يكون الالتزام مصدر منفعة ومتعة، وله بعد ذلك أن يتنكر لالتزامه هذا إذا وجد فيه ما يهدد سلامته أو ينتقص من متعته أو على الأقل يهد راحته.وما من فلسفة أخلاقية تقر مثل هذا المنطق.نعم، قد يرى البعض في مسلك بطل المسرحية تبريراً مشروعاً، لرفض الشخصية الأساسية الاستمرار في الحياة التي لم يخترها هو بإرادته ولكنه وجد نفسه فيها واختياره الابتعاد والتخلي عن كل مهمة أو واجب (بالمعنى الأخلاقي للكلمة) ابتغاء هدف أكثر نبلا وقد يجد القارئ فيه دعوة إلى اعتناق المذهب الروحاني في مقابل المادة ولا يشق علي فهم أي من هذين الدافعين، ولكن ما لا أفهمه ولا أستسيغه قطعاً هو عجز بطل ياسين سليماني عن الشعور بصعوبة المأزق الأخلاقي الذي وجد فيه نفسه. فبطل المسرحية لا يحس ولو لحظة  واحدة بأنه قد خان أمانة كبيرة ألقيت على عاتقه، وهو لا يعاني أي تمزق داخلي بين واجبه الأخلاقي من جهة وتشبثه بالحياة الجديدة من جهة أخرى، بل يبدو منسجماً كل الانسجام معها، كما أنه –وهذا مناط الكلام كله- اختار أن يرتدّ إلى حياة الحرية الشخصية والاتكال على الغير في كل مصادر العيش على أن يتولى مسؤوليته كولي للعهد وكزوج ووالد.

الشخصية الرئيسية في أنا الملك أتيت سلبية بكل ما تعنيه هذه الكلمة من معنى، قد تبدو متوهجة، ذات أبعاد إنسانية، لكنها تخفي من وراء حديثها الباعث على الشجن رغبة قاتلة في التخلص من المسؤولية، وحسبنا هذا لنؤكد على انعدام الضمير الأخلاقي لدى الشخصية.

ومهما يكن من أمر، فإن ما حققه ياسين سليماني على مستوى البناء الفني أمر جدير بكل ثناء وهو بدء انتعاش للدراما المحلية نأمل  أن يتواصل ويتطور. وقد كنا نتمنى أن يأخذ هذا النص الجميل صورته المناسبة على منصة المسرح، وأتمنى لتمنياتنا هذه أن تمنّى بالنجاح، لأن الإخراج المسرحي ضروري للتعبير عن مستوى النص وإيصاله لعين المتلقّي، إذ لا تكتمل متعة المسرحية إلاّ بوجودها على الخشبة.